• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جهاد النفس

جهاد النفس

◄محاسبة النفس:

وعليك يا بُنيّ جعلك الله من المقربين بمراقبة نفسك ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة أتيت بها سواء كان ذلك قولاً أو فعلاً أو نظراً أو سمعاً أو غير ذلك، وذلك لأنّ النفس ميالة إلى اللعب واللهو وإلى مخالفة أوامر الباري عزّ وجلّ وقد قال الله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف/ 53)، فلابدّ من العمل والجد من أجل لجمها وردها عن غيها وإخضاعها للخالق سبحانه، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بمراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها عن كل ما صدر عنها، وذلك كما تحاسب ولدك عند كل تصرف مشين يصدر عنه وتحذره وتنذره بسبب قبح ذلك العمل الذي أتى به.

وقد تعددت الآيات الكريمة وكثرت الروايات الشريفة التي تحث على هذا الأمر وترشيد إليه، وذلك لما له من أثر على شخصية الإنسان وعلاقته بربه ومجتمعه، حيث إن من يخلص في مراقبة نفسه وتزكيتها سيفلح ولو بعد حين في الابتعاد عن الذنوب والمعاصي بل وحتى عن التفكير بها وعندها سيكون قريباً إلى الله ومحبوباً عنده سبحانه وتعالى لأنّه حبيب من تحبب إليه.

فانظر إلى قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).

وقال سبحانه أيضاً: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).

بل إن رسول الله (ص) قد وصف هذا العمل بالجهاد الأكبر حيث روي أنّه (ص) بعث سرية فلما رجعوا قال: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس".

وروي أنّه (ص) قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر".

وقال أمير المؤمنين (ع): "جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه وطالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمه فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه".

وقد روي عن إمامنا الحسن المجتبى (ع) أن رسول الله (ص) قال: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده".

وتأمل يا بُنيّ فيما رواه الثقة الجليل أبو حمزة الثمالي عن إمامنا عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "ابن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة من همك وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله عزّ وجلّ ومسؤول فأعد جواباً".

وعن أبي الحسن الكاظم (ع) أنّه قال: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فغن عمل حسناً استزاد الله وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه".

وإن سألت يا بُنيّ عن كيفية محاسبة النفس ومساءلتها فسيأتيك الجواب واضحاً وسريعاً فإنّه قد ذُكِرَت عدة طرق وأساليب لذلك ومن أهمها أن تقوم كل ليلة وقبل الركون إلى النوم بمراجعة كل ما أتيت به وعملته في يومك من خير أو سوء – والعياذ بالله – فما كان من خير وصلاح حمدت الله وشكرته عليه والتمسك منه تعالى التوفيق للاستكثار منه، وما كان من سوء وفساد استعذت بالله منه واستغفرته وتبت إليه توبة نصوحاً وعاهدته تعالى أن لا تعود إلى ذلك الفعل أبداً، فإن واظبت على هذا الأمر فستجد نفسك بعد مدة بعيداً عن المعاصي والذنوب وقريباً من الله وحبيباً له لتسعد في الدنيا وتنجو في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.

وسأذكر لك يا بُنيّ إحدى الروايات التي تبين كيفية محاسبة النفس وتزكيتها، فقد روي عن إممامنا الحسن العسكري (ع) في تفسيره عن آبائه عن عليّ (ع) أن رسول الله (ص) قال: "أكيس الكيسين مَن حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، فقال رجل، يا أمير المؤمنين كيف يحاسب فسه؟

قال: إذ أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله يسألك عنه بما أفنيته، فما الذي عملت فيه أذكرت الله أم حمدته، أقضيت حوائج مؤمن فيه، أنفَست عنه كربة، أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظته بعد الموت في مخلفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن، أعنت مسلماً؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه فإن ذكر أنّه جرى منه خير حمد الله وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته".

 

الخوف من الله والخشية منه:

وعليك يا بُنيّ بالخوف من الله دائماً والوجل منه لأنّه شديد العقاب وقوي المحال، بل قد أُكّد على ذلك كثيراً لما له من أثر في الابتعاد عن الذنوب والمعاصي حيث قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

وقال أيضاً سبحانه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 16-17).

وقد ورد عن حمزة بن حمران أنّه قال، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إن مما حفظ من خطب النبيّ (ص) أنّه قال: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وان لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته وفي الشبيبة قبل الكبر وفي الحياة قبل الممات فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار".

وعن إسحاق بن عمار أنّه قال: قال أبو عبد الله (ع): "يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك".

وعليك يا ولدي أن تكون مع ذلك الخوف راجياً لما عند الله من العفو الكريم والصفح الجميل والثواب الجزيل فإنّ الله غفور رحيم عطوف ودود يحب عباده المؤمنين وبهم رؤوفٌ فقد ورد عن إمامنا الصادق (ع) أنّه قال: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو".

وورد عنه (ع) أيضاً أنّه قال: "كان أبي (ع) يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلا [و] في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا".

 

ذكر الله تعالى:

وعليك يا بُنيّ – جعلك الله من الذاكرين المسبحين – بذكر الله سبحانه على كل حال وقد قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152).

وقال أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الأحزاب/ 41-42).

وقال أيضاً سبحانه: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة/ 10).

وقال رسول الله (ص): "من أكثر ذكر الله عزّ وجلّ أحبه الله..".

وروي أن أمير المؤمنين (ع) قال: "مَن كثر ذكره استنار لبه".

فعليك يا بُنيّ بكثرة ذكر الله وتكبيره وتحميده وتسبيحه، وعليك بكثرة الاستغفار فقد ورد أن "خير الدعاء الاستغفار".

وإن خفت من الرياء والسمعة بسبب ذلك فعليك بالتهليل "لا إله إلا الله" فإنك إن قرأتها بصوت منخفض لم يشعر أحد بذلك لأنك عند نطقك بها لا تتحرك شفتاك.

 

القرآن الكريم:

ثم عليك يا بُنيّ جعلك الله من أهل القرآن الكريم وحامليه بتقدير كتاب ربك سبحانه وتقديسه وأن تعلم أنّه الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنذه الذي عجزت عقول البلغاء وألسنة الفصحاء عن الإتيان بسورة من مثله، وبه خرجت الناس من ظلمات الغي إلى نور الهدى حيث قال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1)، وهو الذي (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9)، وهو (بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 138).

وهو الثقل الأكبر والحبل الممدود من السماء إلى الأرض كما ورد عن رسول الله (ص).

وهو النور الساطع وربيع القلوب وشفاء الصدور وأنفع القصص وأحسن الحديث.

واعلم يا بُنيّ أن كتاب الله هذا هو أوّل مصادر التشريع عند المسلمين وهو المعول عليه أوّلاً في عملية استنباط الحكم الشرعي لأن فيه تبيان كل شيء وذاك لمن عرف ظاهره وباطنه، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، وغير ذلك مما لا يناله إلا الراسخون في العلم، وقد روى السكوني عن أبي عبد الله (ع) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (ص): "إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفع وما حل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة".

وذكر إمامنا الصادق على ما روي عه أن رسول الله (ص) قال: "القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الأحزان وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم...".

وقال أمير المؤمنين (ع): "وعليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق لا يَعْوَجُّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تُخلقُهُ كثرة الرد وولوج السمع، من قال به صَدَق ومن عمل به سَبَقَ".

وقالت سيدة نساء البشر فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها المعروفة بخطبة فدك: "... لله فيكم عهد قدَّمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم؛ كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مُؤَدٍ إلى النجاة إسماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المُفسّرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرايعه المكتوبة".

ثمّ اعلم يا بُنيّ أنّ القرآن الكريم غير مختص ببقعةٍ من الأرض دون أخرى ولا بزمان دون غيره ولا بقوم دون آخرين بل هو آية ومعجزة وحكم منذ أن بُعث رسول الله (ص) إلى الناس كافة وإلى يوم يبعثون، وقد روي عن ثامن الحجج الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) عن أبيه (ع) أن رجلاً سأل أبا عبد الله (ع): "ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة".

وقد ذكر إمامنا الرضا (ع) يوماً القرآن فعظم الحجّة فيه والآية المعجزة في نظمه فقال: "هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي إلى الجنّة والمنجي من النار، لا يخلق من الأزمنة ولا يغث على الألسنة، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان وحجة على كل إنسان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد".

فعليك يا بُنيّ بالاهتمام بهذا الكتاب العظيم والإكثار من تلاوته في أ"راف نهارك وآناء ليلك لما لذلك من فوائد جمة دنيوية وأخروية تعود على قارئيه ومتدبريه. وقد أمر الله تعالى بذلك فقال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل/ 20).

وروي أن رسول الله (ص) قال: "أفضل العبادة قراءة القرآن".

وعنه أيضاً (ع) أنّه قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة".

وكذلك روي عنه (ص) أنّه قال: "أشراف أمتي حملة القرآن".

فواظب يا بُنيّ على قراءة القرآن وتلاوته ولا تحرم نفسك من الخير الكثير والثواب الجزيل والمقام الرفيع المعد لقارئي كتاب الله سبحانه، وقد روي عن إمامنا جعفر بن محمّد الصادق (ع) أنّه قال: "ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات ويمحى عنه عشر سيئات".

وأمر أهلك يا بني ومن يعيش بكنفك بقراءته وتلاوته فإن في ذلك الخير كله يُنثر عليك وعلى أهل بيتك من قِبَل واهب الهدايا ومجزل العطايا، فقد روي عن غمامنا الصادق (ع) أن أمير المؤمنين (ع) قال: "البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزّ وجلّ فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وأنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزّ وجلّ فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين".

وإياك ثمّ إياك يا بُنيّ من التكاسل أو التهامل في المداومة على قراءة القرآن المجيد والاستضاءة بنوره والاغتراف من معينه فتكون من الخاسرين، فقد ورد عن إمامنا جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه".

 

التفكر والتدبر في كتاب الله عزّ وجلّ:

فإا قرأت القرآن يا بُنيّ فاقرأه بصوت حزين وبتفكر وتدبر في آياته لتكون من الحاملين والتالين للقرآن حقاً وصدقاً، وإلا فإن مجرد ترديد الكلمات ولقلقة اللسان بها إن لم تضرك لم تنفعك، ولذلك نرى الله سبحانه قد حث كثيراً على هذا الأمر، وأمر به الرسول الأكرم (ص) وعترته الهادية (عليهم السلام)، فقد قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).

وقال سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر/ 23).

وقال أيضاً عزّ من قائل: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه".

ووصف أمير المؤمنين (ع) المتقين فقال: "... أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم...".

وروي عن إمامنا الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله عزّ وجلّ الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار".

هذا نزر يسير مما ورد في فضل القرآن وشأنه ومقامه عند الله جلّ جلاله، وقد ذكرت لك ذلك لتعرف المقام العظيم لهذا الكتاب الجليل ومدى أهميته وتأثيره في سعادة الفرد وازدهار المجتمع.

وسأختم لك هذا الباب بوصية أوصى بها أمير المؤمنين (ع) أصحابه فقال لهم: "تعلموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص".

وفقك الله يا بُنيّ للعمل بهذه الوصية الكريمة وحشرك الله مع زمرة العارفين لمنزلة القرآن الكريم والعاملين بأحكامه.

 

الدعاء:

ثمّ اعلم يا بُنيّ – جعلك الله من المقربين ورزقك درجة العليين – أن من أ÷م الأمور التي يحتاجها الإنسان في علاقته مع ربه ونجاته من أهوال الدنيا والآخرة هو الدعاء، فبالدعاء تتوثق العلاقة بين الخالق والمخلوق وبين العبد ومولاه والدعاء باب الله الذي فتحه لعباده المذنبين للاعتراف أمامه وحده بأخطائهم وما اقترفوه من ذنوب ومعاصٍ طالبين منه الصفح والعفو، ومن أجل الارتقاء في سلّم الإخلاص والكمال ولأهمية الدعاء عند الله سبحانه نراه تعالى يحث عباده عليه فيقول عزّ وجلّ (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56). وقال سبحانه وتعالى: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (غافر/ 14). وقال عزّ من قائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، وهناك الكثير من الآيات التي حثت على الدعاء وعلى التمسك به لقضاء الحوائج والمهمات.

واعلم يا بُنيّ أنّ الدعاء كما قال رسول الله (ص): "سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض".

وعن أبي عبد الله الصادق (ع) أنّه قال: "الدعاء يرد القضاء بعدما أبرم إبراماً، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء وليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه".

وقال إمامنا الكاظم (ع): "عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطلبة إلى الله جلّ وعزّ يرد البلاء وقد قدر وقضي فلم يبقَ إلا إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفاً".

فالدعاء يا بُنيّ مفتاح النجاح وباب الفلاح وبه ينجو الناجون ويفوز الفائزون، فعليك بالتمسك به لاسيّما في الأوقات التي ورد التأكيد عليها، كقبيل الفجر وبعده إلى شروق الشمس، وعند زوال الشمس، وبعد الغروب، وفي الحالة التي يرق بها القلب فإنّ "القلب لا يرق حتى يخلص".

وعليك يا بُنيّ أن تدعو الله بقلب مقبل فإنّ الله لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساه، فاقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة فقد قال رسول الله (ص): "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة".

وعن الإمام الصادق (ع): "إذا دعوت فاقبل بقلبك وظن حاجتك بالباب".

وعليك يا ولدي بالإلحاح في الدعاء ولا تكن عجولاً فإنّ الله يحب سماع صوت عبده ويستجيب دعاء الملحين، فقد قال الإمام الباقر (ع): "والله لا يلح عبد مؤمن على الله عزّ وجلّ في حاجته إلا قضاها له".

ومن الأمور المهمة المتعلقة باستجابة الدعاء أن تسمِّي حاجتك فإنّ الله سبحانه وتعالى يعلم حاجتك وما تريد ولكنه يحب أن تُبث إليه الحوائج.

وكذلك عليك بالبكاء يا ولدي عند عرض حاجتك على الله تعالى، وعليك بتمجيده والثناء عليه كما هو أهله والصلاة على النبيّ وآله - صلوات الله عليهم أجمعين - ثم تسأل حاجتك فقد ورد عن إمامنا الصادق (ع) أنّه قال: "إذا أردت أن تدعو فمجد الله عزّ جلّ واحمده وسبحه وهلله واثنِ عليه وصلّ على محمّد النبيّ وآله ثمّ سل تعط".

وعليك يا بُنيّ بالتمسك بالدعاء في السراء والضراء في الليل والنهار لأن حق العبودية يقتضي ذلك، ولأنّ الله يحب العبد الدعّاء، وعليك يا بني بالتمسك بالأدعية الواردة في الأيام والليالي والساعات المخصوصة والتي سأذكر لك بعضها والتي قد واظب عليها العلماء السابقون والأبرار المتقون، فعليك بالمواظبة في ليالي الجمعة على قراءة الدعاء الذي علمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد، وهذا الدعاء هو الدعاء المعروف بدعاء كميل، وهو من أهم الأدعية ويحوي من المعاني والأذكار الكثير الكثير، فإن في كل عبارة من عبائره ععناً لطيفاً ومغزىً عميقاً، فتأمل ألفاظه وتفكر في معانيه.

وعليك كذلك يا ولدي العزيز بالتمسك والمداومة على دعاء الإمام زين العابدين (ع) الذي علمه لأبي حمزة الثمالي وهو الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة وهو وإن كان وارداً استحباب قراءته في أسحار شهر رمضان ولكنه لما فيه من الرقة وتسلية النفوس عن الدنيا وزخارفها والتذكير بالموت وما بعده من المواقف العظيمة والمشاهد الجليلة يصلح لكل مكان وزمان فانظر في قول إمامنا السجاد (ع) في هذا الدعاء عندما يقول:

"... والحمد لله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي وأخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع فيقضي لي حاجتي، الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي لا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبب إليّ وهو غني عني، والحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي، فربي أحمد شيء عندي وأحق بحمدي...".

وتأمل كذلك في قوله (ع): "إلهي ربيتني في نعمك وإحسانك صغيراً ونوّهت باسمي كبيراً، فيا من رباني في الدنيا بإحسانه وتفضله ونعمه وأشار لي في الآخرة إلى عفوه وكرمه... أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، رب أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا رب راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت، فإن عفوت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم".

وقال (ع) أيضاً: "سيدي أنا الصغير الذي ربيته وأنا الجاهل الذي علمته وأنا الضال الذي هديته وأنا الوضيع الذي رفعته وأنا الخائف الذي آمنته والجائع الذي أشبعته والعطشان الذي أرويته والعاري الذي كسوته والفقير الذي اغنيته والضعيف الذي قويته والذليل الذي أعززته والسقيم الذي شفيته والسائل الذي أعطيته والمذنب الذي سترته والخاطئ الذي أقلته، وأنا القليل الذي كثرته والمستضعف الذي نصرته وأنا الطريد الذي آويته، أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ، أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرضا، أنا الذي حين بشرت بها خرجت إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما أرعويت وسترت عليّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت وأسقطتني من عينك فما باليت...".

فهذا الدعاء يا ولدي هو كنز نفيس لا يثمن بمال ولا يقدر بقيمة.

وكذلك عليك يا بُنيّ بدعاء الإمام الحسين (ع) الذي دعا به في يوم عرفة فإنّه دعاء عظيم وشريف، وعليك كذلك يا بُنيّ بأدعية الصحيفة السجادية، والمواظبة على المناجاة الخمس عشرة المنسوبة لإمامنا زين العابدين (ع) كما عليك يا ولدي بالمواظبة على المناجاة الشعبانية المنسوبة لأمير المؤمنين (ع) والتي يقول في بدايتها: "اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد واسمع دعائي إذا دعوتك واسمع ندائي إذا ناديتك واقبل عليّ إذا ناجيتك فقد هربت إليك ووقفت بين يديك مستكيناً لك متضرعاً إليك راجياً لما لديك ثوابي وتعلم ما في نفسي...".

وعليك يا بُنيّ بالدعاء المعروف بدعاء التوسُّل والذي قال عنه شيخنا الصدوق: "ما توسلت به لحاجة إلا قضيت" كيف لا يكون كذلك وهو توسل بمن جعلهم الله الوسيلة إلى مرضاته والباب الذي منه يؤتى صلوات الله عليهم أجمعين.►

ارسال التعليق

Top