• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان المبارك.. مدرسة الصبر وتربية الإرادة

حجازي إبراهيم*

رمضان المبارك.. مدرسة الصبر وتربية الإرادة

فرض الله تعالى الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة، فليس عجيباً أن ترتقي روح الصائم، ويقترب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربه فيستجيب له، ويناديه فيقول: "لبيك عبدي لبيك". قال رسول الله (ص): "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين". ولعل ذلك يفسر أن آية الدعاء تتخلل آيات الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) (البقرة/ 186).

 

-       تربية الإرادة:

وفي الصوم تقوية للإرادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع، وأمامه أشهى الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجه، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا تسنده إلا إرادته القوية الواعية. لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثاً عن تقوية الإرادة، أثبت فيه أن أعظم وسيلة لذلك هي الصوم، ولذلك كان للصوم أثر كبير في علاج الأمراض النفسية، يقول الدكتور محمد حافظ: إنّ الصوم يترك في نفس المسلم الثقة والسكينة والأمن، ويباعد بينه وبين التنافس المحموم على متاع الدنيا، كما يقدم لنا الصوم أرقى صور الرشد الإنساني المتنامي نحو الرقي في الحياة الدنيا وذلك عندما يتحكم في أقوى غرائزه وشهواته، ثمّ يقدم عرضاً غيبياً تعشقه الفطرة، وهو الوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى، وتلك بغية كلّ مؤمن. أما الإسلام فقد سبق علماء النفس، كما سبق من قبل أطباء الجسم، وحسبك أن تسمع نداء الرسول (ص) للشباب "يا معشر الشباب من إستطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر وأحسن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء".

 

-       مدرسة الصبر:

ولأن رمضان يعلّم الصبر، فقد سمي قهر الصبر، فعن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها "أنّه أتى رسول الله (ص) ثمّ انطلق، فأتاه بعد سنة، وقد تغيرت حاله وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأوّل، قال: فما غيّرك، وقد كنت حسن الهيئة؟ قلت: ما أكلت طعاماً منذ فارقتك إلا بليل، فقال رسول الله (ص) لِمَ عذبت نفسك، ثمّ قال: صم شهر الصبر، ويوماً من كل شهر، قال: زدني فإن بي قوة، قال: صم يومين، قال: زدني، قال: صم ثلاثة أيام، قال زدني، قال: صم من الحُرُم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثمّ أرسلها". قالوا إنّ الإشارة بأصابعه الثلاثة لإفادة أنه يصوم ثلاثاً ويترك ثلاثاً. قال رسول الله (ص): "لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر". إنّ الإسلام ليس دين إستسلام وخمول، بل هو دين جهاد وكفاح متواصل، وأول عدة للجهاد هو الصبر والإرادة القوية، فإن من لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدواً، ومن لم ينتصر على نفسه وشهواتها، هيهات أن ينتصر على عدوه، ومن لم يصبر على جوع يوم، هيهات أن يصبر على فراق أهل ووطن من أجل هدف كبير. والصوم بما فيه من الصبر، وفطام للنفوس من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان، ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش، ما دام ذلك في سبيل الله.

 

-       التعريف بالنعيم:

ومن حكم الصوم أنّه يعرَّف المرء بمقدار نعم الله عليه، فالإنسان إذا تكررت عليه النعم، قل شعوره بها، فالنعم لا تعرف إلا بفقدانها، فالحلو لا تعرف قيمته إلا إذا ذقت المر، والنهار لا تعرف قيمته إلا إذا جن عليك الليل، وبضدها تتميز الأشياء. ففي الصوم معرفة لقيمة الطعام والشراب والشبع والري، ولا يعرف ذلك إلا إذا ذاق الجسم حرارة العطش ومرارة الجوع. ومن أجل ذلك ورد أنّ النبي (ص) قال: "عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً... فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك". روي أن يوسف (ع) كان يكثر الصيام، وهو على خزائن الأرض، بيده المالية والتموين، فسئل عن ذلك، فقال: "أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير".

 

-       شهر لتطهير البيئة:

وإذا كانت الدول درجت على أن تجعل في العام أسبوعاً تسميه أسبوع البيئة، تنشر فيه الوعي، وتشجع على نظافة البيئة، من الفضلات والنفايات التي تؤذي الناس وتضر بهم. إذا كان هذا شأن الدول، فإنّ الإسلام جعل للمسلمين شهراً في العام لتطهر البيئة من الذنوب والآثام، وهذا هو شهر رمضان، بما فيه من صيام وصلاة وقيام وجود بالمال وصلة للأرحام وتلاوة للقرآن، وتهجد بالليل، وإستغفار بالأسحار. كلّ ذلك ينطلق في الأجواء، ويملأ الفضاء، فيذيب رواسب العام من الذنوب، كما أنّ هذا الشهر تقل فيه المعاصي والذنوب، حيث المسلم أكثر قرباً من الله، وأقوى رقابة وتقوى، وفي هذا الشهر المبارك تصفد الشياطين. إنّه أمثل أسلوب لتنظيف البيئة، حيث تجفف منابع المعصية، وترسل المطهرات فتنقي البيئة من جراثيم المعصية التي تخنق على الناس أنفاسهم، وتذهب ببركة أرزاقهم، وتنزل بهم من الأمراض ما لم يكن في أسلافهم. ذلكم هو الصوم في الإسلام، لم يشرعه الله تعذيباً للبشر ولا إنتقاماً، كيف وقد ختم آية الصوم بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، وإنما شرعه الله إيقاظاً للروح وتصحيحاً للجسد، وتقوية للإرادة، وتعويداً على الصبر، وتعريفاً بالنعمة، وتربية لمشاعر الرحمة، وتدريباً على كمال التسليم لله رب العالمين.

   *من علماء الأزهر

ارسال التعليق

Top