• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين الأمل والعمل

حسن الصفار

بين الأمل والعمل

◄هناك ثلاثة عوالم تحيط بشخصية الإنسان وتتفاوت من حيث التأثير على واقع حياته، وهي:

·      عالم الآمال والتطلعات.

·      عالم الأفكار والمعتقدات.

·      عالم السلوك والأعمال.

 

الآمال والتطلعات:

من إشراقات نور العقل الذي اختص الله تعالى به الإنسان، القدرة على التخيل والتطلع، فالواقع الذي يعيشه الإنسان لا يشكل سقفاً لأشعة تفكيره، بل إنّ ذهنه يحلّق بعيداً متجاوزاً معطيات الواقع المعاش.

لذا يمتاز الإنسان بحالة الأمل والتمني، وهو وليدة مَلكة الخيال، فحينما يتخيل شيئاً يتمناه، ويأمل الوصول إليه ويتطلع لتحقيقه.

 وأكثر منجزات الإنسان العلمية ومكاسبه الحضارية، كانت في بدايتها خيالات وأحلام، وآمال وتطلعات، حتى أصبح عندنا لون من ألوان الأدب الإبداعي، يطلق عليه قصص الخيال العلمي، حيث ينطلق الفكر لدى بعض الأدباء محلقاً في سماء الخيال والتمني، لينسج أحداثاً وأوضاعاً تتخطى الواقع المعاش، وليرسم صوراً ولوحات تتجاوز الإمكانات المتاحة، ولكنها قد تتحقق فيما بعد وتصبح ظواهر حية مألوفة.

إنّ ارتياد الفضاء والسفر إلى القمر، الذي أنجره  إنسان القرن العشرين، كان حلماً وخيالاً داعب عقل الإنسان من القرن الثاني للميلاد، حيث كتب (لوسيان) السوري كتاباً باللغة اليونانية بعنوان "قصة حقيقية" كما كتب فيما بعد الفرنسي (سيرانودي برجراك) في القرن السابع عشر متخيلاً رجالاً يطيرون في الفضاء في سفن وصواريخ متعددة الطوابق، وكتب الفلكي الألماني (يوهانس كيبلر) قصة "رحلة إلى القمر". ومن عجيب ما يذكر أنّ المخابرات الأمريكية أصيبت بالشك والحيرة حين نشر الكاتب الأمريكي (كارتميل) عام 1944م قصته "الموعد النهائي" التي تشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت تجد في ذلك الوقت في صناعة القنبلة الذرية في جو من السرية التامة، وثبت من التحقيقات التي أجرتها المخابرات الأمريكية أنّ الكاتب لم يطّلع على هذه السر، وإنما كان ذلك من بنات أفكاره وأعمال خياله.

 وعن المدى الواسع لتطلعات الإنسان وآماله، يقول الإمام علي ابن أبي طالب (ع):

"الأمل لا غاية له".

"الآمال لا تنتهي".

"لا تخلو النفس من الأمل حتى تدخل في الأجل".

إنّ أهمية الأمل والتطلع عند الإنسان تتحقق عندما يكون وقوداً للحركة، وطاقة للسعي، وعندما يخلق حالة الاندفاع نحو العمل، وبنفس القدر يكون مؤثراً في حياة الإنسان وفاعلاً في واقعه.

أما إذا تحوّل الأمل والتطلع إلى تمنيات فارغة، وتخيلات ساذجة، يكتفي الإنسان بالتلذذ باجترار صورها في مخيلته، والأنس بتكرارها على مسرح ذهنه، لن تكون لذلك أي تأثير على واقعه، ولن يلامس شيئاً من أوضاع حياته.

فمجرد التمني لشيء دون السعي نحوه لا يعطيك ذرة من الحقّ في الوصول إليه، يقول تعالى: (أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى) (النجم/ 24).

ذلك أنّ السعي وحده هو طريق الإنجاز، يقول تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41).

 

الأفكار والمعتقدات:

المعتقدات الدينية للإنسان تعني الإجابات التي يتوصل إليها عن التساؤلات التي ترتسم أمامه عن وجوده ومصيره ومساره في هذه الحياة.

 وقد تكون تلك الإجابات - المعتقدات- نتيجة بحث وتفكير ذاتي من الإنسان، أو تكون نتيجة تقليد واتباع ومحاكاة.

بالطبع تتفاوت المعتقدات من حيث إصابتها للحقيقة والواقع أو مفارقتها لذلك، وفي درجة الإصابة أو المخالفة.

وإذا كان الوصول إلى العقيدة الصحيحة ضرورياً ومهماً للإنسان، فإنّ ما يهمنا في هذا البحث، هو رصد مدى تأثير تلك العقيدة الصحيحة على واقع حياة الإنسان وأوضاعه.

فالإيمان بعقيدة صحيحة لا يعني إنتاج واقع صحيح دائما وأبداً، إلّا بمقدار ما تنعكس تلك العقيدة على سلوك الإنسان وعلمه، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الإيمان يقرنه غالباً بالعمل الصالح، للتأكيد على مصداقية الإيمان وأثره في حياة الإنسان.

يقول تعالى:

(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة/ 69).

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) (الكهف/ 88).

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد/ 29).

ونجد هذا التلازم بين الإيمان والعمل مكرراً في أكثير من سبعين آية في القرآن الكريم، لكي يؤكد حقيقة هامة، هي ضرورة انعكاس الإيمان عملياً على حياة الإنسان وسلوكه، وأنّه لا قيمة له إذا كان مجرد نظريات حبيسة في الذهن، أو قناعات مختزنه في النفس.

ولا يصح أبداً أن يتوقع الإنسان المؤمن أن تشفع له عقيدته الصحيحة في ترتيب شؤون حياته، وفي أخذ موقع متقدم على الآخرين، دون أن يكون مستحقاً لذلك بكفاءته وسعيه. ففرص التقدم في الحياة متاحة للجميع، والسنن الإلهية الحاكمة لا تقبل المحاباة ولا المحسوبيات. إنّ القدرة على السباحة في البحر تنجي الإنسان من الغرق، مؤمناً كان أو كافراً، فإذا لم يتقن المؤمن السباحة فإنّه سيغرق إنفاذاً لسنة الله، ولا يشفع له إيمان وتدينه في النجاة، وإذا كان الكافر قادراً على السباحة فسيصل إلى ساحل البحر بسلام رغم كفره، يقول تعالى: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء/ 20).

فعطاء الله تعالى في الدنيا ليس خاصاً بالمؤمنين، وإنما هو مبذول لهم وللكافرين على أحد، بسبب بطلان عقيدته أو مذهبه.

ويخاطب الإمام علي ابن طالب (ع) مَن يراهنون على قوة الفكر والخطاب، مع ضعفهم في مجال العمل والحركة بقوله: "إنّكم إلى إعراب الأعمال أحوج منكم إلى إعراب الأقوال".

ويقول أيضاً (ع): "الشريف عند الله سبحانه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال".

وفي معركة أُحد نجد مصداقاً جلياً لهذه المعادلة الحياتية، والسنة الإلهية فمع أنّ المسلمين هم أصحاب الدين الصحيح، والعقيدة الصادقة، وكان فيهم رسول الله (ص) وهو أشرف خلق الله، وأحبهم إليه، إلّا أنّ ذلك لم يشفع لهم في الانتصار على العدو الكافر، ذي العقيدة الفاسدة، حينما قصّروا في العمل ولم يلتزموا بخطة المعركة، حيث نزل الرماة من أعلى الجبل وأعطوا للعدو فرصة الالتفاف عليهم.

 

الأعمال والسلوك:

إنّ سعي الإنسان هو الذي يصنع واقعه في هذه الحياة، وإنّ عمله ونشاطه هو الذي يحدد درجة مستواه الحياتي. وإذا ما رأينا الناس تتفاوت مستوياتهم، كأفراد وكأُمم ومجتمعات، فهناك مَن يصنف ضمن فلك العالم المتقدم، وهناك مَن يرزح تحت وطأة التخلف، فلا بد أن نبحث عن سبب هذا التفاوت في المجال السلوكي العملي.

فالنجاح والفشل والتقديم والتأخر، ليس نتيجة لتفاوت مستوى التطلعات والآمال، ولا هو أثر حتمي للمعتقدات والأفكار المجردة، وإنما هو إفراز طبيعي لمستوى العمل والسعي والنشاط.

ويقرر القرآن الحكيم، في آيتين كريمتين، أنّ عمل الإنسان هو الذي يحدد درجته ومستواه في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 132).

ويقول تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأحقاف/ 19).

إنّ درجة ومستوى كلّ إنسان، فرداً كان أو مجتمعاً، لا تتحدد من وحي تخيلاته وآماله وتطلعاته، ولا من خلال أفكاره ومعتقداته وإنما (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (الأحقاف/ 19) أي أنّ درجته تتحدد عبر سعيه وعمله.

وعلى الإنسان أن يثق بقيمة العمل وجدواه، فالإدارة الإلهية للكون حكيمة مهيمنة عادله، لا تسمح بانفلات ذرة من الجهد والنشاط خارج المعادلات والسنن. ذلك أنّ ضياع شيء من الجهد والعمل، إنما يحدث إما خطأً بسبب الغفلة وعدم الانتباه، وهذا منفي حتماً عن الله تعال: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وإما عمداً وذلك ظلم وبخس يتنزه الله تعالى عنه:(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

إنّ البعض من الناس، بسبب الجهل، أو بدافع الكسل، يتوانى عن العمل والحركة، تشكيكاً منه في جدوى العمل وتأثيره، حيث يصاحب بحالة من الإحباط والعزوف عن الفاعلية. لهؤلاء يتوجه القرآن الكريم مؤكداً خطأ تصوراتهم، ومقرراً حتمية تأثير أي ذرة من العمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة خيراً كان أو شراً.

يقول تعالى: (لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران/ 195).

يقول تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). ►

 

المصدر: كتاب العمل والفاعلية طريق التقدم

ارسال التعليق

Top