منذ فجر التاريخ اهتم الناس بالنابغين والعباقرة من أبنائهم، وتطور هذا الاهتمام وفق تطورات العصر واتساع فهم النفس البشرية وطاقاتها.
وكان للموهبة والموهوبين الحظ الأوفر في دراسات علم النفس والتربية التي تحدثت عن اكتشاف الموهبة ورعايتها وصفات صاحبها.
وسنقف – فيما يلي – عند مفهوم الموهبة واكتشافها ورعايتها، لنتولى أبناءنا المميزين الذين سيقدمون أجمل وأحدث ما عندهم!!
مفهوم الطفل الموهوب:
الطفل الموهوب: هو الذي يبدي إمكانية إبداع مستمر في أحد المناشط الإنسانية القيمة، وهو ذو قدرات خاصة حركية وعلمية وفنية، وله صفات عقلية وجسمية وانفعالية تميزه عن الآخرين، ويقال للطفل الموهوب الذي يستثمر موهبته ويقدم عطاءاته الفريدة: عبقري، نابغ، متفوق، لامع، نسيج وحده...
والموهبة لا يحدها مكان ولا زمان، فقد ظهر الأشخاص العباقرة في القديم والحديث، والموهبة عطاء من الواهب، والواهب: هو الله تعالى الذي من أسمائه الوهّاب، وهو صيغة مبالغة من الواهب، والأطفال بحد ذاته هبة من الله تعالى للإنسان.
قال الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الأنعام/ 84).
فقد رزق الله سيدنا إبراهيم (ع) بأولاد بعد أن كانت امرأته عاقراً، فجاءه إسحاق ويعقوب وهداهما الله، وهدى نوحاً وباقي الأنبياء، والهداية موهبة أعطاها الله للأنبياء، تفجرت من قلوبهم ليرشدوا بها البشرية إلى عبادة الله تعالى.
وإذا لم يكن الرسول موهوباً متميزاً فمن إذن؟!
هذه الهبات وهذه المواهب تستوجب الحمد لله تعالى، لذلك وجدنا سيدنا إبراهيم (ع) يلهج بالحمد لله تعالى الذي وهبه أولاداً بالرغم من كبر سنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم/ 39).
فالموهبة نعمة كبيرة يمن الله بها على عباده، وهي مطلوبة ومحبوبة في الذرية لأنها تسعد الأب والأم إن وجدت في الأولاد، لهذا دعا المؤمنون ربهم أن يرزقهم أطفالاً موهوبين يجلبون لهم السعادة فقالوا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74). وأي سعادة تفوق فرحة الآباء عندما يرزقون بولد موهوب ذي صلاح وهداية.
إنّ الأطفال يحملون في داخلهم مواهب أودعها البارئ، تختلف من طفل لآخر فهذا يتمتع بقوة الحركة والعضلات ويميل بطبعه إلى الرياضة، وسيصبح رياضياً مشهوراً، وذاك يتقن رسم الأشكال الجديدة والطريفة بألوان جذابة ودلالات مدهشة فهو رسام لامع، وآخر يمتلك صوتاً جميلاً وأداء ممتازاً فهو منشد أو مطرب، وآخر يمتلك ذكاء خارقاً في مادة دراسية من المواد، فيبرز فيها ويتفوق على أقرانه، وطفل يحب الفك والتركيب واختراع الأشياء فسيغدو عاجلاً أم آجلاً مخترعاً معروفاً.
ومع إيماننا بما لدى الطفل الموهوب من ذكاء فطري، وذكاء مكتسب، ومنحة أودعها الخالق في شخصيته، إلا أنّنا نؤكد أنّ هذه الموهبة ستكتسب مع مرور الأيام وبفضل الخبرة والتجربة أشياء كثيرة تصقلها وتجعلها تنمو وتتألق في حياة الإنسان النابغ وتترك أثرها في العالم من حوله.
ولا ننس ما للإيمان والرغبة من تأثير على الموهبة والعبقرية، فالإيمان يصنع العجائب – كما يقولون – فإذا ما اقترن بالموهبة حقق الكثير.
واختلاف المواهب ضروري لتعمير الحياة وبناء الحضارة فلو كانت المواهب تتجه نحو اتجاه واحد وتظهر في مجال واحد لتجمدت الحياة في المجالات الأخرى.
فاختلاف الإمكانات والقدرات والمواهب عند البشر يدفع كلّ واحد للاستفادة مما عند الآخر وبذلك يتم التكامل ويتم البناء وتسير الحياة نحو الأمام ونستشف ذلك من قوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف/ 32). والدرجات هنا المراتب في العيش والمواهب الدنيوية والدينية، وهذا ما يجعل الإنسان يعطي أخاه الإنسان من نتائج مواهبه ويأخذ منه ما يحتاجه من عطاءات مواهبه، فالناس يستفيد بعضهم من خبرة بعض، فلو كانت خبرتهم واحدة ومتقاربة ومواهبهم واحدة لتعطلت الحياة فسبحان من رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات. (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)، و(سُخْريّاً) بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام لا من السخرية بمعنى الهزء.
