• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف تستمتع بالشيخوخة؟

كيف تستمتع بالشيخوخة؟

يصف بعض الناس الحياة بأنّها أشبه بالمسرحية التي تضم عدة فصول ويقولون بأنّ الفصل الأخير منها "لم يكتب بطريقة جيدة"، لذلك قد تبدو الدعوة إلى الاستمتاع بالشيخوخة وهي زمان التردي في الضعف والمرض والخسارة في كلّ النواحي دعوة غير منطقية، وإذا حاولنا أن نقنع أحداً بأنّ للشيخوخة مزايا كما لها بعض العيوب نجده قد تناسى تماماً أي شيء إيجابي في هذه المرحلة وركّز على الجانب القاتم فلم يرَ غيره حيث يوجد مَن يعتقد بأنّ الشيخوخة ليس لها مزايا وليست زمن الاستمتاع.

وجهت إحدى الجامعات الأمريكية الدعوة لواحد من قدامى الأساتذة لتكريمه بمناسبة بلوغه سن الثمانين، وطلب منه الحضور أن يلقي كلمة في الحفل فبدأ حديثه قائلاً:

·      "هناك العديد... من الفضائل... للتقدم في السن..." ثمّ توقف، وابتلع لعابه، ولعق شفتيه، ونظر حوله في كلّ اتّجاه، وامتد صمته حتى تساءل الحضور عما أصابه ومنعه من تكملة ما بدأ من الحديث، وفي النهاية رفع عينيه وقال:

·      "لقد كنت فقط... أحاول... أن أتذكر أي شيء من هذه الفضائل للشيخوخة... فلم أجد!".

وإذا كان تفكيرنا موضوعياً بالنسبة للشيخوخة فإنّنا مع مَن يقول بأنّها ليست مرحلة مثالية في حياة الإنسان، لكنّنا نؤكد أنّ تبني أفكار سلبية عامّة عن الشيخوخة ينطوي على خطأ في التفكير لأنّ ذلك يحول دون أي فرصة للاستمتاع بها، صحيح أنّ تقدم السن يصاحبه الكثير من المتاعب، لكن هناك الكثير أيضاً من الأشياء الإيجابية التي نادراً ما يفكر بها أحد، وهذه هي مشكلة المسنين الذين لا يعبأون بالإنجازات الكثيرة التي حققوها في حياتهم، ولا يفكرون بما لديهم من أشياء يحسدهم عليها غيرهم من صغار السن مثل الزوجة الوفية، والأبناء والأحفاد والبيت الهادئ، وتضاؤل الأعباء المادية وكذلك الالتزامات والمسؤوليات المطلوبة منهم، لكن المسنين جميعاً تقريباً يعتبرون أنّ ذلك لا يكفي لأنّه تحقق بالفعل.. ونحن الآن نحتاج لما نفعله!

يجب أن يبدأ استعدادنا للشيخوخة مبكراً في الشباب حتى نزيد من فرص الاستمتاع بها حين نكبر، ولا نعني بذلك مجرد الاهتمام بالصحة في الصغر أو إدخار ما يكفي من الأموال لأنّ ذلك في الغالب لا يكفي لتحقيق السعادة والاستمتاع، إنّنا في الشيخوخة أشبه ما نكون بالمسافر الذي ينزل ببلد لم يذهب إليه من قبل، وكان قد أمضى حياته في بلد آخر تعود عليه وعرفه الجيران وارتبط بشوارعه وتردد على كلّ الأماكن به حتى ألفها جيداً، ثمّ كان انتقاله إلى البلد الآخر حيث لا يوجد شيء من ذلك الذي تعوّد عليه وألفه من قبل، إنّ ذلك ينطبق على وضع كثير من المسنين في مرحلة الشيخوخة، والاستعداد يكون بالنسبة للمسافر بأن يجمع المعلومات عن البلد الذي ينوي السفر إليه، وقراءة الكتب عن الجغرافيا والطقس هناك، عن الناس واللغة وغير ذلك، فهناك كتب سياحية ملونة يتم طباعتها لهذا الغرض، لكن الأمر بالنسبة للشيخوخة لا يكون كذلك فنادراً ما نجد مَن يستعد لهذه التجربة أو يخطط لها، كما أنّه من غير المألوف أن نجد كتباً سياحية ملونة تتحدث عن الشيخوخة وتقدم كدليل للمعلومات عنها!

وهنا نقدم بعض الأفكار التي تساعد على الاستمتاع بالشيخوخة، وكنت أود أن تكون مطبوعة في دليل جذاب مثل المطبوعات السياحية، لكن هذه دعوة إلى المسنين فقط للتفكير معي في هذا التصور للاستمتاع بالشيخوخة، وطالما أنّها إحدى مراحل العمر التي فرض علينا أن نعيشها بما لها وما عليها فلماذا لا نقرر أن نتخلص من متاعبنا فيها بقدر الإمكان، ها هي بعض السبل إلى ذلك..

·      لا للعزلة.. فالابتعاد عن الحياة يزيد الوضع سوءاً، ونحن نتكلّم ونفكِّر جيداً حين نكون مع الناس، وحين نناقش الآخرين، إنّ ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتدريب قدراتنا العقلية، والاحتفاظ بها في مواجهة ما قد يصيبها من تدهور مع السن، كما أنّه وسيلة لتدعيم ثقتنا في أنفسنا.

·      لا للفراغ.. عليك بشغل الوقت باستمرار، ولم لا يكون لديك برنامج يومي في حياتك؟ إنّ ذلك هو البديل عن الفراغ القاتل حيث تصحو من نومك وقت تشاء وتبقى دون تغيير ملابس النوم طول الوقت، وتأكل وقت تجوع دون انتظام، إبدأ بإعداد برنامج مناسب لسنك يتضمن بعض الأعمال التي كنت تقوم بها من قبل، أو حتى عمل جديد تتعلمه وتمارسه وتستمتع به، وهناك الكثير من الأعمال الخيرية المناسبة حيث تفيد الآخرين وتستفيد أنتَ نفسك.

·      استمر على علاقة بالعالم من حولك، ولا تسمح للعجز أو المرض الذي أصابك أن يفصلك عن العالم الخارجي، فضعف السمع أو البصر أو العجز عن الحركة يمكن استخدام وسائل للتغلب عليها، وطالما توفرت لدينا إرادة الحياة فلا يمكن أن يحول بيننا وبين الاستمتاع بهذه المصاعب.

·      العلاقة مع الماضي يجب أن تظل قائمة، وقد يكون النسيان سبباً لقلقك وحرجك في بعض المواقف لكنني هنا سأذكرك ببعض الوسائل التي تساعدك على التغلب على النسيان، فاستخدام مفكرة الجيب لتسجيل المواعيد وتدوين المعلومات الهامة، والإعداد المسبق قبل مواجهة بعض المواقف أو اللجوء إلى التذرع بتقدم السن بدل الحرج عند النسيان كلّها وسائل تخفيف من آثار النسيان، ولا تدع المجال لضعف الذاكرة ليحول بيننا وبين الاستمتاع بالحياة.

·      حاول أن تحتفظ بحالة من صفاء العقل والفكر، ولا تدع شيئاً يتملك تفكيرك ويعكر صفو حياتك، حاول أن تجعل الجو المحيط بك يساعدك على هذا الصفاء، وليكن المكان من حولك ملائماً ليشيع في النفس البهجة، ولا داعي لكلّ ما يثير مشاعرك أن يتواجد أمامك، وعليك أن تبقى فقط على الأشياء الجذابة.

·      عليك دائماً بالتفاؤل، والسبيل إلى ذلك أن تتبنى أفكاراً إيجابية عن الحياة فحين تردد لنفسك دائماً "الشيخوخة كلّها بؤس والآم" فإنّ مثل هذه العبارة قد تشيع في نفسك الاضطراب والهزيمة واليأس، أما إذا استبدلتها بعبارات أخرى إيجابية ترددها مع نفسك مثل "السعادة موجودة داخلي ومن حولي" ومثل "الحمد لله.. حالتي أحسن من غيري كثيراً" فإنّ ذلك من شأنه أن يملأك بالتفاؤل والفرق كبير جدّاً بين اليأس والتشاؤم من ناحية وبين الأمل والرضا والتفاؤل من الناحية الأخرى، إنّ السبيل إلى الاستمتاع هو عدم التخلي عن المشاعر الإيجابية، وعدم الاستسلام لليأس والمشاعر السلبية كالندم والإحباط.

·      لا داعي للمخاوف.. والمخاوف هنا تتسلل إليك في الشيخوخة شيئاً فشيئاً مع التعب والمرض حتى تتملكك تماماً، فالخوف من المرض أسوأ من المرض نفسه، أما الخوف من الموت الذي يسيطر على الناس مع تقدم السن فليس له ما يبرره إذا كان الموت حقيقة لا خلاف عليها، ونحن لا نموت لأن نكبر ونمرض، ولكن نموت لأنّنا نولد ونعيش، إنّ الموت آت في موعده ولا يجب أن يدفعنا ذلك إلى التوقف عن الاستمتاع بالحياة.

·      ستقول لي إنّ الناس قد انفضوا من حولي في شيخوختي، والخطأ ليس فيك بل هو في الآخرين، ولكن عليك ألا تكون مملاً بالشكوى الدائمة والانتقاد لكلّ ما هو جديد، ولتكن حسن الصحبة لتحتفظ ببعض الأصدقاء، ولا مانع من مصاحبة من هم أصغر سناً والاستماع إليهم حتى وإن كانوا يتحدثون لغة جديدة لا نألفها، فربما كانت لغتنا نحن هي التي لم تعد مناسبة، إنّنا غالباً نتفق على الاعتقاد بأنّ كلّ جيل يأتي أسوأ من الجيل الذي سبقه، لكن ما دام العالم مستمراً على هذا النحو لأجيال طويلة فلا مانع من أن تكون روحنا رياضية ونقبل الحال على ما هو عليه لأنّنا لن نغير الكون وليس مطلوباً منا ذلك، إنّ المطلوب هو أن نستمتع بحياتنا فقط.

·      أخيراً، تذكروا أعزائي الشيوخ أنّ الشيخوخة ليست شرّاً خالصاً، إنّ هناك بعض الضوء في الصورة التي يراها البعض قاتمة، نعم هناك رسالة تمت وإنجازات تحققت، وهيبة ووقار وحكمة، وبقية من الحياة يجب أن نستمتع بها.

 

الكاتب: د. لطفي الشربيني

المصدر: كتاب الزهايمر.. مرض أرذل العمر

ارسال التعليق

Top