• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سيدة في الصف الطويل

سمير عطا الله

سيدة في الصف الطويل

كان نهاراً خريفياً. وكانت الساعة قرابة الخامسة بعد الظهر وكانت محطة القطار شبه فارغة في "تورنتو". ربما كان ذلك اليوم يوم عطلة، أو أنّ الساعة نفسها لم تكن ساعة ازدحام. لكن المحطة بدت شبه خالية في أي حال. وأذكر جيداً الآن كيف كان بلاطها العتيق الأصفر يلمع وكيف كان بالإمكان أن تسمع وقع الأحذية القليلة. وكان هناك عدد قليل من الناس في انتظار قطار ذاهب أو آتٍ.

لاشكّ في أنّ الفصل كان خريفاً، فقد قال لي موظف التأشيرات قبل أيام، وكأنّه يغبطني: "آه، سوف تصل إلى هناك، وقد احمرت الأوراق على الشجر"! والكنديون ليس لديهم سوى الخريف يحنون إليه من بين الفصول، فإنّ ما قبله صيف لاهب وبعده شتاء طويل مثل ليل المؤرقين. لاشكّ، إذاً، في أنّه كان يوماً خريفياً. وكان يوماً هادئاً وناعساً، وكانت محطة القطار تحمل ملامح الصمت والتأمل. مثل جميع نقاط السفر. وكان هناك في الزوايا بعض الذين ينامون فوق حقائبهم؛ انتظاراً لرحلات طويلة عبر تلك البلاد الشاسعة. وحين تقدمت إلى نافذة التذاكر كانت تقف أمامي فقط سيدة مسنة. وبدا الموظف الذي يرتدي سترة زرقاء داكنة، وكأنّه الوحيد هناك أو كأن جميع موظفي السكك قد أحيلوا إلى التقاعد ذلك النهار. ووقفت أنتظر. كنا في الخريف. وكانت السيدة واقفة أمامي تستعلم عن رحلة سوف تقوم بها في حزيران أو في أيار على أقرب تقدير. وكان الرجل يجيب. يسمع ثمّ يجيب. يصغي ثمّ يبتسم ثمّ يجيب. ثمّ يبتسم. ثمّ ينحني أمام السيدة المسنة؛ ليشرح لها على خريطة تحملها، كيف سيقطع القطار وديان الغرب الكندي وأين يتوقف ومن أي نافذة يمكنها أن تشاهد الجبال، ومن أي جانب تستطيع أن ترى البحيرات.

ووقفت أنتظر! وبعد دقائق تطلعات خلفي فوجدت أنّ الصف الذي كنت أقف فيه وحدي مع السيدة المسنة قد أصبح طابوراً طويلاً من الناس. وظل الطابور يكبر والرجل ذو السترة الزرقاء يبتسم. ويشرح. ثمّ يصغي ثمّ يبتسم. وأخذت أتأفف. وبعد قليل بدأت أخشى أن ينفجر أهل الطابور، وأن يهجموا على الرجل ويرموه أرضاً. وتطلعت خلفي، فإذا أهل الطابور يبتسمون. ينتظرون ويبتسمون. كان بعضهم يقرأ صحيفة ما، وهو يضع حقيبته بين ساقيه، والبعض الآخر يقرأ كتاباً ما، والبعض الثالث لا يقرأ شيئاً. فقط يبتسم وينتظر.

وامتد الطابور على مدى المحطة تقريباً والرجل، ذو السترة الزرقاء الداكنة، يقلب الخرائط. كان يوماً خريفياً جميلاً. وكان هذا الرجل يشرح بكلِّ صبر وأناة لسيدة مسنة كيف يمكن لها أن توفر خمسة دولارات إذا هي سافرت إلى المقاطعات البحرية في حزيران، بدلاً من تموز، ويقول لها ماذا يجب أن تشاهد إذا وصلت إلى "مانيتوبا" في أيار! ولم يكن هناك شك لدى أحد في أنّ كلّ ما كانت تريده تلك السيدة هو التحدث إلى مخلوق ما، غير كلبها الصغير الذي كانت تؤنبه بكلِّ لطف بين فترة وأخرى. لقد كانت تريد أن تقتل وحدتها في مكان، فلم تجد أفضل – أو ربما أقرب – من محطة القطار.

وأخيراً، أخيراً، لم يكف الرجل ذو السترة الزرقاء عن الابتسام. ولم يتوقف عن الإجابة. ولم ينتفض في وجه المرأة المسنة. بل كلّ ما فعله، أخيراً، أنّه ترك نافذة التذاكر قليلاً ودخل إلى المكتب وطلب من زميل له، كان على الأرجح في استراحة، أن يفتح نافذة أخرى لبقية الطابور! وانتقلنا جميعاً من ذلك الصف الطويل إلى النافذة الأخرى، بينما ظل الرجل ذو السترة الزرقاء الداكنة يبتسم، وظلت السيدة المسنة تطرح الأسئلة حول رحلة حزيران أو أيار على أقرب تقدير.

ولاحظت أنني كنت الوحيد الذي تأفف. وكنت الرجل الوحيد الذي تذمر وخطر لي وأنا في القطار إلى "أوتاوا" بعد ذلك بقليل، أنني تذمرت؛ لأنني كنت قادماً من بلد ليس فيه مقعد عام واحد للمتعبين وللمسنين. من بلد ليس فيه رصيف واحد للمشاة، من بلد ليس فيه حديقة واحدة للأطفال. وقادماً من مدينة ليس فيها استراحة واحدة للبشر. مدينة بنيت حجارتها فوق بعضها البعض وارتفعت مبانيها في العلو وكثرت دكاكينها توالدت مخازنها، لكنها لم تزرع شجرة واحدة يستفيء بها الناس، ولم تقم منتزهاً واحداً وتركت المسنين لشرفات المنازل يمضون بقية أعمارهم عليها.

ومنذ ذلك اليوم الخريفي، وأنا أحب كندا، ويضحك مني أصدقائي ويقولون إنني أعاني حباً خفياً للدببة وثلوج القطب. وتتضايق مني زوجتي كما قلت لها إنّ علينا أن نسافر إلى هناك، ويسألني بعض الرفاق كيف تحملت ذلك البلد المليء بالثلوج، والضجر والشتاء الطويل.

وأفضل دائماً ألا أجيب فنحن قادمون من بلد ليس فيه مقعد عام واحد للمسنين، ولا حديقة للأطفال.

 

المصدر: كتاب مسافات في أوطان الآخرين

تعليقات

  • shieenda

    قصه ولا اروعععع

ارسال التعليق

Top