كشف الموهبة في البيت والمدرسة:
يمكننا أن نكتشف الطفل الموهوب ونعرف موهبته من خلال ما يتصف به من صفات وما يتمتع به من قدرات ومن خلال ألعابه واختياراته.
فللموهوب صفات تظهر لديه تدل على تفرده من الناحية العقلية منها:
قدرته على استخدام ذكائه في التعلُّم بسرعة، والتفكير تفكيراً منطقياً مع براعة في الاستنتاج والربط بين الأمور بعضها ببعض، وأن يكون متعدد الاهتمامات والنشاطات، سريع الفهم والاستجابة، معتمداً على نفسه، يستطيع حل المشكلات التي تواجهه، وله قدرة على الإبداع والابتكار، قوي الملاحظة، متوازناً في تقدير الماضي والحاضر والمستقبل، والظروف المكانية والزمانية.
بالإضافة إلى هذه الصفات العامة هناك صفات خاصة يتميز بها كلّ موهوب حسب موهبته كأن تكون أذنه ذات حساسية شديدة إذا تعلق الأمر بالموسيقى مثلاً...
وهذا يقودنا للحديث عن أصحاب المواهب التي تعتمد على الحواس.
إنّ الموهبة لا تظهر فجأة وحدها، فهي في رأيي كالماء الذي يوجد في باطن الأرض لا نحصل عليه إلا بعد أن نحفر في الأرض بضعة أمتار أو أكثر. أو مثل كنز من الذهب المدفون لا نحصل عليه إلا بعد البحث عنه واستكشافه وكذلك الموهبة يحتاج كشفها لاتخاذ وسائل تظهرها وتنميها وترعاها لكي تعطي ثمارها.
فالأطفال في المنزل منذ الصغر نستطيع أن نكتشف مواهبهم من خلال اللعب، فهذا يحب في ألعابه الفك والتركيب وآخر يحب اللعب بالسيارات وآخر ينشئ ساحة معركة بجنوده، وآخر يحب أن يرسم بقلمه رسوماً طفلية جميلة...
كما أنّ الاتجاه نحو الألعاب ونوعها يميز الموهوبين عن المتخلفين أو العاديين ففي دراسة للباحث ترمان (Terman) في ولاية كاليفورنيا نشر نتائج بحثه عن لعب المتفوقين، حيث توصل إلى أن: هناك عدة فروق بين لعب الأطفال الموهوبين ولعب أقرانهم في السن، فقد كانت ميول الأطفال الموهوبين للعب – كما هو متوقع – مشتملة على أوجه نشاط عقلية أكبر كثيراً إذا ما قورنت بالأنشطة البدنية، وبالتالي كان ميلهم أقل إلى الألعاب الصاخبة، وكان تفضيلهم أكثر قليلاً للأنشطة الهادئة، وكان لعبهم أكثر شبهاً بلعب الأطفال الأكبر منهم سناً، كما يفضلون أن يكون أقرانهم في اللعب أكبر منهم قليلاً.
وكانوا أقل تفضيلاً لألعاب التنافس، وكان الأطفال الموهوبون يقضون شطراً أكبر من الوقت في اللعب مع غيرهم من الأطفال، ولكنهم كانوا يلعبون منفردين أكثر قليلاً مما يفعل أطفال المجموعة الضابطة، كما كان من الشائع بين الأطفال الموهوبين فيما بين سن الثانية والخامسة، أن يختاروا رفاقاً متخيلين للعب معهم، ويعيشون في الخيال في بلاد بعيدة، وكانت بنيتهم وصحتهم الجسمية والعقلية، واستقرارهم العام وتوافقهم الاجتماعي فوق المستوى المتوسط بشكل ملحوظ...
إنّ اللعب ميدان واسع لمعرفة المواهب وتنميتها، ولقد أجريت دراسات متواصلة حول ذلك انتهت بنتائج طيبة.
وفي المدرسة يمكن أن نكشف مواهب التلاميذ من خلال الدروس، ومن خلال تواصل التلاميذ مع معلميهم، وزيارتهم لمكتبة المدرسة، وتعاملهم مع الأجهزة الحديثة أو تفاعلهم مع الأعمال اليدوية والحرفية في المشغل المدرسي، ومن خلال أسئلتهم العميقة، وقراءاتهم المتميزة.
إنّ التلميذ الموهوب على الأغلب يكون متفوقاً دراسياً، فإذا ما لاحظنا بوادر الموهبة نقترب من الطفل أكثر ونجري له بعض الروائز التي تكشف عن مواهبه بوضوح أكثر، وتبيّن مدى تفوقها وتميزها، لكي نرعاها على بنِّنة ومعرفة.
ويمكننا أن نكتشف الطفل الموهوب عن طريق القراءة، فالطفل الموهوب قارئ نهم غير عادي، وهناك كتب خاصة يميل إليها، تكشف عن طبيعة موهبته من ناحية، وتدعمها وتضيف عليها من ناحية أخرى، وثمة كتب خاصة لهذه النوعية ويوجد استبيانات تحتوي على العديد من الأسئلة تطرح عليه، نعرف من خلالها إدراك حجم الموهبة لديه، بالإضافة إلى تكليفه بكتابة مذكرات وقصص لتعرف اتجاهاته، وإلى جانب ذلك توجد اختبارات للقدرات، وهي مشروحة ومبيَّنة في كتب التربية وعلم النفس، وننجح في اكتشاف الموهبة أكثر إذا تعاونت المدرسة مع البيت.
