قال الله سبحانه وتعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (النور/ 15).
لقد أشارت هذه الآية إلى مدى الخطر الذي يتركه اللسان عندما يخرج عن وظيفته التي أرادها الله منه، فقد أراد الله للسان أن يكون أداة للتواصل بين الناس، وتفاعل الآراء والأفكار فيما بينهم، ولبعث الخير في النفوس، وبثّ روح الألفة والمحبّة والتعاون داخل المجتمع أو الوطن، وأن ينطق بالحقّ والصِّدق، ولم يرده أن يكون أداةً لبثّ بذور الفتنة والأحقاد والتوترات وشقّ الصفوف ونشر الفساد والانحراف.
ويكفي نظرة إلى الواقع حتى نرى مدى هذه الخطورة، وهي ازدادت بعد انتشار وسائل الإعلام والتواصل، حيث لم يعد للكلمة حدود وحواجز تقف عندها على مستوى الزمان والمكان، وصار بالإمكان لأيِّ كان من موقعه أن يطلقها.
خطورة اللسان
وقد أشارت هذه الآية إلى مدى هذه الخطورة عندما قالت: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)، وهذا ما بيّنته الأحاديث الشريفة، فقد ورد في الحديث: «رُبَّ كلام أنفذ من سهام».
وقد جاء في الحديث: «رُبَّ لسانٍ أتى على إنسانٍ»، «اللسان سَبعٌ إن خُلِّيَ عَقَر»، وورد أيضاً: «إذا أصبح ابن آدم، أصبحت الأعضاء كلّها تستكفي اللسان، تقول: اتّق الله فينا، فإنّك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»، حتى ورد: «بلاء الإنسان من اللسان».
وهذا لا يقف عند الحياة الدُّنيا، بل يمتدّ إلى الآخرة، فعن رسول الله (ص)، لما سأله أحد أصحابه، وهو معاذ بن جبل، عمّا يدخله الجنّة ويباعده من النار، فقال له (ص): «كفّ عليك هذا»، وأشار إلى لسانه. قلت: يا نبيَّ الله، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ قال: «ثكلتك أُمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلّا حصائد ألسنتهم».
وإلى ذلك، ورد تحذير رسول الله (ص)، عندما قال: «إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه».
وقد ورد في الحديث أيضاً: «يعذّب الله اللسان بعذابٍ لا يعذّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربّ! عذّبتني بعذاب لم تعذّب به شيئاً من الجوارح. فيُقال له: خرجت منك كلمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام».
الرقابة على اللسان
ومن هنا، فرض الله سبحانه الرقابة على اللسان بما لم يفرضه على غير الجوارح: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، فهناك رقابة على اللسان تختلف عن الرقابة على بقيّة الجوارح.
وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (ع)، فهو عندما رأى رجلاً يتكلّم بكلامٍ من دون وعي وتدبّر لطبيعة كلامه أو لنتائجه، قال: «يا هذا، إنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربِّك، فتكلّم بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك».
وقد بيّنت الأحاديث الأثر الذي قد يتركه عدم متابعة اللسان وحفظه، حيث ورد في الحديث: «وليخزن الرجل لسانه، فإنّ هذا اللسان جموح بصاحبه. والله، ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه». فحفظ اللسان هو باب لبلوغ التقوى، وهو باب للحصول على الكرامة. وفي الحديث: «مَن حفظ لسانه أكرم نفسه».
وقد اعتبرت حفظ اللسان علامةً فارقة تميِّز المؤمن من المنافق. ففي الحديث عن الإمام عليّ (ع): «إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلَّم بكلام، تدبَّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه».
ولذلك، نرى أنّ بعض صحابة رسول الله (ص)، والتزاماً بحفظ ألسنتهم من الانزلاق والخطأ، كانوا يضعون حصاةً في أفواههم، فلا يرفعونها حتى يتأكّدوا أنّ ما يقولونه حقّ، وأنّه لا ينتج إلّا الخير، أو يكتبون ما يقولون ويتدبّرونه جيِّداً قبل أن يقولوه، حتى يتوقّوا تبعات كلماتهم.
خارطة طريق
ونحن عندما نتحدَّث عن اللسان، فلكونه الوسيلة الأبرز للتعبير، وإلّا، فإنّ الأمر يتعلّق بكلّ وسائل التعبير، بما يكتب، وبما يدوَّن عبر مواقع التواصل وغيرها، أو عبر شاشات التلفاز.
وقد جاءت التشريعات لترسم خارطة طريق للسان لابدّ من أن يتحرّك ضمنها. فهي تشدَّدت في النهي عن كلّ المحاذير التي تصدر عن اللسان، إذ نهت عن الغيبة والكذب والنميمة والسخرية والطعن بالآخرين، والتنابز بالألقاب والسبّ، والقول بغير علم وبدون دليل واضح، واللغو والغناء اللاهي...
وقد حمَّلت الإنسان مسؤولية الكلمة وكلّ تداعياتها على أرض الواقع، فقد ورد في الحديث ما مضمونه: يُؤتى للإنسان في يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيُقال له خذ هذا نصيبك من دم فلان، فيقول يا ربّ، لقد عشت حياتي ولم أرق دماً، فيُقال: سمعت كلمة من فلان فنقلتها إلى فلان الجبّار فقتله، فهذا نصيبك من دمه.
ولم تقف التوجيهات الإلهيّة عند ذلك، بل إنّها دعت الإنسان إلى أن يحسن اختيار ما يصدر عن اللسان، فلا يختار إلّا الأحسن.
وإلى هذا، أشار عزّوجلّ: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 53)، حيث دعا المؤمن إلى القول الأحسن، على مستوى الفكر، وفي الخطاب، وعند الجدال والحوار. فالمؤمن عندما يقف بالخيار بين كلمتين، فلا يختار الحسن بل الأحسن، والأحسن هي الكلمة التي تنساب إلى قلب الآخر قبل أن تدخل إلى عقله، الكلمة التي لا تستفزّ الآخر، الكلمة التي لا تهدف إلى تسجيل النقاط عليه، بل إطفاء الباطل عنده، وتقريبه من الحقّ أو إدخاله فيه.
وهذا ما نجده عند رسول الله (ص) ذي الخلق العظيم، الذي كان يحرص إذا عرف بخطأ أحد من أصحابه، على أن لا يخدشه أو يحرجه، بل كان يقف أمام الناس، وهو بينهم، ليعظ الناس جميعاً من دون أن يُسمّي فلاناً بعينه، ويوجّههم إلى أن لا يقعوا في هذا الخطأ، ويبيِّن لهم سُبُل العلاج.
أمّا لماذا كلّ هذه التشريعات؟ فلأنّ الشيطان يترصّد الكلمات المشبعة بالعداء والتوتر والحقد، كما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53). والنزغ يعني في اللغة الإفساد، فالشيطان الحاقد على الإنسان، من أولويات مشروعه أن يثير الفتن بين الناس.
إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نفتح القلوب بدلاً من أن نغلقها، وأن نطفئ نيران العداوة والبغضاء والفتنة بدلاً من أن نوقدها، وأن نؤلّف بين النفوس بدلاً من أن نباعد بينها، وأن نوصل كلمة الحقّ والخير بدلاً من أن نبعد عنها.
وقد بيّن الله سبحانه أهميّة نتائج هذه الكلمة وآثارها، عندما قال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم/ 24-25).
وفي وصايا الإمام الصادق (ع) إلى شيعته: «معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، احفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول».
وقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) في ذلك: «حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبرّ بالناس، وحُسن القول فيهم».
صورة عن صاحبه!
إنّ ألسنتنا تمثّل التعبير العملي عن شخصياتنا، فكما لا نحبّ أن نظهر أمام الآخرين إلّا بالمظهر الجميل على مستوى الشكل واللباس، فلنحرص على أن لا نُظهِر إلّا جميل قلوبنا وعقولنا وكياننا، ولنتذكر قول الإمام عليّ (ع): «المرء مخبوء تحت لسانه».
وهذا لا يعني أن نداري الآخرين ونجاملهم، ونقدِّم لكلّ واحد ما يناسبه حتى يقبلنا أو يرضى عنا، بل أن نقدّم ما نحن عليه بصدق وشفافية، وبقالب جميل يتناسب ومنطلقاتنا الدينية والتربوية.
إنّنا أحوج ما نكون إلى الكلمة الطيِّبة، أن نعوّد ألسنتنا عليها، حتى نتّقي بها الفتن والتوترات والتشنجات، ومواقع سوء الظنّ التي تحمِّل الكلمة المحامل السيِّئة، لشحن النفوس بالكراهية والأحقاد.
وبها نبلِّغ ما عند الله الذي يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق