• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة التعامل مع الحزن

عبدالمنعم شحاتة

ثقافة التعامل مع الحزن
مقدمة.. قدر لكل فرد أن يواجه موت شخص حميم له (أب، أم، زوجة، ابن، صديق) في فترة ما من حياته، قد تكون مرت، وقد تكون منتظرة. وهذه المواجهة مؤلمة، وتعد أكثر مآسي الحياة وأشقها على النفس، وقد تؤدي إلى مخاطر كثيرة، كإصابة المَكْرُب (من فقد عزيز) بأعراض مرضية (بدنية أو نفسية) مختلفة، وقد تصل خطورتها إلى وفاته أو محاولته الانتحار. هذا بالإضافة إلى اللاتوافق النفسي الاجتماعي الذي يعانيه المكروب فترة طويلة بعد وفاة من يحب، قد تصل إلى عدة سنوات، فوفاة شخص عزيز حدث: أ- شديد الشيوع، فلا ينجو منه أحد. ب- مفاجئ يأتي بغته، فلا يتهيأ – انفعالياً – لاستقباله أحد. ج- يترتب عليه مدى واسع من الآثار الجسمية والنفسية والاجتماعية، وتمتد معاناة المكروب من هذه الآثار لشهور، وربما لسنوات[1]. لكل ما سبق فإن تناول الحزن بالدراسة أمر شديد الأهمية، فمن خلال هذه الدراسة يتم نشر ثقافة التعامل مع الحزن بين أفراد الجمهور العام، وكذلك يتم تبصيرهم بالقواعد المنظمة لعملية التخفف من الحزن بشكل يمكنهم من: أ‌-     اتباع السبل الملائمة للتغلب على أحزانهم الخاصة. ب‌-معرفة الأساليب الأكثر فعالية لمساعدة الآخرين في التخفف من أحزانهم. جـ- تجنب ما ينجم عن المحاولات الذاتية التلقائية، أو تلك التي يقوم بها الآخرون، من أثار سلبية قد تعوق عملية التخفف. ونظراً لأهمية هذا النوع من الدراسات، ونظراً لما تحققه من مزايا، يتزايد اهتمام علماء النفس الغربيين بها. في الوقت الذي لم يلتفت – في حدود المعلومات المتاحة لنا – علماء النفس المصريون والعرب إلى هذا الموضوع، على الرغم من تناول الفلاسفة المسلمين له، والذي لم يقتصر على مظاهره وأسبابه كما فعل ابن سينا (ت: 428هـ)، وأثاره كحصر أبي الفرج الجوزي (ت: 597هـ) للآثار الانفعالية المترتبة على موت محبوب، وإنما اهتموا بكيفية التغلب عليه، حيث وضح أبو إسحاق الكدي (ت: 256هـ) طرق التغلب على الحزن الناتج عن فقد محبوب وفوت مطلوب، وأشار أبو زيد البلخي (ت: 322هـ) إلى أن تسكين الجزع – فرط الحزن وشدته – يكون بحيلتين: خارجية كوعظ الواعظين، وداخلية تتمثل في ترويض النفس على تقبل الأمر، كما وضع ابن ناصر الدين الدمشقي (ت: 777هـ) كتاباً لهذا الغرض ضمنه مجموعة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار الصحابة والتابعين والإرشادات التي تعين على تحمل الحزن على وفاة من نحب. ومع ذلك لم يتناول المحدثون من علماء النفس العرب هذا الموضوع، والتساؤلات التي تطرح نفسها على ذهن القارئ وتستحثه للبحث عن إجابة لها هي: 1- ما هي عواقب المبالغة في الحزن (الأسى)؟ 2- ما هي العوامل التي تزيد شدة الحزن؟ 3- متى وكيف يتم التخفف من الحزن؟   - أوّلاً، عواقب الأسى: 1- الاكتئاب: تؤكد البحوث أن وفاة شخص عزيز تولد شعوراً بالاكتئاب؛ إذ يعاني ثلث الأرملات من الاكتئاب الشديد لمدة تصل إلى شهرين بعد وفاة أزواجهنّ، وأن خمسهنّ يعانين منه لمدة عام، وتشير البحوث إلى أن وفاة ابن تحدث أسى أكثر شدة – وبالتالي عواقب أكثر ألماً – بالمقارنة بوفاة زوج أو أب. 2- ترتبط وفاة شخص عزيز بزيادة معدل الشكاوى البدنية (مثل: آلام المعدة والظهر وفقد الشهية وعسر الهضم وعدم انتظام ضربات القلب والأرق). والنفسية (اختلال الإحساس بالواقع والخداع الحسي والإحساس بالفشل واللاتوافق النفسي والاجتماعي ومحاولة الانتحار). 3- وكل هذا يؤدي إلى ضعف البناء الاجتماعي ويحدث مزيداً من المشكلات التوافقية، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ومع ذلك فإن للانفعال الأسي مزاياه؛ إذ يمكّن الفرد من إصدار سلوك لا يجرؤ عليه في الظروف العادية مثل الإفصاح عن مشاعره بشكل علني أو الغياب عن العمل (الدراسة) أو تلقي العون من الآخرين، وإن كانت لهذا الانفعال حدوده أو قيوده، إذ يجب أن تناسب شدته الموقف، فلا تكون ضعيفة جدّاً أو مبالغ فيها، فعلى سبيل المثال يؤدي عدم حزن الزوجة الحزن المناسب (كما يتوقعه الآخرون) لوفاة زوجها إلى التشكيك في وفائها له، كما يؤدى مبالغتها في الحزن، أو إطالة مدته أكثر مما يلزم، إلى اعتبارها "حالة هيسترية" وبالإضافة إلى مزايا الأسى وحدوده، فإن له التزامات، تختلف من مجمتع لآخر، ومن عمر – للمكروب – لآخر، ومن فجيعة – وفاة زوج أم ابن أم جار – لأخرى، فلكل من الحالات السابقة ضروب سلوكية معينة تعارف عليها المجتمع.   - ثانياً: العوامل التي تسهم في تحديد حجم الأسى، ارتفاعاً وانخفاضاً: تعد شدة الحزن محصلة التفاعل بين فئات ثلاث من العوامل، تتصل الفئة الأولى منها بالمكروب (الذي توفى له عزيز) وتتعلق الثانية بالسياق الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويمثل سياق موقف الوفاة (ظروفها وكيفية العلم بها) الفئة الثالثة، وفيما يلي عرض موجز للعوامل التي تؤكد البحوث أنها الأكثر تأثيراً في تحديد حجم الأسى: أ- عوامل المكروب: 1- العمر: الأكبر سنّاً عند الوفاة أكثر تدهوراً صحياً. وهذا ليس صادقاً في كل الأحوال، ففي إحدى الدراسات التي قارنت بين أرامل شباب ومن متوسطي العمل ومن كبار السن، تبين أنّ الأرامل الشباب أكثر تأثراً، خصوصاً إذا كانت وفاة القرين مفاجئة وبدون مقدمات، وتظهر دراسة أخرى أنّ العمر ليس المؤثر وحده، وأن هناك عوامل تحدد حجم تأثيره منها: المدة المنقضية بعد الوفاة، فالأصغر سنّاً أكثر تأثراً على المدى القريب، بينما الأكبر سناً أكثر تأثراً على مدى البعيد؛ ربما لأن صغار السن يتلقون العون أكثر، أو تجدد أملهم في المستقبل، كما أنّ الأصغر سناً يعانون أكثر من مشكلات نفسية، بينما الأكبر سنّاً يعانون أكثر من مشكلات بدنية ومن المحتمل أنهم يستبدلون الأسى، كاستجابة انفعالية نفسية لا يتوقع المجتمع استمرار ظهورها من الكبار، بأعراض بدنية يمكن قبولها. ويبدو أن كبار السن بحاجة للتشجيع من خلال علاقات تستوعبهم في المجتمع ويبدو أيضاً أنّ الفروق بين كبار السن وصغاره من المكروبين ليست في شدة الأسى وحده ولكن في أنماط استجابية أخرى. 2- النوع: قليلة هي الدراسات التي تناولت الفروق بين النوعين في تحمل الفجيعة، ويعتقد بعض الباحثين أنّ الأرامل النساء أكثر معاناة صحيّاً بالمقارنة بالذكور، بينما يعتبر آخرون الذكور الأرامل يواجهون مشكلات أكثر وأكبر في حين يذهب فريق ثالث إلى عدم وجود فروق بينهما، وقد تمت هذه المقارنات على مقاييس لمعدلات وفيات الزوجات اللاحقة لوفاة الزوج والأعراض البدنية والاكتئاب والاضطرابات الانفعالية والجوانب الإيجابية مثل إعادة الزواج. وقد تبين أنّ الرجال أقل معاناة من النساء، وإن كان النوعان يذكران أعراضاً مختلفة، فالرجال أقل معاناة للاضطرابات الانفعالية وخصوصاً الاكتئاب والأعراض العصبية، وتكشف الدراسات التتبعية أنّه بعد عامين إلى أربعة أعوام من الوفاة لا تظهر الأرامل النساء فروقاً في درجة الاكتئاب بالمقارنة بالمتزوجات من نفس العمر، بينما أظهر الرجال الأرامل درجة أعلى من الاكتئاب بالمقارنة بالمتزوجين من نفس العمر، والرجال الأرامل أكثر معاناة لأنّهم أكثر اعتماداً على زوجاتهم في العلاقات الاجتماعية، وأقل خبرة في تكوين علاقات جديدة، وأقل مهارة في مواقف التفاعل الاجتماعي، وفي المقابل، فإنّ الأرملات أكثر قدرة على طلب عون الآخرين مما ييسر عليهنّ وقع الفجيعة، فتقل فترة معاناتهن منها. وقد لوحظ – أيضاً – أنّ الأُم تظهر حزناً أشد على وفاة الابن مقارنة بالأب، وقد يرجع ذلك لارتباط لأم بالابن أكثر، وربما لانشغال الأب في العمل معظم يومه، وربما لبدء علاقة الأُم بطفلها مبكراً جدّاً، وشعورها أنها بفقده تفقد جزءاً من نفسها. 3- المكانة الاقتصادية والاجتماعية: تؤدي وفاة الزوج إلى ضعف دخل الأسرة وانخفاض مكانتها مما يزيد من الآلام المصاحبة للوفاة؛ حتى أنّ البعض يقول إنّ الآثار السلبية التي نعزوها إلى الترمل ليست نتيجة الترمل بقدر ما هي نتاج حالة الأرملة الاقتصادية والتي تزيد من قلقها ومشكلاتها الصحية، إلا أن بعض الباحثين يرى أنّ الدخل المنخفض لا يسهم مباشرة في عواقب الأسى، لكنه عامل مهيىء لها. 4- سمات شخصية المكروب: يتحدث الباحثون عن نمط من الأشخاص أكثر تهيئاً للفجيعة وللأسى الناتج عنها ويتسم أفراده بأنهم خائفون، متوترون، وجسون، غير مستقرين انفعالياً. 5- الحالة الصحية قبل الفجيعة: تظهر الآثار الحادة لوفاة محبوب لدى أشخاص يعانون مسبقاً من أعراض مرضية، فالذين حاولوا الانتحار بعد وفاة عزيز عليهم، كانوا يعالجون قبل الوفاة من اضطرابات نفسية. ب- السياق الاجتماعي: 1- الأزمات المتزامنة: تكشف البحوث أن تعدد الوفيات بالنسبة للمكروب الواحد يزيد شدة أساه، كذلك تزامن الوفاة مع أزمة مالية أو مهنية أو اجتماعية. 2- البناء الاجتماعي: إذا أدى اضمحلال الأسرة الممتدة إلى زيادة شدة الأسى؛ حيث تتزايد فرص أن تعيش الأرملة أو الأرمل – مثلاً – وحيدة، إما لأنّ الأبناء قد تزوجوا واستقلوا سكناً ومعيشة أو لعدم الإنجاب. ويؤدي الشعور بالوحدة إلى الأم بدنية ونفسية مصاحبة للحزن على وفاة عزيز. كما يؤدي خلل البناء الاجتماعي إلى صعوبات الاتصال بالأقارب والأصدقاء، وبالتالي لا يتمكنون من مساندة المكروب المساندة الملائمة، إما لتأخر توقيت تقديمها، أو تكون دون توقع المكروب، ويزيد تجاهل الآخرين له وعدم مساندتهم، من أساه ومن خطورة عواقبه. 3- التصورات السائدة حول الموت: تختلف مظاهر الأسى ودلالتها من مجتمع لآخر لاختلاف الإطار الثقافي الذي يشمل معايير دينية وأعراف اجتماعية وعادات متوارثة، وجميعها تحدد الممارسات التي يقوم بها الفرد تعبيراً عن أساه لوفاة عزيز عليه، وتسمى هذه الممارسات "الحداد"، وتكشف البحوث أنّ المصريين يظهرون حزناً أقل بالمقارنة بالغربيين؛ وذلك لإيمانهم بالقدر، وقد أشار الدمشقي إلى أهمية الإيمان بالقدر والصبر وعدم المبالغة في إظهار الحزن عملاً بالكتاب والسنة؛ إذ يوجد تفاعل بين ممارسة طقوس الحداد ومشاعر الأسى، بمعنى أن عدم الالتزام بهذه الطقوس يقلل الشعور بالحزن. جـ- ظروف الوفاة: 1- الموت المفاجئ: وتؤدى الوفاة المفاجئة: بالمقارنة بالمتوقعة – إلى اضطراب طويل المدى يؤثر على التوافق النفسي والاجتماعي للمكروب وتجعله أقل تطلعاً للمستقبل وأقل استمتاعاً بحاضره، وبالتالي يختل دخل الأسرة نتيجة سوء التوافق اجتماعيّاً بحاضره، وبالتالي يختل دخل الأسرة نتيجة سوء التوافق اجتماعيّاً ومهنيّاً، ويصل الأمر إلى ارتفاع معدلات الطلاق في حالات فقد الأبناء، وقد أمكن تمييز زملة أعراض يطلق عليها "زملة الفقد غير المتوقع" وتشمل: الانسحاب الاجتماعي وعدم الاعتراف بحدوث الوفاة والارتباك النفسي والمعيشي. فالمكروبون بوفاة أحد أحبائهم فجأة أكثر معاناة للأمراض الجسمية والنفسية بالمقارنة بمن فجعوا بوفاة متوقعة، وإن كانت هناك أدلة على أنّ هذه الآثار تكون في المدى القريب فقط. 2- كيفية العلم بالوفاة: إنّ نقل نبأ الوفاة إلى المكروب بشكل مباشر يزيد أساه بالمقارنة بنقل الخبر مجزاً؛ ربما لأن نقل الخبر على مراحل يساعد المكروب على التهيؤ للموقف. عرضنا لبعض العوامل التي تسهم في زيادة شدة الأسى وخطورة عواقبه، ونحاول الآن معرفة الأساليب التي تعين على التخفف منه.   - ثالثاً: متى وكيف يتم التخفف من الأسى؟ أ- تستغرق عملية التخفف ما بين عام إلى عامين، وهذا التخفف يتم تلقائيّاً، ومن الممكن تقليل هذا الوقت والاسراع بإيقاع التخفف من خلال الكشف عن العناصر الفعالة التي تيسره، فيتم الحفاظ عليها، وتلك التي تعوقه واستبعادها. ب- تكشف البحوث عن عدد من الأساليب المفترض فعاليتها في التخفف من الأسى، ومنها: 1- الإفصاح عن المشاعر، أي أن يعبر المكروب عن انفعالاته الإيجابية منها والسلبية – نحو الفقيد – حتى لا يصبح الأسى مزمناً، ويصطدم هذا الإجراء مع القيود الاجتماعية في بعض المجتمعات التي لا تحبذ إظهار المشاعر نحو المتوفي. 2- المساندة الاجتماعية، ويقصد بها أي عون أو مساعدة يقدمها الآخرون للمكروب وتشعره بالراحة، سواء كانت لفظية كالتعليقات على شكوى المكروبين، أو غير لفظية كنبرة هذه التعليقات وتعبيرات الوجه والإيماءات وما تعكس من تجاوب انفعالي وتعاطف مع المكروب، أو كانت المساعدة أدائية كزيارته (مدة الزيارة ومعدلها) والإسهام في حل المشكلات الناتجة عن الفجيعة، وتؤثر فعالية المساندة على طبيعتها ومقدارها وتوقيت تقديمها وهوية مقدمها، وكذلك على إدراك المكروب لها ومدى تناسبها مع توقعاته وملاءمتها لمرحلة الأسى التي يجتازها، ففي المرحلة الأولى حيث الأسى شديد تكون المساندة الوجدانية – وخصوصاً من أفراد الأسرة (الزوج أو الوالدين) – مهمة جدّاً، وفي المرحلة اللاحقة حيث تنخفض شدة الأسى ويتهيأ المكروب للقيام بمسؤولياته الاجتماعية والمهنية فإن مساندة الأصدقاء والزملاء تصبح أكثر أهمية، ومع أن غياب المساندة أو كونها دون توقع المكروب يزيد من شدة الأسى ومن خطورة عواقبه إلا أنّه قد يثير الحافز للاعتماد على الذات أيضاً. 