ونتساءل متى تظهر الموهبة؟ قد تظهر الموهبة عند الطفل منذ الصغر، وقد يتأخر ظهورها إلى الكبر، فقد سمعنا عن أطفال في الماضي والحاضر قد حفظوا القرآن عن ظهر قلب وهم لم يتجاوزوا عقدهم الأوّل.
وسمعنا أن "موزار" قد بدأ يكتب سيمفونية في سن السادسة، ويقال: إنّ "أينشتين" كان لديه تصور عن نظرية النسبية وهو في السادسة عشرة من عمره.
ولو تتبعنا مذكرات العباقرة لرأينا الكثيرين قد ظهرت موهبتهم في الصغر، وبعضهم تظهر موهبته في الكبر، كمن كتب أفضل رواياته في الستين.
رعاية الأطفال الموهوبين:
عندما نكتشف الموهبة عند طفل، علينا أن نسارع إلى مدِّ يد العون إليه، فنرعى هذه الموهبة وننميها، ونشجعه بتقديم الحوافز الدافعة، ونهيئ المناخ المناسب لتنمو الموهبة، ونوفر كلّ الوسائل المتاحة لظهورها، مثل الألعاب الملائمة أو الأدوات أو الكتب التي تتضمن شرحاً وصوراً توضحية تزيد الموهبة وتقويها، وإلحاقه بالنوادي والمعاهد والمراكز والمشاغل التي تُنشأ لترقية المواهب وتهذيبها وتشذيبها وشحذها.
وأن نُحدِّث الطفل عن العباقرة الذين قدموا للبشرية أجمل ما عندهم من اختراعات وإنجازات وفنون من عرب وأجانب ليتخذهم قدوة.
وإذا ما قدم الطفل الموهوب إنجازاً أو نشاطاً من إبداع موهبته نُقَدِّره ونثمن جهده ونكافئه مادياً ومعنوياً، ونعلن ذلك على الملأ في وسائل الإعلام وفي مدرسته، مما يدفعه إلى الأمام قدماً.
ويكون للموهوبين شأن عظيم إذا تعاونت الأسرة والمدرسة والدولة على رعايتهم في سنوات تنشئتهم منذ الطفولة حتى آخر سن الشباب ووضعهم في مكانهم اللائق بعد أن يحملوا الشهادات العلمية العالية.
وتوفير كلّ ما من شأنه أن يساعدهم على الإبداع.
فهؤلاء الموهوبون ثروة بشرية لا تقدر بثمن فهم الذين سيقدمون عجائب عبقريتهم لأُمّتهم وأوطانهم.
وإذا لم تقم الأسرة والمدرسة في كشف مواهب الأطفال ورعايتها فإنها تموت بموت أصحابها.
وللأستاذ الدكتور فاخر عاقل كلام جميل حول اكتشاف الموهوبين ورعايتهم في كتابه أصول علم النفس يقول فيه: "إنّ الموهوبين هم عدة الأُمّة وخميرتها وطليعتها، والعباقرة هم موهوبون دوماً.
والأُمّة الذكية الواعية هي الأُمّة التي تحرص على اكتشاف الموهوبين من أبنائها وتفسح لهم المجال لكي يحققوا إمكاناتهم ويظهروا كفاءاتهم، فيفيدوا ويستفيدوا.
ولا شك في أنّ البيت الصالح والمدرسة الجيدة هما البوتقتان الأساسيتان اللتان تنصهر فيهما هذه المعادن الثمينة.
فإلى البيت والمدرسة يجب أن تتجه العناية لتربية هؤلاء الموهوبين وتهيئة أولئك النابغين العباقرة، وإلا فإنّ الأُمّة تهدر أثمن ما عندها وتتخلى عن طليعتها إلى التقدم والنجاح".
وفي المدارس ثلاثة اتجاهات لرعاية الموهوبين:
· الاتجاه الأوّل: إلحاقهم بصف أعلى من صفهم.
· الاتجاه الثاني: جمعهم في صف خاص بهم يسمى صف الموهوبين.
· الاتجاه الثالث: إبقاؤهم في صفهم وتخصيص منهاج إضافي لهم ملحق بالمنهج المدرسي ينمي ذكاءهم ويحرك قدراتهم، وهذا الاتجاه أسلم من غيره.
وقد نوجد طرقاً أخرى وأنجع ما سبق، فالموهوبون جديرون بالاهتمام والرعاية لأنّهم سيشكلون – في المستقبل – الأدمغة الذكية التي ستقود البلاد – في كثير من مناحي الحياة – إلى التقدم والتطور!!
المصدر: كتاب تربية الأطفال بين البيت والمدرسة للكاتب أحمد حسن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق