لقد كان الدعاء في بعض الأزمنة السابقة مجرّد وسيلة لملء الفراغ وإضاعة الوقت، كانت هذه الأدعية لا شيء في الحقيقة، لم يكن فيها سوى صوت جميل قد يحرّك الإنسان قليلاً، ولا شيء فوق ذلك، وهذا – مجرّد الصوت – ليس دعاءاً.. فإنّ الدعاء إذا كان عبارة عن الارتباط بالله، فلابدّ أن يتوفّر له المحيط المعنويّ المناسب، محيط فيه الصالحون الذين يأنسون بمخاطبة الله ومناداته –، وعندئذٍ فقط يُصبح للأدعية في الإذاعة فائدتها وتأثيرها؛ لأنّ القلوب حينئذٍ تكون مستعدّة، والأرواح مأنوسة بالله عزّ وجلّ، وعندئذٍ يكون للدعاء قيمته الكبيرة، وإليه حاجة ماسّة.
فللدعاء فوائد جمّة، نشير إلى بعضها فيما يلي:
1- إحياء ذكر الله في القلوب وإزالة الغفلة، والتي هي أساس الانحراف والفساد اللذين يعتريان حياة الإنسان، وتعويد الإنسان على الذكر وترسيخه في قلبه. وإنّ أكبر الخسائر التي يُمنى بها الإنسان نتيجةً لترك الدعاء هي زوال ذكر الله من القلب، ليتآكل هذا القلب بنيران النسيان والغفلة.
2- تقوية الإيمان وتثبيته وترسيخ دعائمه في قلب الإنسان؛ فإنّ الإيمان مهدّد دائماً بخطر الزوال والتلاشي، ولاسيّما عند اصطدام الإنسان في هذا الدنيا بأحداث العالم ومشاكله ومشاغله ومغرياته وملذّاته و..
لقد تعرّفنا في السابق على بعض الأشخاص المؤمنين، لكنّ هؤلاء فقدوا إيمانهم عندما امتُحنوا بالجاه والأموال والسلطة والشهوات الجسديّة والقلبيّة، لذلك يُوصف مثل هذا الإيمان الذي كان عند هؤلاء بأنّه (إيمان متزلزل)، وليس (إيماناً راسخاً).
ومن خصوصيّات الدعاء أنّه يفيد في ترسيخ الإيمان وإقراره في قلب الإنسان، ومن خلال المواظبة والاستمرار على الدعاء، والتوجّه إلى الله تعالى، يزول الخطر الذي يتهدّد هذا الإيمان بالزوال.
3- نفث روح الإخلاص في قلب الإنسان، فإنّ الحديث مع الله تعالى والتقرّب منه بالدعاء والمناجاة يعمّق في الإنسان روح الإخلاص، الذي يعني: العمل لله بنيّة خالصة.
وفي الوقت الذي نعلم بأنّ جميع الأعمال المشروعة والمباحة التي نقوم بها في حياتنا اليوميّة يجوز ويُستحبّ لنا أن ننويها لله تعالى، فإنّنا نجد أنّ بعض المؤمنين لا يتمكّنون حتى من تأدية أهمّ الأعمال العباديّة – كالصلاة – قربةً إلى الله تعالى!! وما ذلك إلّا بفعل الثقل الكبير الملقى على أرواحهم وقلوبهم بسبب ترك الدعاء والحديث مع الله عزّ وجلّ.
4- ترسيخ وتنمية الفضائل الأخلاقيّة في نفس الإنسان، فالإنسان من خلال ارتباطه بالله تعالى ومناجاته، يقوّي مكارم الأخلاق في نفسه، أي: أنّ الدعاء هو من الأمور التكوينيّة والطبيعيّة التي تمنح الإنسان شعوراً بالاستئناس في محضر الباري تعالى.
فالدعاء يُعدّ سلّم عروج الإنسان نحو خالقه، وبالتالي: سلّم عروجه نحو الكمالات والفضائل. وفي الجهة المقابلة، فإنّ الدعاء يزيل الرذائل والعيوب الأخلاقية من نفس الإنسان ويُبعدها عن وجوده وكيانه، فهو يُبعد الإنسان عن البخل والتكبّر والأنانيّة والعداء لعباد الله وضعف النفس والجبن والجزع.
5- إحياء وإيجاد المحبّة لله تعالى، فالدعاء والأنس والنجوى مع الله يخلق عشق الله وحبّه في قلب الإنسان.
6- بثّ روح الأمل في وجود الإنسان، فالدعاء يهب الإنسان القدرة والقوّة على مواجهة كلّ التحدّيات التي قد تواجهه في الحياة، فإنّ كلّ إنسان لابدّ أن يصطدم مع مشاكل الحياة وتحدّياتها، والدعاء هو ما يعطي الإنسان القوّة والإمكانيّة ويجعله قادراً على مواجهتها، ولهذا عُبّر عن الدعاء في الأحاديث بأنّه (سلاح)، فقد رُوي عن الرسول الأكرم (ص) أنّه قال: "ألا أدلّكم على سلاح يُنجيكم من أعدائكم، ويدرّ أرزاقكم؟! قالوا: بلى يا رسول الله، فقال (ص): تدعون في اللّيل والنهار؛ فإنّ سلاح المؤمن الدعاء".
إنّ الاستعانة بالله هي سلاح قاطع في يد الإنسان المؤمن؛ ولهذا فإنّ النبيّ الأعظم (ص) مع ما كان يمارسه من أعمال في ساحة الحرب، كتجهيز الجيش، ورصّ الصفوف، وتوفير الإمكانات المطلوبة للجند، وتأمين العتاد اللّازم، و.. فإنّه أيضاً كان يسجد في وسط الميدان ويتوجّه إلى ربّه رافعاً يديه بالدعاء متضرّعاً إلى الله تعالى ومتوسّلاً إليه أن يمدّ المسلمين بالعون والغلبة والنصر من عنده. فالدعاء إذاً يبعث على القوّة في قلب الإنسان.
7- قضاء الحوائج. وهذا أحد مكتسبات الدعاء وغنائمه. فالله تعالى هو أمرنا بأن ندعوه ونسأله قضاء حوائجنا، عندما قال في كتابه المنزل: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 32)، وعندما يكون هو تعالى من أمرنا بذلك، فهذا يعني أنّه عازم على أن يُعطينا ما نريد، ولذلك ورد في الخبر عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "ما كان الله ليفتح على عبدٍ باب الشكر ويُغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبدٍ الدعاء ويُغلق عنه باب الإجابة..".
وبهذا المعنى أيضاً ما ورد عن إمامنا سيّد العابدين عليّ بن الحسين (ع) في الدعاء الذي ينقله عنه أبو حمزة الثماليّ – وهو الدعاء المعروف بـ(دعاء أبي حمزة الثمالي)، وكان (ع) يدعو به وقت السحر –: "وليس من صفاتك يا سيّدي أن تأمر بالسؤال وتمنع العطيّة، وأنت المنّان بالعطيّات على أهل مملكتك، والعائد عليهم بتحنّن رأفتك".
الرسول الأكرم (ص) والدعاء:
كان (ص) القدوة والأسوة في العبادة، لدرجة أنّ قدميه كانتا تتورّمان من طول الوقوف في محراب العبادة. وكان يقضي القسم الأكبر من اللّيل في العبادة والتضرّع والبكاء والاستغفار والدعاء ومناجاة الله تعالى. وكان يصوم شهري رجب وشعبان، فضلاً عن شهر رمضان، في ذلك الحرّ القائظ، إضافة إلى كثير من أيّام السنة، وعندما كان أصحابه يقولون له: يا رسول الله، لماذا كلّ هذا الدعاء والاستغفار والعبادة، وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فإنّه (ص) كان يجيبهم: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!►
المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 70 لسنة 2011م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق