• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفهوم الحوار في واقعة المباهلة

عمار كاظم

مفهوم الحوار في واقعة المباهلة

في اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام كان يوم المباهلة، والمباهلة هي طريقة إسلامية تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطرفين أن يقرّ بالحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر، فيدعو الطرف الذي يعتبر نفسه أنّه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة، بأن يلتقي مع أحبّ الناس إليه مع الطرف الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ومن المعروف في تجربة المباهلة، أنّ الله تعالى يُنزل العذاب على الكاذب منهما. وهذا ما جرى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة التاسعة للهجرة، بعد أن أكّد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) انتصاره على المشركين في معركة القوّة، وكانت وفود العرب تأتي إلى المدينة تباعاً للإعلان عن انضمامها إلى الدِّين الجديد، وهذا ما أشار الله إليه في قوله تعالى: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر/ 1-3). وكان من بين تلك الوفود، وفد نصارى نجران، وهؤلاء جاؤوا ليحاوروا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجادلوه في الإسلام، وفي شخصية السيِّد المسيح (عليه السلام)، فاستقبلهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلّ رحابة وتكريم، وأنزلهم في مسجده. ودخل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم في حوار حول عيسى (عليه السلام)، في ما كانوا يقولون عنه إنّه هو الله، وإنّ الله تجسّد في السيِّد المسيح، كما هي العقيدة المعروفة في ما بين النصارى في العالم بشكل عام، أو أنّه ابن الله أو أنّه ثالث ثلاثة، ودار الجدال فيما بينهم في أكثر من جانب، وأكّد لهم أنّه مخلوق، ولكنّهم لم يقتنعوا بذلك، فدعاهم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة، وهذا ما تحدّثت عنه هذه الآيات الكريمة: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (آل عمران/ 59). إنّه تعالى يقول لكم: إنّكم تعتبرون أنّ عيسى (عليه السلام) يحمل سرّ الألوهيّة، لأنّه وُلِد من دون أب، ولكن هذه هي قدرة الله في ذلك، فماذا تقولون في آدم (عليه السلام) الذي خلق من غير أب أو أُمّ؟! إنّها قدرة الله في أن يخلق إنساناً من أب وأُمّ، أو من أُمّ دون أب أو من دون أب وأُمّ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس/ 82). (الحقُّ من ربِّك، ويؤكّد الله للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الحقيقة النازلة من الله ـ فَلَا تكنْ مِنَ الممترينَ ـ من الشاكّين ـ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ ـ في عيسى (عليه السلام) وشخصيّته ـ  مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ـ ممّا علّمك الله تعالى، وأنَّ عيسى (عليه السلام) بشر كبقيّة البشر في معنى إنسانيّته وبشريته، فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويعيش كما يعيش البشر في ضروراتهم وكلّ أمورهم، ولكنّه روح من الله، وله ميزة الرسالة، والانطلاق الروحي من الله تعالى، وهذه الكلمة التي وُلِد من خلالها. فَقُلْ - تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ـ والأبناء أحبّ الناس إبى الإنسان ـ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران/ 60-61). وقبلوا بمبدأ المباهلة، ولكنّ رئيسهم ـ كما تقول الرواية ـ استدرك وقال: «انظروا مَن الّذين سوف يختارهم محمّد للمباهلة»، هنا جاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه كساء أسود، وقد احتضن الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعليّ وفاطمة (عليهما السلام) يسيران خلفه، وهو يقول: «إذا دعوت فأمّنوا» ـ قولوا آمين ـ حتى يعرفوا من خلال المعجزة الإلهية مَن هو الكاذب ومَن هو الصادق. فعندما رأى الوفد الذين جاء بهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، سأل عنهم، فقيل له: هذه ابنته وهذا ابن عمّه وصهره، وهذان ولداه، فالتفت الرئيس الديني إلى الوفد وقال: «يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا»، لأنّهم أيقنوا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يكن واثقاً من صدقه في الدعوة، لما جاء بأحبّ الناس إليه؛ ابنته وابنيها وصهره وابن عمّه، والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يقدِّم مَن يحبّ في موقعٍ من أخطر المواقع بين يدي الله، فإنّه لا ينطلق في حبّه عن هوى، وإنّما ينطلق من إيمانه بأنّ هؤلاء هم المقرَّبون إلى الله، وأنّ الله تعالى سوف يستجيب لهم ما هم فيه. ودعا رئيس الوفد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التفاوض والمعاهدة، فطلب منهم أن يسلموا فأبوا، فصالحهم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يؤدِّوا الجزية.

ارسال التعليق

Top