محفوظ أيوب
كنا زميلين، نتابع دراستنا العليا في الجامعة، للحصول على شهادة الماجستر. وبعد أن نجحنا في المواد النظرية، اختار كل منا موضوعاً ليعد رسالة فيه، وتم تسجيلهما رسمياً. وقد اخترت مجال التحليل النفسي، واختارت بعض المشاكل التربوية في بلادنا.
ولما توقفت الدراسات العليا في الجامعة، لأسباب نجهلها، اضطررنا للتريث، حتى استؤنفت هذه الدراسات من جديد، بعد سنتين تقريباً، حينما التقينا على مدخل غرفة أستاذنا المشرف على رسائلنا، وجرى لقاء حميم جدّاً بيننا.
- صباح الخير.. يا صالحة.
- صباح الخير.. يا فادي.
لمعت العيون العسلية، وتوردت الخدود الجميلة، وتشامخ الجسم المثير، بينما كانت الأهداب ترتعش، والشفاه الوردية تنطق بعذوبة.
- كم هو جميل أن نلتقي مرّة أخرى، لنتابع دراستنا معاً.
- حقاً.. هذه أجمل أمانينا.. تفضلي لنقابل أستاذنا، ونحدد مواعيد العمل منه.
- دخلت قبلي.. وتبعتها.. حيينا أستاذنا بحرارة، ثمّ جلسنا بجواره كطفلين يلتجئان إلى والدهما.
وما كادت تبدأ حديثها معه، حتى أذهلتني المفاجأة، حين قالت له:
- جئت لأستأنف إعداد رسالتي للماجستر بإشرافك.
وقال:
- يؤسفني أن أخبرك بصعوبة تحقيق ذلك.. يا آنسة.
- لماذا؟
- لأنّ الجامعة تخصص لكل أستاذ في الدراسات العليا رسالتين يشرف عليهما وقد تم تحديدهما وتسجيلهما لطالبين آخرين.
- أحسب أن هذا يتطلب موافقتك عليهما؟
- نعم.. وقد وافقت، لأنكما تأخرتما عن الاتصال بي في الوقت المناسب.
- ولكنك وعدتني بالإشراف على رسالتي، وحددت لي المراجع المطلوبة، وأنا أنتظر إشارتك للبدء بالعمل منذ مدة طويلة.
- أصبح من الصعب عليّ تنفيذ هذا الوعد.
- إذن.. لن أحضر إلى منزلكم، لإعطاء ابنتك دروساً خاصة، حسبما اتفقنا سابقاً.
- لا.. لا.. لا تفهمي الأمور فهماً خاطئاً، وتعقديها أكثر مما هي عليه.
- ماذا أفعل.. إذن؟
- تريثي قليلاً، وربما نجد لها حلاً لها.
- قريباً.. سأحدد لك موعداً مناسباً نلتقي فيه، ونعالج هذه المشكلة.
- شكراً لك.
وودعته وانصرفت.
عندئذ انتفضت غاضباً،
- وأنا.. يا أستاذ؟
وانطلق صوته:
- لقد سمعت ما جرى، يتعذر علي متابعة العمل معك.
- ولكنني أعمل في رسالتي منذ سنوات، بعد أن سجلتها رسمياً في الجامعة، ووافقت أنت عليها، قبل أن تتوقف الدراسات العليا، التي كنت انتظر استئنافها بفارغ الصبر. واشتريت لها المراجع من أمريكا وبريطانيا، بأثمان باهظة، لأنّه لا توجد كلمة واحدة باللغة العربية عنها وهي شبه جاهزة الآن.
- مع الأسف.. هذا ما حدث.. ولا مجال لتبديله لأنك تأخرت كثيراً حتى اتصلت بي.
- منذ قليل قبلت أن تشرف على رسالة زميلتي الآنسة صالحة، متجاوزاً الحد المسموح لك به.
- لأنّها تدرس ابنتي، ولا أستطيع أن أرفض طلبها.
- ليتك تدلني على حل لمشكلتي أيضاً، ولا سيما أنك تعرف جيِّداً، أنّه لا يوجد في جامعتنا أستاذ آخر غيرك، يمكنه أن يقوم بهذه المهمة، في المجال الذي اخترته، ووافقت أنت عليه.
- انتظر ريثما ينتهي أحد طلابي من رسالته.
- هذا يعني أن أنتظر سنوات أخرى.
- ليس لدي حل آخر.
- أرجوك.. يا أستاذ.. إنّ مستقبلي بأكمله يعتمد على قرارك.
- لا أستطيع أن أعدك بشيء.. وهذا كل ما يمكن أن أقوله لك.
أطرقت قليلاً.. ثمّ انصرفت حزيناً متهدماً، وقصدت ديوان الكلية، لألتقي بصديقي الذي يعمل موظفاً فيه.
ولما رآني في تلك الحالة سارع للسؤال:
- ما بك.. يا فادي.. وكأنك قد فقدت أعز الناس عليك.
قلت بأسى:
- لقد رفض الأستاذ أن يستمر في الإشراف على رسالتي، وضاع تعب السنين والمال الذي أنفقته عليها.
- حسبت أن كارثة كبرى قد حلت بك.
- ألا تعتبر هذه كارثة؟
- كلا.. والحل سهل جدّاً.
- اعرض عليه نقوداً لقاء أتعابه.
- ماذا تقول.. يا صاحبي.
- أقول الحقيقة التي قد تفيدك، ودعك من مثالياتك التي توشك أن تسحقك.
- هل يمكن أن يصل الأمر إلى هذا المستوى؟
- أجل.. وأكثر من ذلك.
صمت قليلاً.. ثمّ رددت كالمتحدث مع نفسه:
- لنجرب هذا الحل، مادام ليس أمامنا غيره.
عدت إلى غرفة الأستاذ، والحياء يحني رأسي، ويدفع العرق، ليتصبب من مسام وجهي بغزارة. ووقفت أمامه، كمن ينوي ارتكاب فعل بشع، مما جعله يبادر للقول:
- ماذا تريد أيضاً.. يا فادي؟
تلعثمت:
- أستاذ.. أنا مستعد أن أدفع لك ثمن أتعاب الإشراف على الرسالة.
اضطرب:
- أنا لا أهتم بالمال.. يا بني.. ولكن مادمت مصراً على ذلك، يمكننا إعادة النظر في هذا الموضوع مرة ثانية.
- متى؟
- في الأسبوع القادم.
- شكراً لك.
وحينما رجعت إلى مكتب صديقي سألني بلهفة:
- أخبرني بسرعة.. ماذا حدث معك؟
- أجبت باشمئزاز.
- لقد وافق.
- كنت متأكداً من ذلك.
- لا شك أنك تعرف الناس جيِّداً.. يا صديقي.
- ها.. والآن ما هي الخطوة التالية التي ستقوم بها لتحقيق أمنيتك؟
- سأمزق رسالتي، وألقي بها في أوّل كومة قمامة أصادفها، لأنّه عندما تبلغ الأمور هذا الحد، لا يبقى هناك فرق كبير بينهما.
- هذا جنون.. جنون بكل معنى الكلمة.
- حقاً.. إنّه جنون – زمن تحول العقل فيه إلى سلعة.
- وما جدوى هذا الكلام الآن.
- يريح نفسي، ويعيد إليها بعض التوازن والثقة.
- إذن.. قل ما تشاء.. وعندما ألقاك في المرّة القادمة، أتمنى أن تكون في غاية الهدوء والتعقل، وتعود لمتابعة رسالتك.
- شكراً لك؟
*أديب وقاص (سورية)
ارسال التعليق