• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في سيكولوجية رمي القمامة بالأماكن العامة

في سيكولوجية رمي القمامة بالأماكن العامة

هي مواد عضوية وغير عضوية قد تتراوح بين قشور الفاكهة والخضار وأعقاب السجائر والعبوات البلاستكية والزجاجية والأوراق والجرائد القديمة والغسالات والبرادات والسيارات المستهلكة، أو أي شيء آخر نريد التخلص منه.

هي القمامة التي يمكن تعريفها بـ«النفايات» التي تبدو «في غير محلها» والتي لها، مما لا شك فيه، علاقة بالمسألة الجمالية، ولكنها أيضًا غنية بالمعاني الاجتماعية التي تدور حول بعض القضايا المحورية، مثل التلوث والحفاظ على الحياة البرية والبحرية، وكذلك النزعة الاستهلاكية والأخلاق والنظام الاجتماعي.

 

 الجدير بالذكر أنّه على الرغم من أن النظرة العامة اليوم المتعلقة بالقمامة نظرة مرتبطة بمشاعر الاشمئزاز والقرف والتخلف الاجتماعي، إلّا أن الأمر لم يكن دوماً كذلك، فكل هذه المواقف السلبية تجاه القمامة حديثة إلى حد ما. وهذا ما تؤكد عليه الدكتورة لوريتا براون، أخصائية الحطام البحري والتوعية، التي تقول إنه على الرغم من أن إلقاء القمامة قد يكون سلوكاً بشرياً فطرياً ولكنّه حتى وقت قريب جداً لم يكن يعتبر شيئاً سيئاً على الإطلاق، وتضيف أنّه: «من المحتمل أن يعود رمي القمامة إلى جذورنا كجنس بشري، بحيث إنّه لطالما كانت تنتج عنا نفايات من نوع ما، ولكن منذ وقت ليس ببعيد لم يكن رمي النفايات يعتبر مشكلة كبيرة، لأنّها كانت في الغالب قابلة للتحلل البيولوجي، بالإضافة إلى إمكانية تحولها إلى سماد مفيد للتربة، لكن الأمر تغير تماماً مع اختراع البلاستيك وحتى بعد أن حوّل البلاستيك القمامة إلى مشكلة أكثر استعصاءً استغرق الأمر بعض الوقت حتى يتعرف المجتمع الأوسع على حجم المشكلة التي تتأتى من رمي القمامة». وتأكيدًا لذلك كشفت الدراسات الاستقصائية أنّه في أواخر الستينيات كانت للناس رؤية مختلفة لإلقاء القمامة بشكل علني في الأماكن العامة، مما هي عليه اليوم، لكن بحلول الثمانينيات نما الوعي العام وأصبح يُنظر إلى القمامة على أنّها غير مقبولة إلى حد كبير لا سيما مع ظهور الحركات العالمية الداعية للحفاظ على البيئة.

وعلى الرغم من الإجماع العام على بشاعة منظرها والراوئح الكريهة التي تنبعث منها والأذى والأمراض التي قد تتسبب فيها، مازلنا نجد القمامة في الكثير من الدول والبلدان المختلفة حتى في بعض المناطق من الدول المتقدمة أيضاً. لكن ما هي الدوافع النفسية والاجتماعية التي تدفعنا إلى رمي القمامة في الأماكن العامة؟ أو بالأحرى ما هي سيكولوجية رمي القمامة؟

 

إشارات مرئية وعقلية القطيع

يقول عالم النفس البيئي لي تشامبرز Lee Chambers، إن مشكلة القمامة أكثر تعقيداً مما يعتقده الناس، وأحياناً هي أكثر من مجرد لحظة أنانية أو عدم اهتمام. ففيما يتعلق بالأسباب التي تدفعنا إلى رمي القمامة يمكننا الحديث عن عدة عوامل، من بينها تأثير الإشارات البيئية وعقلية القطيع وطبيعة المساحة ذات الصلة وتحليل التكلفة والعائد، وكلها عوامل تتفاعل مع بعضها البعض وتعدل تأثيرات بعضها الآخر. فعادة ما يبحث البشر عن إشارات في المناطق التي يتواجدون فيها لفهم القاعدة الاجتماعية السائدة حولهم، بحيث إن ظهور القمامة يعتبر إشارة بيئية بصرية تقول إن إلقاء القمامة أمر مقبول، لكن الاستجابة إلى تلك الإشارات البيئية تتفاوت حسب كمية القمامة الموجودة في مساحة معينة، فأظهرت الأبحاث أنه مع وجود قطعتين فقط من القمامة في مساحة معينة يعمد 78 في المئة إلى  90 في المئة من الأشخاص إلى استخدام صناديق القمامة بدلاً من رمي القمامة على الأرض، أما مع وجود ثلاث قطع أو أكثر تزداد نسبة رمي القمامة بشكل كبير بحيث لا يعمد إلًا 41 في المئة فقط من الأشخاص إلى اللجوء إلى صناديق القمامة لرمي نفاياتهم. وفي هذا الإطار أجرت مجموعة من علماء النفس اختباراً تم فيه وضع بعض المنشورات الورقية على الزجاج الأمامي للسيارات المتوقفة في مرآب عام ومن ثم تم التحكم بمتغيرين أساسيين:

أولًا، تم إظهار المرآب بشكلين اثنين، بحيث كان في الشكل الأول ممتلئاً بمجموعة كبيرة من النفايات مثل أغلفة الحلوى وأعقاب السجائر والأكواب البلاستيكية، بالإضافة إلى بعض المنشورات مثل تلك التي كانت موضوعة على زجاج السيارات (وذلك في محاولة لتوصيل إشارة بصرية مؤيدة لإلقاء القمامة)، وفي الشكل الثاني كان يحتوي على القمامة التي تم احتواؤها وتكنيسها في أكوام على جنب (في محاولة لتوصيل إشارة للقاعدة الزجرية لإلقاء القمامة)، أما المتغير الثاني فكان دخول شخص إلى المرآب بحيث كان في الحالة الأولى يرمي منشوراً يزيله عن سيارته على الأرض في العلن أمام الجميع، وفي الحالة الثانية كان يمر دون أن يقوم بأي شيء. فكانت النتيجة أنّه عندما دخل المشاركون، أصحاب السيارات المتوقفة، وشاهدوا الشخص وهو يمر دون القيام بأي شيء وبالتالي لم يركز المشاركون على أي معيار معين لم يكن لحالة المساحة المحيطة (أي إذا كان المرآب مليئاً بالنفايات أو نظيفاً) أي تأثير يذكر فبلغت نسبة إلقاء المنشور من قبل المشاركين على الأرض 33 في المئة بالمساحة التي تتضمن أكواماً من القمامة و29 في المئة بالمساحة النظيفة. أما في الحالة التي رأى فيها المشاركون الشخص وهو يلقي بالمنشور على الأرض اختلف الأمر تماماً بين حالتي المرآب النظيفة والمليئة بالقمامة، ففي المرآب النظيف ركز المشاركون على معيار وصفي مؤيد لإلقاء القمامة، ولكن أيضًا على معيار زجري لمكافحة إلقاء القمامة، وهذا التغيير في التركيز أدى الى انخفاض معدل إلقاء القمامة إلى 18 في المئة فقط، أما في حالة المرآب المليء بالنفايات فقد تلاقت المعايير المؤيدة لإلقاء القمامة بين حالة المرآب وما رآه المشاركون من الشخص الذي كان يلقي القمامة فازدادت معدلات رمي النفايات إلى  45في المئة.

 

تراكم القمامة ونظرية النوافذ المحطمة

وفي تفسير ذلك يقول روبرت سيالديني Robert Cialdini، الأستاذ الفخري لعلم النفس والتسويق بجامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية ومؤلف كتاب «التأثير... علم نفس الإقناع»، إنّه بناء على عدد من الدراسات التي أجراها في البحث عن الطرق المناسبة للحد من رمي النفايات، اكتشف أن إحدى الخصائص الأساسية للطبيعة البشرية هي أننا نحاكي تصرفات من حولنا أو بالأحرى تسود بيننا عقلية القطيع، بمعنى أننا نقوم بما نعتقد أنه متوقع منا وفقاً للأعراف الاجتماعية السائدة. فالأمر يتعلق بالمعايير والتوقعات بحيث إنه عندما تتغير المعايير تتغير التوقعات أيضاً، ومن هنا كان تأثير الشخص الذي كان يرمي القمامة في المرآب على سلوك المشاركين، ومن هنا كان تفاعلهم مع الإشارات المرئية التي قدمت لهم، سواء كان جراء سلوك الشخص المذكور أو من بيئة المرآب المحيطة بهم. تردد أبحاث سيالديني صدى «نظرية النوافذ المحطمة» التي قدمها لأول مرة عام 1982 عالما الاجتماع جيمس كيو ويلسون وجورج إل كيلينج، والتي تنص على أنّه إذا كانت هناك نافذة مكسورة في مبنى ما ومر عليها بعض الوقت وهي على تلك الحالة ولم يتم إصلاحها، سيستنتج الناس الذين يمرون بها أنّه لا أحد يهتم وأنه ليس هناك أي مسؤولية أو أي عقاب لمن يقوم بمثل هذا الفعل، لذلك بعد فترة من الزمن سيتم تكسير المزيد من النوافذ. وهكذا، وكما تؤدي إحدى النوافذ المكسورة إلى المزيد من النوافذ المحطمة، سيؤدي امتداد القمامة المتناثرة على الشاطئ، مثلاً، أو على الطريق السريع إلى المزيد من القمامة.

كما أن الإطار - أو طبيعة المساحة ذات الصلة - له تأثير من ناحية أخرى، إذ قد تكون له علاقة بالشعور بالمسؤولية تجاه نظافة المكان والذي يمكن أن يكون أقوى أو أضعف اعتماداً على نوع المساحة المعينة وعلاقة الفرد بالمكان الذي يتواجد فيه. هناك أدلة قوية تشير إلى أن الشعور بالمسؤولية الشخصية يختلف بين المواقع، وأنّه عندما يشعر الناس بمسؤولية شخصية أقل بالحفاظ على المساحة التي يتواجدون فيها فمن المرجح أن يعمدوا إلى رمي القمامة فيها. على سبيل المثال، هناك أماكن مثل ملاعب كرة القدم والمواقع التي تقام فيها المهرجانات الموسيقية التي يشعر فيها الناس بإمكان تخليهم عن جميع القيود اليومية السائدة عندهم وإنشاء «معايير اجتماعية» جديدة لا سيما عندما يعتقدون أن هناك أشخاصاً آخرين سينظفون قمامتهم. وهناك أيضاً الأماكن التي تكون فيها البنى التحتية ضعيفة والتي تنقص فيها الاستثمارات وتشكو من الفقر بحيث يمكن للأفراد أن يشعروا فيها بالحرمان أو الاغتراب عن مجتمعهم مما يولد دافعًا لرمي القمامة التي تكون في بعض الحالات شكلاً من أشكال التمرد.

 

تحليل التكلفة والعائد

مما لا شك فيه أن رمي القمامة في مساحة معينة يرتبط بعدد صناديق القمامة المتوفرة فيها وطرق توزيعها، وفيما يتعلق بذلك الأمر وجد عالم النفس الاجتماعي ويسلي شولتز Wesley Schultz أن المسافة إلى أقرب سلة مهملات لعبت الدور الأكبر في تحديد ما إذا كان الشخص سوف يرمي القمامة على الأرض أم لا، فكلما كان صندوق القمامة بعيدًا ازداد احتمال رمي الشخص للقمامة على الأرض. أما السبب في ذلك فيعود إلى أننا على غرار ما نقوم به في عالم التجارة والأعمال في تحليل التكلفة والعائد بحيث تميل أدمغتنا إلى تفضيل الطرق المختصرة والذهاب نحو الخيار الأسهل من أجل بذل مجهود وطاقة أقل. كذلك إذا ما اعتقدنا أن هناك صعوبة في الوصول إلى صندوق القمامة أو أنّه غير متاح أمامنا، وأن الوصول إليه يتطلب جهداً وطاقة ووقتاً أطول، وهو ما ينضوي تحت خانة التكلفة، فمن المرجح أن تزداد إمكانية رمينا القمامة على الأرض حتى لو كانت النوايا بالمحافظة على البيئة سليمة. كما أن معظم الناس قد يجدون أن التمسك بالقمامة لفترة طويلة وهم يبحثون عن صندوق قمامة غير مريح، لذلك يعمدون إلى رميها على الأرض.

وأخيراً، إذا ما علمنا أن اختيار إلقاء القمامة من قبل الأفراد يعتمد على عدد متنوع من العوامل ويتأثر بالثقافة والقيم والأعراف والإطار الطبيعي القائم، فيمكننا نحن، كما يمكن لأصحاب القرار، أن يعمدوا إلى إيجاد أفضل الطرق للتخلص من مشكلة رمي القمامة. ومن بين هذه الطرق الاستفادة من استجابة الناس للأعراف الاجتماعية التي تعتبر إحدى الوسائل الفعّالة لتغيير السلوك المتعلق بإلقاء القمامة، بالإضافة إلى معرفة أن السبب في كون منطقة معينة مليئة بالنفايات ومنطقة أخرى خالية منها يكمن في المنطقة نفسها والطريقة التي يعتني بها المجتمع ككل، وإدراك أن وضع صناديق القمامة أمر أساسي ولكن وضع النوع الصحيح من الصناديق في الأماكن الصحيحة هو الأهم. أما التخلص من القمامة على المدى الطويل فيتطلب استثماراً من جميع الجهات واستعداداً لتغيير ثقافة الاستهلاك وتعريف النفايات والتفاعل البيئي.

ارسال التعليق

Top