مقدمات ضرورية في فهم القرآن:
1- لا شكّ أنّ الفهم الإجمالي للقرآن الكريم لا يختصّ بفئة معينة، فقد جاء القرآن ليستفيد منه الجميع، وهو ما أكدته آيات كثيرة، كما أكدت دائماً أنّ القرآن كتاب هداية للمتقين. فهو نور ومنوِّر، مبين ومبيِّن للحقائق والوظائف. وواضح جدّاً أنّ المستفيدين مباشرة من القرآن هم الذين بُعث فيهم النبيّ الأكرم (ص). وفي التاريخ قصص عديدة تحدّثت عن أفرادٍ كانوا كافرين بالإسلام ويعارضونه، ولكنهم بعد أن استمعوا لبعض آيات القرآن وأدركوا معانيها تعلّقوا بالإسلام تعلّقاً شديداً واستهدوا بهداه.
لقد كان المسلمون يتعرّفون على تكاليفهم الشرعية من خلال الأحكام والأوامر الجهادية التي كانت تنزل على النبيّ (ص) على صورة آيات قرآنية يبلّغها لهم ويتلوها عليهم، ولا شكّ في أنّ معظم القرآن – وليس القليل منه – ميسّر لفهم عامة الناس، كما صرّحت بذلك بعض الآيات القرآنية وشهد معناها الواضح عليه. وكذلك فإنّ كلّ من له معرفة بالتاريخ والسيرة النبويّة يعلم أنّ ذلك من مسلّماتهما.
2- إنّ القرآن مع كون معظمه ميسّراً لفهم العامّة قد نزل أوّلاً: باللغة العربية، وثانياً: بلغة عصر النبيّ، وثالثاً: كان خطاباً شفهياً وليس خطياً، إذ كان كلاماً مباشراً خوطب به الناس تدريجياً وبمناسبات مختلفة، ولم يكن بشكل كتاب مؤلّف جرى تنظيمه من ألفه إلى يائه، وكان النبيّ يلقي على الناس ما ينزل إليه من آيات مشافهة فيحفظونها أو يكتبونها، وعلى المهتمين بدراسة القرآن وفهمه أن يولوا هذه المسائل الثلاث وما يترتب عليها اهتماماً كبيراً:
أوّلاً: تلزم الإحاطة باللغة العربية وهو الشرط الأوّل للرجوع المباشر إلى القرآن الكريم، فكما ذكرنا أنّ لغة القرآن هي العربية، ولاشك أنّ فهم المتن العربي يقتضي – في مَن يطالعه – الإلمام جيداً بلغة العرب. وللأسف، فقد لاحظت مراراً في هذه الفترة أنّ البعض يحاول – وبحسن نية – فهم معاني الآيات القرآنية، رغم أنّه لا يجيد العربية، معتمداً على اطلاعه السطحي بعلوم الصرف والنحو، وعلى معاجم عربية أجنبية، أو ما أُعِدّ مؤخراً في ترجمة معاني المفردات القرآنية إلى الأجنبية. لذلك يوقعون أنفسهم في أخطاء مضحكة، لكنّهم لحسن نيتهم وطيبتهم يتقبلون النصيحة برحابة صدر عندما نبيّن لهم نواقص طريقتهم.
من هنا، فإنّ المعرفة الجيدة بالصرف والنحو واللغة، وقابلية الاستفادة من الكتب اللغوية (بالالتفات إلى أنّ بعض المفردات عدة معانٍ، الأمر الذي يقتضي مقدرة نسبية في الاستفادة من الكتب اللغوية لتحديد المعنى المناسب) هي الأمور التي تترتب على المسألة الأولى.