3- التخلي عن المظاهر الحدادية، ويعد أكثر أساليب التخفف فعالية، فالالتزام بهذه المظاهر يزيد الحزن والتخلي عنها يقلله؛ حيث توجد علاقة بين طقوس الحداد ومشاعر الحزن كما سبقت الإشارة، وتلعب الضغوط الاجتماعية – من الأهل – دوراً بارزاً في مساعدة المكروب على التخلي عن الطقوس الحدادية. 4- الاقتداء من خلال مقارنة المكروب أحزانه بأحزان الآخرين والاستفادة بخبراتهم في التخفف، وقد أشار الكندي إلى أهمية هذا الأسلوب. 5- إدراك الجوانب الإيجابية في الموقف، وكما أشار القرآن الكريم (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة/ 216)، ويسهم الآخرون – بنصائحهم – في إعادة إدراك المكروب للموقف، وأنّ الخسارة مهما كانت ضخمة فإنّها تنطوي على مكسب ما، وأن إدراك ذلك ييسر عملية التخفف ويعجل بها، ولعل أكبر المكاسب هو زيادة القدرة على تحمل المصائب اللاحقة، إذ تعد أهون من وفاة عزيز، وكما قال الشاعر: لقد جر نفعا فقدنا لك أننا **** أمنا على كل الرزايا من الجزع 6- الممارسات الدينية، فقد تبين أنّ لقراءة القرآن الكريم دوراً كبيراً في تقليل الحزن الناتج عن وفاة عزيز؛ ومرجع ذلك تضمن القرآن آيات تحث على الإيمان بالقدر والرضا بالقضاء والصبر عند المصاب والوعد بالإثابة (الجنة) لمن صبر، والوعيد بالعقاب (النار) لمن لا يرضى بقضاء الله، ولهذا الإيمان دوره الكبير ليس في هذه الحالة فقط – الحزن – وإنما يعد وسيلة للاحتفاظ بالصحة النفسية وتحمل المشاق، وأحد مكاسب وفاة عزيز – الأسلوب السابق – أن تشعرنا بالقرب من الله. 7- الاستبدال كأن تستبدل الأرملة دورها كامرأة عاملة بدورها كأرملة، ودورها كأم بدورها كزوجة، أي تعوض فقدها لمحور نشاطها (الزوج) بتكثيف أنشطتها في محاور بديلة، كالعمل والاهتمام بالأولاد والتقرب إلى الله والزواج اللاحق. كالكسيح الذي يعتمد على يديه بديلاً لرجليه، أو كمن يعتمد على رجليه بديلاً ليديه.. وهكذا. 8- تقليص الروابط الوجدانية مع الفقيد تدريجيّاً، ويتم ذلك بواسطة تجنب التحدث عنه مع الآخرين وتجنب وضع ما يذكر المكروب به في تناول اليد كمتعلقاته الشخصية أو صوره؛ إذ تعد مهيجات للأسى. عرضنا لأساليب التخفف من الحزن، وتعتمد غالباً على مبادرة شخصية من المكروب، فالتسليم بالواقع – الفقد – ومواجهة مقتضياته وإدراك الجوانب الإيجابية فيه والنفور من الطقوس الحدادية والتخلي عنها وتكريس الجهد في أنشطة بديلة (العمل – الاهتمام بالأولاد – التدين... إلخ) وتقليص الروابط الوجدانية بالفقيد، كل هذا يعتمد على مبادرة المكروب ورغبته في التعجيل بعملية التخفف من الحزن ويكاد يقتصر دور الآخرين على تشجيع المكروب إذا بادر باتخاذ خطوة ما، خلاصة القول: إنّ التخفيف من الحزن عملية ذاتية في المقام الأوّل.
[1]- انظر مقال: J. Pennbaker وآخرين. (1990) "تعجيل عمليات التغلب على الأسى". المنشور "بمجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي" (تصدرها: جمعية علم النفس الأمريكية) مجلد، 98، 528-531.

ارسال التعليق

Top