في أميركا يكشف الناس عن رواتبهم، ويتحدثون عن المال ويعتبرون ذلك أمراً عادياً. لكن في فرنسا يجد الناس حرجاً في الكشف عن راتبهم ويتفادون الحديث عن ذلك. الشيء نفسه يحدث في مجتمعاتنا العربية. لماذا؟
لماذا يتفادى الناس الحديث عن رواتبهم؟ هل هو خوف من الغيرة إذا كان راتب المرء كبيراً؟ أم خوف الشخص من أن يقلل الناس من قيمته لأن راتبه صغير؟ الشيء الأكيد هو أن راتب الشخص يؤثر في شخصيته.
يقول سعيد، (28 سنة) وهو موظف متخصص في تكنولوجيا المعلومات: "في شركتنا، كل واحد منا يعرف كم هو راتب كل واحد من الزملاء. ومع ذلك فالجميع يفضلون ألا يتحدثون بشكل مباشر في الموضوع، وخاصة عن المكافآت والحوافز التي يحصل عليها البعض والبعض الآخر لا يحصل عليها". لقد قالها فرويد: "الحديث عن المال هو الحديث عما نملك وما لا نملك، هو الحديث عن نقائصنا وعن مخاوفنا وعن أحلامنا وعن عجزنا. لهذا يُعتبر هذا الموضوع من التابوهات، أي من المسكوت عنه".
وفي فرنسا مثلاً، يقول عالم الاجتماع جانين موسوز لافو: "نحن ننحدر من ثقافة فلاحية، حيث لم يكن الناس يتحدثون عن المال أبداً، لأنّ الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية وحيوانات المزرعة كان هو السائد". ويضيف: "من جهة أخرى، فإنّ هناك العامل الديني، حيث كان الناس يتبعون المذهب الكاثوليكي الذي يهتم بمساعدة الفقراء وينهى عن حب المال. وحتى بعد انتشار الماركسية، فهي أيضاً مذهب فكري يَعتبر تحقيق الربح شيئاً غير أخلاقي. كل هذه الأشياء جعلت الناس في فرنسا يتجنبون الحديث عن المال".
- شيء أساسي:
لكن، بعيداً عن المعتقدات الثقافية، كلنا مؤمنون بأن أي أموال يكسبها الفرد من تعبه وعرق جبينه هي أموال مشروعة، عملاً بالمثل القائل: "من جد وجد ومن زرع حصد". ثمّ إنّ الحصول على مكافأة نظير العمل ليست سوى سعر تحدده السوق، وتدفعه مقابل الاستفادة من كفاءة شخص ما ووقته وذكائه وخبرته، لكن الأمر ليس بهذه السهولة. إنّه أكثر تعقيداً من ذلك، لأنّ الحياة الشخصية والحياة المهنية للإنسان متداخلتان مع بعضهما البعض. ومن الصعب على المرء التجرد من دور يقوم به، من كفاءة يُعرف بها، من راتب يتسلمه، من كل هذه الأشياء التي تصنع شخصيته الاعتبارية ووضعه في المجتمع. التخلص من دور ما، من الصعب إذن، قطع العلاقة بين كم نكسب من المال وكم تساوي قيمتنا في المجتمع.
العمل هو "استثمار" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وخاصة المعاني الحميمة. "الأجر المادي يخلق خيبة الأمل، وذلك لأنّه يُحدّد من قبل رب العمل، أي أن طرفاً خارجياً هو من يحدد عملاً تقومين به أنت، وهو ملك لك أنت" تقول المحللة النفسية ماري كلود لوجيي. وتضيف: "صحيح أننا لا نتحدث عن هذا الأمر لكننا لا نفكر إلا فيه. فقد بينت كل الدراسات واستطلاعات الرأي التي أجريت، أنّ الدخل والراتب من أكثر الأشياء التي تشغل بال الناس في مجال العمل".
يقول الأخصائي النفسي فيليب جوفري: "عند التعيين، هناك اتفاق يتم إبرامه، لكنه يتلاشى مع مرور الوقت. ولأنّه غالباً ما لا تحدث جلسة بين الموظف والمدير، لإعادة مناقشة العقد ورفع الراتب، فإنّ الموظف يشعر بأنّه يعطي الشركة أكثر مما تعطيه" ويبقى الوضع كذلك إلى أن يصل حد القطيعة التي تؤدي إلى سحب الموظف "استثماره" من الشركة وتقديمه الاستقالة".
وإذا كان الحديث عن المال صعباً إلى هذا الحد، فإن ذلك راجع أيضاً إلى أنّ الحديث عن المال يعني أن تقبلي أن يقوم الآخرون بتقييمك، وبأن تتم المقارنة بينك وبين آخرين، شريطة أن تكون لديك ثقة بمعيار المقارنة هذا. "وأحد مصادر الانزعاج من هذا الأمر يعود إلى كون الشركات ليست لديها معايير موضوعية تعتمد عليها في تحديد الرواتب" يقول فيليب جوفري، "فكيف مثلاً يتم تعويض الأفراد على إسهامهم في مهمة جماعية تم إنجازها في إطار فريق؟". النتيجة هي أن كل واحد منا يجد نفسه وحيداً إذا فكر في المطالبة بزيادة في الراتب أو مكافأة. تقول الأخصائية النفسية ماري كلود لوجيي: "إذا لم يكن كل منا يعرف جيِّداً قيمة نفسه وعمله، فإننا قد نضع أنفسنا في موقف طفولي في مواجهة سلطة يمكن أن ترتدي لباس الأب الذي يوزع الأموال، كما يوزع العطف على الأولاد كما يحلو له".
"العطف" والاعتراف والتقدير، هذه كله أشياء لا يفتقدها كريم، 47 سنة، فقد تم تصنيفه كأفضل موظف في قسم المبيعات في شركته التي تبيع آلات الفوتوكوبي. يقول كريم: "في شركتنا يعرف كل واحد كم يكسب الآخر، لأنّ أداءنا ومبيعاتنا معروفان، ورقم مبيعاتنا قد يصعد وقد ينزل، وهذه هي قواعد اللعبة. أحياناً تكون لعبة صعبة، لكنها لا تخلو من حوافز إلى النجاح".
- حافز غير كافٍ:
من وجهة نظر عالم النفس الأميركي فريديريك هيرزبيرغ، فإنّه إذا كان الراتب مصدر تعاسة، فإنّه لا يكفي لأن يكون حافزاً إلى العمل. "المكافآت والتعويضات وغيرها تأتي، لكي تؤكد أنّه من المهم دائماً إضافة هذه المكافآت في رحلة البحث عن أفضل راتب". وهنا يقول جيل أرنولد، الباحث في سيكولوجيا المؤسسات: "يمكن للمدير من خلال المكافآت أن يجعل الموظفين يبذلون جهداً أكبر، لكن لن يجعلهم يحبون العمل أبداً" وأضاف: "إذا كان الراتب أو ما يعادله يتمثل بصفته علامة محتملة على البحث عن زيادة، فإنّه أيضاً يمنع الرغبة في العمل من أن تتحول إلى متعة". لماذا؟ لأنّ المال في حد ذاته، شريطة أن تكسبي منه ما يكفيك، ليس سوى قناع بديل يغطي رغباتنا العميقة. إنّ المال هو ما يجعلنا نعيش، وفي الوقت نفسه هو ما يجعلنا نركض ونلهث، وهو ما يخفي رغبتنا الحقيقية في تحقيق الذات وفي المتعة، وفي العثور على معنى للعمل، وهي رغبة بالتأكيد لا يمكن التفاوض بشأنها.
ارسال التعليق