ثانياً: ضرورة الاطلاع على اللغة والثقافة العربية في الحجاز ونجد واليمن ومناطق أخرى في عصر النبوة، فقد ذكرت أنّ القرآن جاء بالعربية المعاصرة للبعثة، ويعلم كلّ مَن لديه معرفة باللغات، أنّ اللغة عند كلّ الشعوب تتطور وتتغير. فإنّ هناك مفردات لغوية تعطي الآن معنىً مغايراً للمعنى الذي أعطته قبل ألف وثلاثمئة عام، لذا تجب معرفة معاني المفردات القرآنية في ذلك العصر، فإذا اكتسبت إحدى المفردات اليوم معنىً نميل إليه ونرغب أن يكون هو المعنى الذي تقصده الآية من استخدامها لتلك المفردة، فمن الخطأ حمل هذه المفردة على ذلك المعنى باعتبار المقصود في عصر نزول القرآن، إذ لم يكن لهذا المعنى أي وجود في ذلك العصر. فمثلاً: كان أحد الأشخاص يقوم بإعداد بحث حول الطبيعة في القرآن، فيستخرج الآيات المتعلّقة بالطبيعة، وقد ألقيت نظرة على شروحه وإيضاحاته، فإذا بي أجد أنّه استند إلى معاني مفردات لا تتناسب مع المعاني المستوحاة من العربية في عصر نزول القرآن. فهو مثلاً يستدلّ بالآية الكريمة: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا) (المرسلات/ 25)، على أنّ الله تعالى وصف الأرض بالطائر السريع الطيران، وبذلك بيّن حركة الأرض السريعة. لقد رجع هذا الشخص إلى المعجم اللغوي، فوجد أنّ مفردة "كِفات" تعني الطائر السريع، فاستدلّ على أنّ القرآن أشار إلى حركة الأرض. وقد قلت له: عليك أن ترى، هل أنّ لفظ "كفات" كان يملك معنى الطائر السريع في عصر نزول القرآن وبيئته؟ أم أنّ اللفظ اكتسب هذا المعنى بالتدريج؟ ثم عليك ثانياً أن تلاحظ أنّ هذه الآية متّصلة بالآية التي تليها: (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) (المرسلات/ 26)، فماذا يعني الطائر السريع الطيران للأحياء والأموات؟ فهل ثمّة معنى واضح؟ وبالرجوع إلى المعاجم يتبيّن أنّ "كفاتاً" في الأصل هي الأرض التي تضمّ الأشياء الأخرى، بمعنى: ألم نجعل الأرض تضمّ الأحياء والأموات؟ فالملاحظ هو أنّ هذا الشخص رأى أنّ كلمة "كفاتاً" تأتي في اللغة بمعنى الطائر السريع، ولأنّه بصدد إثبات حركة الأرض عن طريق الآيات القرآنية، استند إلى هذه الآية، ولم يلتفت إلى أنّ هذا المعنى هل كان موجوداً في عصر البعثة أيضاً، أم هو مفهوم مستحدث للكلمة؟
إضافة إلى ما سبق، فمن غير الممكن أن لا يأخذ أي موضوع – يكتب أو يقال – بالاعتبار الظروف الاجتماعية وغيرها التي تكتنف عصر صدور الموضوع، لأنّه قيل أو كتب وسط تلك الأجواء، لذلك ثمة مجموعة من القرائن تساعد على فهم قصد المتحدّث والكاتب.
ففي معركة "أُحد" نزلت آيات خاطبت المقاتلين فأدركوها ووعوها على الفور لأنّهم كانوا في ساحة المعركة، وعايشوا الحدث بكلّ أبعاده، أما أنا الذي لم أكن كذلك، فماذا يجب عليَّ أن أفعل حتى أدرك ذلك الموضوع؟ يجب عليَّ أن أعيش تلك الأجواء من خلال دراسة التاريخ.
إذاً فالفهم الصحيح للقرآن يرتبط باستحضار ظروف نزول الآيات وقد عايش الناس في عصر الرسال ومحل نزولها تلك الظروف، ولكن عن أي طريق كان يملك لمن عاصروا الرسالة بعيدين عن محل نزولها ولمن جاءوا في العصور اللاحقة أن يستحضروا تلك الظروف؟ إنّ التحقيق والدراسة التاريخية والاطلاع على أسباب نزول القرآن هي من شروط الفهم الصحيح للكثير من الآيات القرآنية، وقد ألّف المحققون السابقون كُتُباً متعددة في أسباب النزول، من بينها كتابان مهمّان جداً استفاد منهما مفسرو القرآن: أحدهما: اسمه "أسباب النزول" للواحدي، والآخر "لُباب النقول في أسبال النزول" للسيوطي. وتجب مع ذلك دراسة تاريخ الإسلام في عصر نزول القرآن.
ثانياً: إنّ القرآن ليس مؤلّفاً على شكل كتاب – كما ذكرنا – إنما هو مجموعة من الآيات والسور التي تنزّلت على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وفي مناسبات مختلفة، ولظروف متنوعة، ثم جمعت بشكل كتاب. ولم يكن تنظيم الآيات وترتيبها حسب نزولها ووحيها، فإنّ الأدلّة التاريخية تثبت أنّ بعض الآيات وضعت في آخر سورة من السور مع أنّها نزلت قبل ذلك بسنين. من هنا، فإذا رأينا أحياناً أنّ المعنى الظاهر والواضح لآية لا يرتبط ارتباكاً كاملاً مع موضوع الآيات اللاحقة أو السابقة، فيجب أن لا يستولي علينا الشك والريب، فحاول عبثاً أن نفرض معنى للآية كي نوجد الترابط بينها وبين تلك الآيات.
3- يلاحظ في الكثير من الآيات أنّ الكلمة الأولى في الآية اللاحقة تكون متممة للفعل أو الصفة في الآية السابقة، وبعبارة أخرى، قد يأتي مقطعان لجملة طويلة على شكل آيتين.
وعدم الالتفات إلى هذه المسألة يقود إلى مزالق في فهم القرآن. والآيتان (25 و26) من سورة المرسلات واللتان سبقت الإشارة إليهما، مثال على نقول، فآية (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) ليست جملة واحدة أساساً، إنما هي متممة لسابقتها. وحتى لو افترضنا أنّ "كفاتاً" كانت تستخدم في عصر البعثة بمعنى الطائر السريع، فيجب، وعلى أساس الترابط بين الآيتين، أن يكون معناها الضم وليس الطائر السريع.
4- ثمة آيات قرآنية تناولت نفس الموضوع في فترات مختلفة ونتيجة لتغيّر الظروف، تعالج ما جدّ من أمور، لذلك فإذا أردنا أن نتبيّن رأي الإسلام في موضوع معين فيجب استقصاء كلّ الآيات ذات العلاقة بذلك الموضوع وتنظيمها وفق التسلسل الزمني لتنزّلها، ومن هنا قيل: إنّ "القرآن يفسر بعضه بعضاً".
5- ذكرنا أنّ القرآن كلام تنزّل في ظروف تاريخية خاصّة، وعالج قضايا عصر تنزّله، إلّا أنّه بحكم كونه كتاباً عالمياً وخالداً لا يمكن أن يقتصر محتواه على ظروف ذلك العصر، بل يتجاوزها ليشمل كلّ زمان ومكان. وهذا أمر واضح ومسلّم أكّده القرآن بنفسه، فهو – مثلاً – وصف النبيّ (ص) بأنّه (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان/ 1)، و(كَافَّةً لِلنَّاسِ) (سبأ/ 28)، ودعا إلى الاستهداء به (أي القرآن) في كلّ زمان ومكان، من هنا فالقرآن شمولي يمتدّ بامتداد الزمان والمكان. إلّا أنّ استيحاء المعنى القرآني في مختلف الأعصار والأمصار عمل فوق الفهم العادي للقرآن ولا يتيسر لأيٍّ كان حتى لمن عاصر الرسالة وفهم معاني القرآن، فذلك عمل مهمّ يتطلب تخصصاً واستعداداً.
6- إنّ القرآن كتاب يخاطب الإنسان بجميع اتجاهاته الفكرية والروحية والسلوكية الناجمة عن متطلّباته الذاتية، وحيث إنّ هناك اختلافاً واسعاً بين الناس في هذه الجوانب، فإنّ تأثير القرآن على الناس يكون مختلفاً أيضاً، فقد دلّت التجارب على أنّ تلاوة آية على أحد الأشخاص تجعله يتفاعل معها ويسمو روحياً، بينما قد لا تحدث تلاوة هذه الآية نفسها على شخص آخر أي تأثير. كذلك فإنّ تفاسير الأفراد لآية معينة تختلف باختلاف طبائعهم، فنجد أحياناً شاباً له ذوق سليم ودوافع روحية يتوصل من خلال آية معيّنة إلى نتائج حية ورائعة، بينما نجد شخصاً آخر قد يكون متضلّعاً في الدراسات القرآنية ولكنه يفتقد لذلك الذوق والدوافع الروحية فيعجز عن الوصول إلى مثل تلك النتائج. وهذه المسألة يجب مراعاتها والأخذ بها في فهم القرآن والمتون الدينية والإنسانية الأخرى.
7- هناك مزالق عجيبة تكتنف أحياناً الاستنتاجات الجديدة من القرآن، فمثلاً كتب بعضهم ما أسماه تفسيراً للقرآن، وعندما وصل إلى آية: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (الأنعام/ 72)، كتب في تفسيرها: أي أقيموا الثورة، باعتبار أنّ الصلاة تعني الثورة، لأنّ القرآن يقول: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، أي أنّ الصلاة تردع عن فعل القبائح والمنكرات والظلم، وهناك في الأقل 300 مليون مسلم يصلّون بشكل منتظم، إلّا أنّ صلاتهم لم تمنعهم من فعل الفحشاء والمنكر، إذ نرى البغي والفحشاء والمنكر إلى جانب الصلاة والمساجد عند المسلمين. إذاً فهذه الصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيما يؤكّد القرآن: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45).
إذاً ليس المراد من الصلاة هذا المعنى المعروف، وإلّا فالقرآن لم يتحقق ادعاؤه، بل لها معنى آخر لابدّ من حملها عليه تنزيهاً للقرآن عن مخالفة الواقع، وهذا المعنى هو الثورة، فكلّ الآيات التي جاءت فيها جملة: "أقيموا الصلاة" معناها أقيموا الثورة وهنا يتبيّن السبب في عدم قوله: "صلّوا" بل قال: "اقيموا الصلاة" لأنّ الأولى غير الثانية والتي تعني أقيموا الثورة. كذلك يصبح معنى "يقيمون الصلاة" مقيمي الثورة، والمؤمنون حقاً هم أولئك الذين يقيمون الثورة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وفي ضوء هذا الفهم للقرآن يظهر أنّ الجميع بما فيهم رسول الله (ص) وعلى مدى أربعة عشر قرناً أخطأوا فهم معنى الصلاة وإقامتها، ولعلّ هذا الشخص يفسّر جملة: "قد مات الصلاة" التي نذكرها قبل كلّ صلاة بـ"قد قامت الثورة". وهذا هو التفسير بالرأي، الذي يرفضه المنصفون حتى من غير المؤمنين.
وهنا أُوجّه كلامي إلى هذا الشخص فأقول: أجل إنّ القرآن كتاب ثورة، والإسلام دين ثورة، وآيات الثورة كثيرة جداً في القرآن، فهل ثمّة شحّة في آيات الثورة لنحمّل جملة: "أقيموا الصلاة" ذلك المعنى، في محاولة لإظهار الوجه الثوري للإسلام؟ وإذا رأيت أنّ صلاة 300 مليون مصلٍّ لم تنه عن الفحشاء والمنكر، فليس ذلك إلّا لأنّ صلاتهم ليست بصلاة حقيقية، إنما صلاة صورية بلا معنى، فالصلاة هي ذكر الله، وإذا أدّى الإنسان صلاته بحقيقتها كلّ يومٍ خمس مرات أحيا ذكر الله في نفسه وقلبه وروحه، وكانت معرفته بربّه والعلاقة صحيحةً. فإنّه كلما ذكر الله صار ذلك ناهياً له عن الفحشاء والمنكر والبغي. الصلاة الحقيقية تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولكن ليس بشكل كامل، فهي أحد عوامل النهي، كذلك الثورة لا يمكنها الحيلولة دون الفحشاء والمنكر بشكل كامل.
نقول ما معناه: أُقيم احتفال، وأُقيمت مراسيم الدعاء، وهذا اصطلاح متعارف، وفي الانجليزية يقولون: (To say prayer) وترجمته الحرفية: قلتُ الصلاة، لكنه عندهم اصطلاح يطلق على أداء الصلاة، كذلك فإنّ الترجمة الحرفية لما نطلقه على أداء الصلاة في الفارسية هو: قرأت الصلاة ولو سألت ناطقاً بالعربية: هل قرأت الصلاة؟ لسخر منك، إذ يقولون بالعربية: هل صلّيت؟ إذاً هناك في كلّ لغة اصطلاح خاص بها. ومع ذلك فالقيام من واجبات الصلاة، والقيام قبل الركوع أحد أركان الصلاة، وعلى هذا فمن الطبيعي أن يصطلح بالإقامة على أداء العبادة التي أحد واجباتها الأساسية هو القيام، ومن ثم فلا حاجة لتحميلها معنى الثورة لمواءمتها تعبير الإقامة.
إنّ هذا التعامل مع الآيات القرآنية هو التفسير بالرأي، الذي يسلب الكتاب الإلهي أصالته فيا تُرى، هل يرضى الشاب المؤمن بأن يأتي أيٌّ كان فيشكّل الآيات القرآنية ويقولبها كيفما يشاء ليستنتج ما يريد من المعاني، بدلاً من أن يكون القرآن هو الذي يعطينا إطاراً فكرياً بأبعاد مشخّصة، ويحدد لنا نظرة كونية وإيديولوجية معينة؟
يُزعم أحياناً أنّ لغة القرآن لغة رمزية. وهنا يجب إيضاح المقصود من هذا الزعم: فإذا كان المقصود منه أنّ لغة القرآن كالرسائل المشفّرة المتداولة بين السياسيين والعسكريين التي تكتب بإشارات ورمز مصطلح عليها فنحن نرفض ذلك. فالقرآن ليس كتاب رموز وإشارات، إنّه كتاب مبين بمفاهيم بيّنة ومبيِّنة، وإنّ القسم الأعظم والأساسي فيه هو "الآيات المحكمات" بمعانيها الثابتة والقريبة من فهم العامة.
أجل هناك قسم من الآيات القرآنية يسمى بـ"المتشابهات" وهي رمزية إلى حدٍّ ما، ولكنها لا تشكّل سوى قسم قليل من الآيات.
أما إذا كان المقصود أنّ ثمّة مفاهيم ومعاني أعلى في القرآن – إضافة إلى المعاني القريبة من فهم الجميع، بحيث يدركها بصورة أفضل أولئك المتقدمون فكرياً أو اجتماعياً، وهذه لا تتنافى مع تلك، إنما هي مرحلة فوقها – فنحن نوافق على هذا الفهم.
8- إنّ فهم القرآن في المستويات العالية يتطلّب تخصّصاً، ولا يتسنى ذلك في بعض هذه المستويات إلّا بالاستعانة بمنبع الوحي. إذ إنّ إحدى درجات فهم القرآن مختصة بالنبيّ (ص) والأئمة (عليهم السلام)، ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة إلّا عن طريق رواياتهم، ويكون هذا في الموارد التي لا يبدو فيها الترابط واضحاً بين المفردات والعبارات القرآنية وبين المعنى الرمزي أو العام، حتى لو كان المعنى مفهوماً. فكما أنّ النبيّ تلقّى الوحي، فباستطاعته كذلك تقديم هذه الإيضاحات الاستثنائية. وإلى هذه الدرجة من التفسير أشارت الروايات التي تحدّثت عن كون التفسير مختصاً بالنبيّ (ص) وأهل البيت (عليهم السلام).
وهناك نوع آخر للمعنى الرمزي لا يكون فيه الترابط بين المعنى واللفظ واضحاً بحيث يستطيع الكثيرون فهمه، ولكن إذا فهمه أحدهم وشرح المعنى للآخرين تقبّلوه باعتباره المعنى الجديد الذي تعكسه الآية. وهذا تفسير للقرآن أيضاً، لكن ليس ذلك التفسير الذي يختص به النبيّ (ص) والأئمة (عليهم السلام)، ويجب في هذا التفسير تجاوز الأهواء النفسية والرغبات الذاتية، وإلّا فإنّ معنى الآية سيكون انعكاساً لتلك الأهواء والرغبات، وهناك مَن يتمنى أن تعطي الآيات معاني تلائم أهواءه ورغباته، ويسعى للعثور على مَن يدّعي فهم تلك المعاني من الآيات لقبولها منه على الفور. وإذا كان كذلك صار نوعاً من التفسير بالرأي، وهو أمر مذموم ومرفوض، وقد عارضته الروايات الواردة عن النبيّ والأئمة بشدّة، وما أشرنا إليه في مورد الصلاة شاهد على هذا القول، فلأنّ ذلك الشخص كان يرغب في الحصول على شواهد من الآيات القرآنية تبرهن على ثورية القرآن، لذلك كان ذهنه لا يلتفت إلّا إلى معانٍ لا يرى فيها المحايدون أيّ ارتباط باللفظ.
9- في القرآن آيات متشابهة، وكلمات ليست واضحة المعاني وضوحاً، جيداً، مثل فواتح بعض السور ومنها: "ألم، يس، كهيعص" وغيرها، وكلمات وجمل غامضة المعاني وقريبة من الرموز. وقد أكّد القرآن في سورة آل عمران على أنّ مثل هذه البيانات لا يعلم تأويلها إلّا الله ومن أخذ علمه عنه تعالى أي النبيّ والإمام، وهذا يستدعي حيطة كبيرة في الآيات المتشابهة، فمن الخطأ تفسير مثل هذه الجمل والكلمات وفقاً للرغبات، وللوصول إلى اكتشاف موضوعات جديدة، الأمر الذي يؤدّي إلى تحميل القرآن مواضيع ليس لها أي ارتباط واضح ومستدلّ بالقرآن.
وقد وجدت من خلال متابعاتي القرآنية أنّ هناك نوعين للمتشابه:
1- المتشابه الكامل مثل: "ألم".
2- المتشابه النسبي، بمعنى وضوح معنى العبارة إلى حدٍّ ما، وبتجاوزه تصبح من المتشابهات، ويحار الإنسان في فهمها، وهنا عليه ألّا يلجأ إلى التأويل.
إذاً يجب الامتناع عن التأويل في المتشابهات الكاملة والنسبية. وفي حالات التشابه – أي عندما يتردّد الإنسان في فهم المعنى من العبارة، وإنّ العبارة تعطي معنيين متقابلين – عليه أن يتوقف عند هذا الحدّ من الدلالة الواقعية للعبارة، فلا ننسب للقرآن مواضيع لا يمكن التوصّل إليها من خلال الألفاظ. فمن الممكن أن تعطي العبارة معنىً مباشرة في حدّ معين، لكنها تعطي معنيين أو أكثر إذا تجاوزنا ذلك الحدّ، ويطلق على هذه العبارة تسمية "المتشابه النسبي" فهي محكمة بالنسبة للمعنى المباشر ومتشابهة بالنسبة لما بعده.
وفي كلّ الأحوال يجب عدم الاستناد إلى العبارات في الحدّ الذي تعطي فيه معنيين أو عدة معان، وهذه من الوصايا التي أكّد عليها القرآن الكريم، لأنّه لا ثمرة ترتجى من اتخاذ العبارات متعددة المعاني كمستمسكات، غير الفتنة والاختلاف، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/ 7)، فلا يعلم تأويل الآيات المتشابهات غير الله تعالى ومَن أخذوا علمهم عن الله، أي النبيّ والأئمة الطاهرون (صلوات الله عليهم أجمعين).
من هنا فنحن لسنا كالأخباريين الذين يرون أنّ فهم كلّ ما في القرآن مختص بالنبيّ والأئمة، وأنّه يلزم لفهم أي آية كانت الرجوع إلى الروايات التي تناولت تلك الآية.
10- هناك مَن ينسب تفسير آية أو موضوع قرآني إلى النبيّ أو الإمام بمجرّد أنّه وجد رواية واحدة أشارت إلى ذلك المورد، لكن مَن قال إنّ أيّ رواية هي في واقعها صادرة عن النبيّ أو الإمام إذا نسبت لهما في أي كتاب؟ نعم، إذا ثبت أنّ الرواية التفسيرية صادرة عن النبيّ أو الإمام فلا نقاش في ذلك فإنّها تلعب دوراً مهماً في فهم القرآن، ولكن ما هو مقدار الروايات التفسيرية الذي يمكننا الجزم بأنّه صادر عن النبيّ والأئمة؟ فمما لا شك فيه أنّ الكثير من الروايات التفسيرية غير تامة السند، وإذا لم تكن كذلك كانت خبراً واحداً، وبالتالي لا تشكّل دليلاً قاطعاً أيضاً.
وعلى هذا الأساس فإنّ موقفنا من الروايات التفسيرية موقف واضح، وهو موضع تأييد عموم العلماء الكبار. فكلّ رواية صحيحة السند ويقينية الدلالة هي برأينا في مصافّ القرآن. وهذا معنى الكتاب والسنّة، أو الكتاب والعترة. أما إذا كان سند الرواية مطعوناً به أو ظنيّاً، أي لم تكن دلالة عبارته قطعية، فليس من حقّنا منحها دوراً مهماً في فهم القرآن.
إنّ هذا الموقف الذي أُعلنه موقف قطعي وهو غير شخصي، إنما موقف محققينا عموماً وهو ينصّ على أنّ كلّ رواية ثبت صدورها عن النبيّ (ص) أو الأئمة (عليهم السلام) ولم تكن عبارتها مبهمة ولا معقّدة، وكان معناها واضحاً، فإنّ لها دوراً حاسماً وأساسياً في تفسير القرآن، وفي غير هذه الصورة لا يكون لها مثل هذا الدور، كما هو موجود في الدراسات التاريخية، فأكثر الروايات التفسيرية ليست ثابتة السند وغير واضحة المعنى.
إنّ القرآن هو المعيار الأساسي لأنّ نسبته إلى النبيّ الأكرم ثابتة، وأحاديث النبيّ (ص) والأئمة (عليهم السلام) مثل القرآن وعدله إذا كانت قطعية. وعليه فإنّ الاستفادة من الأحاديث والروايات في فهم القرآن فن دقيق وحاذق جدّاً، ويتطلب تخصصاً كاملاً، وذلك لأنّ بعض الأحاديث موضوعة، وبعضها غير معتبرة فتوقع الإنسان في الخطأ.
أُؤكِّد مرة أخرى، أنّ للذين يمتلكون معرف بدقائق المسائل الاجتماعية والأخلاقية والعرفانية والمعنوية للإنسان استنتاجات حية وقيّمة لدى استئناسهم بالقرآن الكريم، فلا يجب أن نغفل أبداً عن أهمية تلك الاستنتاجات، شرط أن لا تصل حد التفسير بالرأي تحميل القرآن ما نرغب فيه، وهناك روايات رائعة في تفسير القرآن، وهي مفيدة شرط أن لا نمنحها الدور الأساس في التفسير إنما دور التذكير، فالدور الأساس نمنحه فقط للرواية التي تكون نسبتها للنبيّ أو الإمام ثابتة، نقول ثابتة وليس ظنيّة، وحتى لو كان خبراً صحيحاً، فالخبر الصحيح في اصطلاح علم الحديث – الذبي نجيز الاستناد إليه في الفقه – إن لم يكن قطعياً فليس له دور أساس في تفسير القرآن، لأنّ الخبر الصحيح لا يورث القطع دائماً، ولا يؤدّي إلى اليقين، فهو خبر غير يقيني لم ينقله سوى أحد الثقات، وقد يكون هذا النوع من الأخبار حجّة في الفقه، لكنه ليس حجّة في التفسير. فالخبر اليقيني يمكنه أن يؤدي دوراً أساسياً في التفسير، في حدود الدلالة الواضحة واليقينية، ولغيره من الروايات دور المؤيّد.
آمل أن نستطيع السير على الصراط المستقيم بمراعاة هذه المعايير وبالاستفادة من القرآن الكريم الذي هو كتاب من الله مبين ونور وهدى للعالمين:
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ...) (المائدة/ 15-16).
المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 9 لسنة 1994م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق