قال تعالى: (الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (البقرة/ 177).
حثّت الشريعة على ضرورة رعاية الأيتام والتحنّن عليهم كمؤشّر على سلامة المجتمع وتكاتفه وتعاضده، فالمجتمع الذي لا يكرّم أيتامه مجتمع مفكّك، وهذا أمير المؤمنين يوصي بالأيتام حتى لحظة وفاته، فعنه (ع) – في وصيته قبل الموت –: الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (ص) يقول: "مَن عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عزّ وجلّ له بذلك الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار".
الأنبياء والأولياء متكفِّلوا الأيتام:
قال تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) (آل عمران/ 37). ولا يخفى أنّ كفالة نبي الله زكريا (ع) لمريم لم تكن كفالة مادّية بل معنوية وسياسية.
قال تعالى في مدحه للبيت العلويّ: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9).
التكفّل ثقافة عامة:
قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا).
وقوله (ويطعمون) يفيد أنّ هذه الآية تعلّمنا أنّ إطعام اليتيم ليس فعلاً فردياً وإنما عمل عامّ ينبغي أن يتحوّل إلى ثقافة الأُسر والعائلات، فالقرآن الكريم لم يمتدح فرداً معيّناً في الآية وإنما مدح كافّة أفراد هذا البيت الذين كانوا يحملون هذه الثقافة.
ولذلك أشارت الأحاديث المرويّة عن رسول الله (ص) إلى التركيز على كونها ثقافة بيوت وليست ثقافة أفراد فقط، أي تربية عوائلنا على هذه الثقافة الإلهية.
قال رسول الله (ص): "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا".
وعنه (ص): "خير بيوتكم بيت فيه يتيم مُكرّم".
ضوابط التكفّل ومعاييرُه:
قال تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف/ 82).
هذه الآية التي وردت في قصّة موسى والخضر إشارة واضحة إلى بناء الخضر لجدار اليتيمين دون أن يتّخذ عليه أجراً كما أشار عليه موسى (ع).
والآية تعلّمنا عدّة أمور:
1- أنّ الله هو الذي أمرنا برعاية الأيتام وتكفّلهم لقوله تعالى (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). وبالتالي فإنّ رعايتهم قبل كلّ شيء واجبٌ إلهيٌّ وتكليفٌ شرعيٌّ لا يجوز تجاهله أو تناسيه.
2- أنّ هذه الرعاية ينبغي أن تستمر حتى يبلغ اليتيم أشدّه أي يصبح بالغاً راشداً، أي حتى يستغني ويصبح قادراً على إعالة نفسه. وهذا المعنى أوردته الآية كذلك على أنّه إرادة إلهية لقوله تعالى: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا).
وقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الأنعام/ 152).
3- أنّ الرعاية ينبغي أن تشمل المحافظة على أموال اليتامى، فقد سوّغ الخضر (ع) فعله بقوله الله تعالى: (وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا)، فإنّ الاستهتار بمال اليتيم والتفريط به لا يقلّ سواءً عن أكل مال اليتيم.
4- أنّ هذه الرعاية ينبغي أن تكون مجانيّة فقد أبى الخضر أن يتخذ أجراً على عمله حتى بعد أن أشار عليه موسى (ع) بذلك. وقد سوّغ نبيّ الله الخضر (ع) هذا الأمر بقوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وفي ذلك إشارة إلى أنّ معاملة الأيتام ينبغي أن تكون قائمة على الرحمة لا بدل ولا عوض فيها يطلبه الإنسان وإنّما يتوسّم الأجر والثواب وعلوّ الدرجات يوم القيامة.
وهذا المعنى نراه كذلك في آية (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا)، والمعنى أنّ كافل اليتيم لا ينتظر جزاءً أو بدلاً على عمله، بل إنّه لا ينتظر ولا يريد حتى كلمة شكر على ذلك.
5- أنّ رعاية الأيتام ضرورية حتى ولو كانوا يملكون كفايتهم المادّية، فالآية تشير إلى أنّ هذين اليتيمين كانا يملكان كنزاً لقوله (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا)، ومع ذلك لم يتخذ نبي الله الخضر منهما أجراً على عمله مع أنّ الفعل الذي قام به نبي الله الخضر فعلٌ ماديٌّ وهو إقامة الجدار، وذلك لأنّ الرعاية التي يستحقّها اليتيم ليست دائماً رعاية مادّية، بل هناك رعاية معنويّة ونفسية واجتماعية وسوى ذلك، ومن الواجب ألّا نقصّر فيها.
6- ولعلّ هذه الآية أكثر دلالةً على اليتيم الذي كان أبوه صالحاً والذي يأتي بلا شكّ الشهيد على رأس هذه القائمة كونه مثال الصلاح ورمز الإصلاح، وبالتالي فإنّ هذه الآية أكثر مطابقةً لأبناء الشهداء.
أكل مال اليتيم:
قال تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9).
ولا يخفى أنّ أكل مال اليتيم لا يعني انتزاع حقّه من يده وسلبه إيّاه كما قد يتوهّم البعض، بل يصدق كذلك على عدم إعطائه حقّه الذي افترضه الله له ومنعه منه، فكلاهما أكلٌ لمال اليتيم.
1- من الكبائر: أي من الذنوب التي توعّد الله صاحبها بالخلود في النار. فعن الإمام الصادق (ع) – لمّا سئل عن الكبائر – قال: "منها أكل ما اليتيم ظلماً".
2- النار في الدنيا: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 10).
والآية واضحة أنّهم يأكلون في بطونهم ناراً في الدنيا قبل أن يصلوا السعير في الآخرة.
وعن رسول الله (ص): "شرّ المآكل أكل مال اليتيم ظلماً".
3- شدّة العذاب في الآخرة: والآخرة هنا تشمل عذاب البرزخ وعذاب الجحيم كما في تفسير الآية.
وأمّا عذاب يوم القيامة فعن رسول الله (ص): "يبعث ناس عن قبورهم يوم القيامة تأجّج أفواههم ناراً"، فقيل له: يا رسول الله مَن هؤلاء؟ قال: "الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً".
وأمّا عذاب البرزخ فعنه (ص) – في حديث المعراج –: "نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكّل بهم مَن يأخذ بمشافرهم ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار، فتُقذف في أحدهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ، فقلت: يا جبرئيل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً".
وفي الروايات أنّ رسول الله (ص) يقف يوم القيامة في مواجهة آكلي مال اليتيم في إشارة إلى أنّ التعدّي على اليتيم إنما هو تعدٍّ عليه، فقد ورد عنه (ص): "أنا خصيم يوم القيامة عن اليتيم والمعاهد، ومَن أخاصمه أخصمه".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق