• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تربية إحترام الوقت

د. مدرن إبراهيم

تربية إحترام الوقت

◄أن تحيا يعني أن تشعر بنبضات الزمن، تلك النبضات التي يظهر وقعها في كل التغيُّرات التي تجري في عالمنا الداخلي (النفسي) وعالمنا الخارجي (عالم الأشياء والوقائع) على السواء.
والزمن نسبي، كما هو معلوم، فكل عالم له زمن محلي خاص به، بل إنّنا في عالمنا هذا نجد أزمنة عدّة: زمن طبيعي تجري في رحابه الظواهر الطبيعية وزمن بيولوجي يتعلق بذات الإنسان ككائن عضوي يتكوّن من خلايا حياته، ومن نفسي داخلي يتعلق بحياتنا النفسية ومشاعرنا الداخلية، وزمن تاريخي يتعلق بكل ما يصنعه الإنسان في شتى الحالات الإجتماعية، عبر مسيرته التاريخية سواء كان فرداً أو جماعة، وهذا الصنف الأخير هو الذي يمسّ الإنسان مسّاً أعمق من غيره، ذلك لأن له علاقة مباشرة بحياته أي بمنجزاته وبطموحاته وبقيمه التي يختارها ويؤسِّس عليها سلوكه، وهو غالباً ما يبدأ الوعي به فور أن يشعر الكائن بالتغيُّرات التي تطرأ على محيطه الذي يعيش فيه وخصوصاً حين يبدأ في التمييز بين ذاته كوجود مستقل وبين موضوعات العالم الخارجي التي تؤثر فيها هذه الذرات وتتعامل معها. ويتفق علماء النفس على أن هذا الوعي نبدأ في اكتسابه منذ مراحل الطفولة المبكرة وينمو حسب تعامل ذواتنا مع المحيط ثمّ ينتهي بموت الفرد. فما دور هذا الوعي بالزمن؟ وما مدى تأثيره في تفاعلنا مع العالم الذي نعيشه؟

- مرحلتان
إنّنا إذا أخذنا معياراً نفعياً لقياس هذا الوعي، تجلّت – في نظرنا – مرحلتان أساسيتان يمرّ من خلالهما الإنسان:
المرحلة الأولى: وهي التي تبدأ منذ الولادة وتنتهي عند البلوغ، يكون الوعي فيها شبه منعدم ونعني بذلك عدم شعور الطفل بقيمة الزمن وأهميّته. وهذا – بالطبع – راجع لعدم نضج جهازه العضوي من جهة، ولعدم إكتسابه خبرات إجتماعية من جهة أخرى، ولذلك فإدراك الزمن في أبعاده الثلاثة (حاضر، ماض، مستقبل)، والعلاقات التي تربط بينها يكون غير مكتمل، بل يكون فقط عبارة عن إحساس لا يؤدي بعد إلى ما يمكن أن نُسمِّيه بالقلق أو التوتر النفسي الذي يدفع الكائن الإنساني غلى القيام بافعال وردود أفعال تجاه مثيرات تمسّ شخصيته ومقامه.
المرحلة الثانية: وهي التي تبدأ مع سن النضج وتستمر حتى الشيخوخة مع ملاحظة أن تفاعلاتها تقل حدّتها شيئاً فشيئاً مع الزمن.
ففي هذه المرحلة يبدأ الكائن في الوعي بالزمن، وهذا – بالطبع – يرجع إلى أسباب عدّة، منها النمو الإجتماعي والنمو الفكري وخصوصاً التغيُّرات العضوية والفيزيولوجية التي تلحق بنية الإنسان: فإستيقاظ الغريزة الجنسية مثلاً يعتبر عاملاً مهماً في إدراك الزمن والوعي به، ولذلك اعتبرت هذه المرحلة من أدق وأحرج المراحل التي يمرّ بها الإنسان في عمره، لأن ردود الفعل فيها غالباً ما تكون غير ناضجة وتتسم بالإندفاعية وعدم الرويّة، ذلك لأنّ الفرد يرغب في الإستفادة من الزمن بأقصر الطرق وأيسرها، بل وبأسرعها، كما سبق القول، الشيء الذي يؤدِّي به غالباً إلى السقوط في متاهات بل في متاعب ومشاكل (عُقد نفسية، إحباطات، أمراض نفسية، فشل مدرسي، إنحراف، جرائم... إلخ)، وخصوصاً إذا لم يكن المراهق مهيأ تربوياً لهذه المرحلة، وذلك حتى يتمكّن من إدراك عنصر الزمن وإقامة حساب له وتصريفه أحسن تصريف.
وهنا – بالطبع – يكمن في دور التربية التي يتلقاها الطفل في المدرسة والبيت والتي تحاول أن تنظم أوقاته، وذلك بتعويده منذ بداية تربيته على إدراك قيمة الزمن وبضرورة إعطاء الأسبقية لما هو أهم وأفيد بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، هذا دون إنكار دور التربية العامة التي من المفروض أن تلقن للطفل منذ نعومة أظفاره: تربية إجتماعية وأخلاقية ودينية ووجدانية... إلخ، والتي تحاول أن توجِّه هذه الإندفاعية نحو ما ينفع الفرد ومجتمعه في الوقت نفسه.
إذن أفلا يمكن أن نتحدّث، والحال هذه، عن نمط آخر من التربية يمكن أن نصطلح عليه بـ(التربية الزمنية) أو التربية الوقتية؟

- حرب الوقت
إنّ مسألة إكساب الطفل هذا الوعي بالزمن لا يمكن أن تؤتي أكلها إلا إذا شاركت الأسرة المدرسة وسهرت على بناء هذا الجانب العام الذي يعتبر أساساً مهمّاً في بناء المجتمع، وخصوصاً في مجتمعاتنا النامية التي ما أحوجها إلى (تربية وقتية) تجعل الفرد يدرك أنّ الوقت رأسمال وجب إستغلاله وترشيده ترشيداً حسناً.
وإذا كان عصرنا يشهد الآن ثورة في ميدان الزمن، إن صحّ هذا التعبير، وإذا كان الوقت قد أصبح بهذه القيمة، فما العمل بالنسبة إلينا، نحن شعوب العالم الثالث؟ هل يلزمنا الخضوع لهذه الوتيرة السريعة التي تلفّ العالم الآن؟ أم يتوجّب علينا السير وفقاً لخطط وقتية تقليدية وحاجياتنا وإمكاناتنا تنبع من ظروفنا؟ أم نبحث بدلاً من هذا وذاك عن خطة ثالثة توفيقية؟
لن أجيب عن هذا التساؤل لأنِّي بدوري أطرحه على المهتمين والباحثين في شؤون المجتمعات وتطوراتها وحركياتها، ولكن كيفما كان الحال، فإنّه لابدّ لنا أوّلاً وقبل كل شيء من أن نهتم بعنصر الوقت وأن ننشئ أبناءنا على الوعي به وبقيمته.
هنا إذاً يبرز دور التربية الوقتية التي نقصد بها تلك العملية التي تقوم على إكساب الفرد وعياً بالزمن وبأهميّته، وذلك بتلقينه الوسائل النظرية والعملية الكافية لتنظيم أوقاته وتصريفها تصريفاً إيجابياً وفق أهداف وغايات تحدِّدها فلسفة المجتمع وتخطيطه التنموي، وذلك حتى يكون مهيّأ لإستقبال ظروف مجتمعه والمساهمة في حل مشاكله أو على الأقل المساهمة في بحثها ودراستها. وحتى يقدر هذا الفرد وقته، علينا أن نضبط أوقاته منذ نعومة أظفاره ونسهر على هذه العملية بكامل المسؤولية: إحترام أوقات الأكل والنوم والوقت الحر (لعب، مطالعة، فسح)، وقت الدراسة، المواعيد... إلخ. إضافة إلى هذا، هناك محاولة الإستفادة من الوسائل التي تستجد في عالم التكنولوجيا والتي تعينه على التعلُّم الذاتي والبحث عن المعلومات من خلال الإستعانة – مثلاً – بالوسائط متعددة الإتصال: كمبيوتر، إنترنت... إلخ، وذلك حتى يتمكّن من مسايرة تضخم المعلومات وتراكم المعارف بسرعة أكثر.
وإذا كنّا نعيش بالفعل في عصر تسيطر فيه التكنولوجيا وآلياتها التي تجتاح بيوتنا لتتعايش مع عاداتنا وتقاليدنا جنباً إلى جنب، إن لم نقل إنّها اصبحت تقضي على بعضها لتحل محلها، فما أحوجنا في هذا الظرف إلى خطة ومنهج يتعلقان بترشيد هذه العملة التي هي الوقت.
ولا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في حياتنا اليوم، خصوصاً كعامل من عوامل النمو والتطور. ولكن من جهة أخرى، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنّه لا يمكن لهذه الوسائل أن تؤدِّي دورها إلا بوساطة عقلية – ذهنية تحسب للزمن حساباً وتقدِّره تقديراً، إذ من دون هذه العقلية لا يمكن أن ننتظر النتائج المرجوّة ولو كنا نملك ما نملك من القدرات العلمية والتكنولوجية المتطورة.
فَمَن منّا يستطيع أن ينكر أنّ هناك ثروات مهمة وطاقات لا يُستهان بها تهدر وتذهب سدى في مجتمعاتنا لا لسبب إلا لعدم تقدير أبنائها لعامل الوقت. وحتى نتلافى هذا، يتوجّب أن ننشئ أجيالنا المستقبلية على إدراك قيمة الزمن والوعي بخطورته، ذلك لأنّ الحرب الطويلة التي ننتظرها غداً هي حرب ضدّ الوقت.►

ارسال التعليق

Top