• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مبادىء وقيم سلوكية

أسرة البلاغ

مبادىء وقيم سلوكية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).

"مبادئٌ وقيمٌ سلوكية".. ذلك هو عنوان هذا الكتاب الذي تُصدره "مؤسّسة البلاغ" في سلسلة: (من ثقافة القرآن)..

إنّ البشريّة بصورة عامّة والمسلمين بصورة خاصّة بحاجة إلى ثقافة القرآن وتربيته وهديه، وإلى منهجه في السّلوك والقِيَم.. قيم الحقّ والخير والجمال.. قِيَم الأخلاق السّامية، والإستقامة السّلوكية.. لا سيّما بعد أن صار الإنحراف وتجاوز قِيَم الأخلاق هو الظّاهرة المؤسفة في المجتمعات الإنسانية.. وبعد أن طغى طوفان المادِّيّة على القِيَم الرّوحية والأخلاقية..

إنّ العودة إلى منهج القرآن الكريم والعمل بقيمه ومبادئه النيِّرة.. مبادئ العلم والإيمان.. ومنهج الحقّ والعدل والسّلام، لهي السّبيل الوحيد لإنقاذ الإنسان من ظلمات الجاهلية الحديثة.. والوقوف بوجه الغزو المادِّي المنحرف.

قارئنا الكريم: إنّنا بحاجة ماسّة إلى الارتباط بالقرآن الكريم وتدبّر معانيه كما هو مصدر للوعي والمعرفة.. وصدق الرّسول الكريم بقوله: "ما آمَنَ بالقرآن مَن استحلّ حرامه".

إنّ مجتمعنا مليء بالمشاكل والإنحرافات والأخطاء، كما يعاني من الجهل بالإسلام ومناهج القرآن.. وهو بحاجة إلى الإصلاح وإعادة البناء والتّثقيف والتّنظيم، فلنعمل جميعاً على إصلاح مجتمعنا وتثقيفه بثقافة القرآن، وحلّ مشاكله.. وتلك هي فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والدّعوة إلى الإسلام.

وللمساهمة في نشر ثقافة القرآن الكريم والدّعوة إلى مكارم الأخلاق، قمنا ببحث موضوعات قرآنية عديدة تُعالج مشاكل المجتمع السّلوكية، وتُنمِّي ثقافة الإنسان المسلم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع القارئ الكريم بما تُقدِّمه هذه المؤسّسة من عطاء فكري وثقافة إسلامية أصيلة، وأن يتقبّل عملنا، إنّه سميع مجيب.

مؤسّسة البلاغ


 

خذوا بأحسنها

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النّحل/ 90-91).

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105).

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 17-18).

إنّ الإستقراء الواعي والمتأمِّل في آيات القرآن الكريم والنّظر في بيانه، يكشف لنا جليّاً أنّ القرآن يريد أن يبني مجتمعاً إنسانيّاً يقوم على أساس الحقّ والعدل وقيم الأخلاق، وأن يكون مجتمع أمن وسلام، خالٍ من الجريمة والعدوان والممارسات الأخلاقيّة الشاذّة والهدّامة..

ففي الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).

وفي الآية: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).

يضع القرآن أسساً هامّة ومتينة لبناء المجتمع وهي:

العدل،

الإحسان،

إيتاء المال لذي القُربى،

النّهي عن البغي،

الوفاء بالعهود والأيمان،

أنّ القرآن نزل بالحقِّ، وهو يحمل رسالة الحقّ.

وفي الآيات: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ).

ففي هاتين الآيتين نجد مرتكزات ومبادئ أساسيّة لبناء المجتمع الإنساني، وهي اجتناب الطّاغوت وبيان منهج التعامل مع الكلمة والفكرة، فالقرآن يُبشِّر: الذين اجتنبوا الطّاغوت.. الطّاغوت الفكري المتسلِّط.. الطّاغوت السياسي.. الطّاغوت الاجتماعي، ويُبشِّر الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه وأولئك هم أولو الألباب في حسابه وتقييمه، أصحاب العقول والفكر النيِّر.

وفي الآية: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف/ 145).

نقرأ بياناً قرآنيّاً غاية في الأهمِّيّة والتّسامي الأخلاقي، في مجال القول والعمل والقضاء والسياسة والمال؛ ليرتقي ببناء الإنسان الاجتماعي وسلوكيّة المجتمع.. يدعو القرآن الإنسان لأن يأخذ بأحسن ما يأمره الله به.. فإنّ الله أمره بما هو حَسن، وما هو أحسن، ودعوة القرآن هي أن يأخذ النّاس (بأحسنها).

وبالجمع بين مفردات الآيات الآنف ذكرها، تتشكّل أمامنا منظومة القواعد الأساسيّة لبناء المجتمع الإنساني والتّسامي به وفق منهج القرآن ورؤيته العلميّة والأخلاقيّة الواقعيّة..

إنّ القرآن يريد أن يبني المجتمع على أساس:

إقامة الحقّ والعدل، إجتناب الطّاغوت، والعمل بالحَسن، والإحسان، والأحسن، حماية المجتمع من البغي والفحشاء والمنكر.

يثبِّت علماء اللّغة أنّ كلمة الطّاغوت مأخوذة من الفعل (طغى)..

جاء في المعجم الوسيط: "طغى طغياناً: جاوزَ الحدّ المعقول".

ويُعرِّف علماء التّفسير الطّاغوت بأنّه: "عبارة عن كلّ متعدّ، وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع"[1].

إنّ القرآن يزفّ البُشرى للإنسان الفرد والجماعة الذين يبتعدون عن عبادة الطّاغوت.. عن الخضوع للطّغاة والطّغيان.. للطّغاة المستبدِّين في عالم السّلطة والسياسة والمال والفكر والجريمة والعدوان.. أنّ الطّاغوت هو كلّ مَن تجاوز الحدّ، وتجاوز على القانون وقيم الأخلاق بشكل فاضح، وأصرّ على ذلك التجاوز بقوّته وسلطته، فأصبح طاغية.. كما يطغى الماء على الأرض فيغمرها.. إنّه يُصادر إرادة الإنسان، ويفرض سلطته وإرادته الغاشمة الظّالمة.. ويتحكّم بطغيانه وجبروته..

إنّ القرآن ينادي بالتحرّر من سيرة الطّاغوت، ويدعو لتحطيم الطّاغوت، بل واجتنابه والإبتعاد عنه، وليس عدم اتِّباعه فحسب.

وفي الآية يأمر القرآن بإنفاق المال وإيتاء ذي القُربى وحلّ المشكلة الاقتصادية، فإنّها الأساس في معظم مشاكل الإنسان وأزماته النّفسية والاجتماعية والأمنية والسياسية والعائلية.. والإنفاق على ذي القُربى إنفاق على أكبر مساحة من المجتمع، وهذا الإنفاق بالإضافة إلى آثاره الاقتصادية، فإنّه يترك آثاراً نفسيّة واجتماعيّة طيِّبة، تقوِّي الرّوابط والأواصر الإنسانية، وتُشعر بالتلاحم العاطفي والوجداني.

وكما يأمر القرآن بالحقّ والعدل والإحسان، وإنفاق المال لبناء المجتمع بناءً إنسانياً متوازناً، فإنّه ينهى عن السلوكيّات الهدّامة، التي تنخر في جسم المجتمع، وتنشر الفوضى والفساد.. إنّه ينهى عن (الفحشاء والمنكر).. عن الفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن.. كالزِّنا واللِّواط وشرب الخمر والكذب والغشّ والظّلم والرِّبا والإحتكار والغيبة والنّميمة وسفك الدِّماء... إلخ.

ثمّ يُحرِّم القرآن في هذه الآية (البغي)، وهو التّجاوز على الآخرين.. التجاوز على حياتهم وأموالهم وأعراضهم أو مكانتهم الاجتماعية، أو أيّ من حقوقهم الإنسانية التي شرّعها الله لهم.

إنّ هذه المبادئ الدستوريّة التي تحدّثت عنها الآية الكريمة، كفيلة لو عمل بها النّاس، بأن تبني مجتمعاً إنسانيّاً سعيداً.. يعيش في ظلِّ الحقِّ والعدل والإحسان، ويتجنّب البغي والعدوان والممارسات السلوكية المنحرفة، ويتحرّر من سيطرة الطّاغوت..

إنّ أرقى ما ينشده الإنسان في حياته هو أن يعيش في ظلِّ الحقِّ والعدل والإحسان، ويتحرّر من البغي والطّغيان والفساد.. وذلك هو منهج القرآن في بناء المجتمع وقيادة الإنسان السياسية والاجتماعية.

وللكلمة في القرآن شأن خطير، فهي أداة التواصل ونعمة البيان.. لذا يريدها أداة ووسيلة لصالح الإنسان.. والإنسان يستمع في كلِّ يوم إلى ألوان شتّى من القول والكَلِم.. بعضه سيِّئ هدّام، وبعضه حَسن، وبعضه أعلى درجة في الحُسْن والعطاء البنّاء..

والقرآن ينهى عن الكلمة السّيِّئة، ينهى عن إطلاقها، وعن الإستماع إليها، أو التأثّر بها، أو السّكوت عليها وعدم ردّها..

لذا يُبشِّر الإنسان الذي يستمع إلى ألوان شتّى من القول والكَلِم، فيتّبع أحسن القول.. ذلك لأنّه يُميِّز الخبيث من الطّيِّب، والنّافع من الضّارّ، والحقّ من الباطل.. وبعد هذا الفرز والتمحيص، يُحدِّد موقفه، فلا تستفزّه الكلمة المخادعة، ولا يُضلِّله زُخرف القول غروراً؛ لذا يقرن أولئك النّاس: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/18)، بالذين يجتنبون الطّاغوت.. وحماية الفكر والسّلوك من السلبية والعدوانية والإنحراف عن الحقّ والعدل.

(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف/ 145).

الآية تحدّثت عن الخطاب الإلهي للنّبي موسى (ع)، غير أنّ حكم الآية عام وليس خاصّاً.. فالنّبيّ محمّد (ص) والأُمّة المسلمة مخاطَبة بهذه الآية، أيضاً..

وللآية تطبيقات هامّة.. تقوم على أساس العدل والإحسان.

إنّ القوانين والتشريعات والتعامل الاجتماعي الذي يمارسه الإنسان في حياته اليومية، يجب أن يقوم على أساس (الحقّ والعدل).. وأنّ الإحسان هو موقف أخلاقي فوق العدل.. دعا له القرآن، ونادى به، وقرنه بالعدل، بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ)، وفي مورد الإحسان يدعو القرآن إلى الأخذ بأحسنها.. بأحسن التشريعات والمواقف.

نأخذ أمثلة على ذلك:

إنّ أعظم جريمة في عُرْف القرآن والإنسانية هي جريمة القتل.. ومن العدل أن يُجازى القاتل بفعله.

قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 179).

(.. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة/ 32).

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة/ 45).

وبذلك يوضِّح القرآن عقوبة الجاني.. كما يُثبِّت في موقع آخر عقوبة أخرى للقتل غير العمدي، هي (الدية).. وفي مورد آخر يُثبِّت العفو عن الجاني والإحسان إليه، ويعتبره كفّارة وصدقة..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة/ 178).

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 92).

وهكذا يكون من العدل القصاص من القاتِل العامِد، وأخذ الدية من غير العامِد.. وأنّ من الإحسان العفو والتنازل عن القصاص، وهو صدقة في عُرْفِ القرآن، أو عن الدية كلّها أو بعضها.. فيكون العفو عن القاتِل أو قبول مبلغ من المال أو التّنازل عن المال إحساناً، والأخذ به أخذ بأحسنها.. وكلّ العقوبات حسنة، لأنّها عدل.. والرّسول الهادي محمّد (ص) هو المَثَل الأعلى في العمل بهذه القِيَم السامية، فيستجيب لقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).

جاء في أسباب النّزول أنّ الآية نزلت عندما قتل المشركون حمزة بن عبدالمطّلب (رض)، عمّ الرّسول (ص) في معركة اُحُد، ومثّلوا بجسده، وشقّت هند زوجة أبي سفيان بطنه وأخرجت كبده ولاكتها.. فنزلت هذه الآية تأمر بالعقاب بالمثل إن أُريدَ العقاب، وهو عدل، وتدعو إلى الصّبر.. وهو إحسان وأقرب للتّقوى.. فعندما نزلت هذه الآية، قال رسول الله (ص): أصبر.. ثمّ عفا عنهم جميعاً.

وهكذا يتسامى القرآن الكريم في تربيته الأخلاقية وتثقيفه الإنساني.. ويتسامى الرّسول (ص) في تطبيقه لدعوة العفو، والأخذ بالأحسن، فيُجسِّدها سلوكاً وعملاً.. فلا يكتفي بالفعل الحسن..

إنّ القرآن يُثقِّف الإنسان المسلم بهذه الثقافة، فيدعو إلى التّسامي الأخلاقي فوق حكم القانون.. وفي قضايا المال والإنفاق، نقرأ: الدّعوة إلى الأخذ بالأحسن، قال تعالى:

(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 280).

إنّ مسؤولية المدين القانونية هي وجوب الوفاء في الوقت المحدّد، وذلك حقّ وعدل.. وهو حسنٌ، غير أنّنا نجد القرآن يتسامى بأخلاقية الإنسان لحلِّ مشكلة المدين المعسر.. فيدعو إلى تأجيله وإعطاء مهلة أطول حتّى يتوفّر لديه المال المطلوب للتّسديد.. بل ويدعو القرآن الدّائن إلى أن يتصدّق بالدّيْن، ويتنازل عن دَينه للمَدين المُعْسِر، وهذه درجة أخلاقية أرقى.. وهذا إحسان فوق العدل.. وهو أخذ بأحسنها، يقابله ثواب من الله ومغفرة.

وفي العبادات المالية، نجده يسلك النّهج نفسه في قوله تعالى:

(.. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184).

إنّ هذه الآية تُشرِّع فدية الطّعام التي تعطى للمساكين مقابل كلّ يوم من أيّام شهر رمضان التي لا يستطيع المكلّف صيامه، وهو إطعام مسكين، وتدعو إلى ما هو خير منه، وهو التطوّع بإطعام مسكين آخر.. والقرآن يدعو إلى الأخذ بأحسنها، وهو إطعام مسكينين، وإن كان المجزي هو إطعام مسكين واحد.

وهكذا تتجسّد أمامنا صورة ناصعة من صور التشريع والقيم الإسلامية لبناء الذّات والمجتمع.

 

                                      الحب في القرآن

 الحبّ.. ويقابله الكره والبغض والحقد.. الحبّ عاطفة إنسانية غرسها الله سبحانه في الإنسان.. وغرسها في قلوب الطّير وفي قلب كلِّ حيوان، فتلك المخلوقات تحبّ الحياة وتحبّ أبناءها وأزواجها وتحبّ جمال الطّبيعة.. فبالحبِّ يقترب الأحباب، وتتمازج النّفوس والأرواح، وتعمر القلوب بالسّعادة والطّمأنينة، وبالقُرب والتآلف والتعاون، وبالعفو والتّسامح، وبالعطاء المتبادل، يشعر النّاس بالحبِّ ولذّة الحياة.. فالمحبّ يريد الخير لِمَن يحبّه، ويعفو عنه إذا أخطأ، ويتعاون معه إذا احتاج أو عجز، ويدافع عنه ويحميه إذا هُدِّد بخطر..

وبالحبِّ يُضحِّي الإنسان ويؤثر على نفسه.. فبالحبِّ يعيش الحبيب في أعماق النّفس.. ويستقرّ في شغاف القلب.. وبدافع الحبّ للخير والجمال يصنع الإنسان حياة الخير، ويحبّ كلّ جميل في هذه الحياة.. يحبّ الصِّدق والأمانة ومكارم الأخلاق، كما يحبّ الإبتسامة الصّادقة، والكلمة الطّيِّبة، ونغمة الصّوت الجميل، وبلاغة القول، وتناغم الحركة، وتآلف النور والألوان.

ولكلِّ هذه المعاني جاءت رسالات الأنبياء.. لذا نقرأ أجمل تعريف وتلخيص للعلاقة بين الدِّين والحبّ في الحديث الشريف: "وهل الدِّين إلّا الحبّ"[2].

وعندما يغيب الحبّ تجتاح الكراهية أعماق النّفوس، وتعيش القلوب حياة البؤس والشّقاء، ويشعر فيها بعذاب الحياة.. فتستحيل تلك الحياة إلى جحيم ونفور وأزمات وصراع وعدوان.. قد يقود البعض إلى الفرار وحتّى إلى الانتحار عندما يستحكم هذا المرض في النّفوس..

ويتحدّث القرآن الكريم عن حبّ الله للخير.. وحبِّه للإنسان.. حبّ الله الذي يغمر القلوب بالسّعادة والنّور والإنفتاح.. انفتاح عالم الغيب على القلوب الوالهة المفعمة بالحبِّ والعشق الإلهي المقدّس..

إنّ هذا الحبّ يُجسّد في كلّ علاقة بين الإنسان المُحبّ لله وبين الآخر.. يصوغ الرّسول الهادي محمّد (ص) هذا البيان بقوله: "إنّ من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله"[3].

يخاطب القرآن النّاس على لسان نبيِّه الكريم محمد (ص): (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31).

إنّ اتِّباع الرسول (ص).. اتِّباع الحقّ والعدل والخير والإحسان.. وهو تعبير عن حبِّ الله.. إنّ حبّ الله هو حبّ الحقّ والخير والجمال.. وسيُبارك الله سبحانه هذا الإنسان المُحبّ، ويُقرِّبه منه درجات.. وسيفيض عليه إشراقات الحبّ والتكامل.. فتغمر نفسه ومشاعره مباهج السّعادة والشوق الدائم إلى عظمة الجمال والجلال.. وتلك هي نفحات الحبّ الإلهي المقدّس، وإشراقات النّور المضيء لكلِّ معاني الحياة.. ويتلو القرآن على مسامع الإنسان تلك القِيَم والمآثر التي يحبّها الله في الإنسان..

إنّه يُحبّ التّوّابين.. الذين تركوا حياة المعصية والجريمة والضّلال.. وعاد بهم الحبّ والشّوق إلى الله.. إلى حياة الطّهر والنّقاء والإستقامة.. إنّه يُحبّهم ويُسجِّل هذا الحبّ لهم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222).

ويُحبّ المُتطهِّرين من الذنوب والقذارة.. قال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108).

ويُحبّ المُقسطين الذين يُقيمون القسط والعدل في ربوع هذه الأرض.. قال تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42).

ويُحبّ المُحسنين الذين يعملون الخير والإحسان.. نستقبل نفحات هذا الحبّ في قوله تعالى: (إنّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) (المائدة/ 13).

(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 148).

إنّه يُحبّ الصابرين الذين يتحمّلون مشاقّ الحياة، ويواجهون بصبر وثبات الأذى والإضطهاد والعقبات من أجل الحقّ والهدى وخير الإنسان.. قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).

إنّه يُحبّ المُتّقين الذين يخشون الله بالغيب ويُطيعون أوامره.. أوامر الحقّ والعدل والخير.. ويبتعدون عن المعصية والجريمة والفساد في الأرض.. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).

إنّه يُحبّ الذين يُقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوص.. يُدافعون عن الحقّ.. ويُقاتلون الطاغوت، ويُحطِّمون الطّغيان والكفر والفساد.. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4).

إنّه يُحب المُهاجرين، الذين يهجرون الأهل والمال والدِّيار من أجل حبِّه.. من أجل الحقّ والهدى والصّلاح..

لذا أثنى على مَنْ يُحبّ المهاجرين بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

(وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 100).

كما يتحدّث القرآن عن حُب الله لكلِّ ذلك ولكلِّ أولئك، فإنّه يتحدّث عن كراهيّة الله سبحانه لأفعال وسلوكيات بشرّية شرِّيرة، تدِّمر الحياة، وتسقط الإنسان.

فهو سبحانه لا يُحبّ الفساد والمُفسدين.. فقال تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة/ 64).

ولا يُحبّ الظالمين.. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 57).

ولا يُحبّ كلّ خوّان كفور.. (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج/ 38).

ولا يُحبّ كلّ مختال فخور مغرور بما عنده من مال وسلطة وجمال وعلم ومكانة إجتماعيّة..

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا[4] فَخُورًا) (النساء/ 36).

ولا يُحبّ المُستكبرين الذين يستكبرون في الأرض ويتعالون على الآخرين ويستفزونهم..

(لا جَرَمَ[5] أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (النحل/23)

ولا يُحبّ المُعتدين، الذين يعتدون على أموال النّاس وحياتهم وأعراضهم وحقوقهم وكراماتهم..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة/ 87).

ولا يُحبّ المُسرفين، الذين يُسرفون في ما عندهم من مال وطعام وشراب ولباس وزينة وشهوات، بل وإنّ الله لا يُحبّ المُسرفين الذين يُسرفون في الجَدَل والكلام والحبّ والعقاب... إلخ.

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

إنّ هؤلاء محرومون من الحبّ والقُرب الإلهي.. فقد باؤوا بغضبٍ من الله وحرمان..

إنّ إفاضة هذا الحُبّ الإلهي.. أو سلبه ممّن لا يستحقّه، يُجسِّد أمامنا حقائق كُبرى في هذه الحياة، وهي القيم والسّلوكيات التي يحبّها الله.. فنحبّها ونملأ الحياة بعطائها ونمائها، نحبّ ما يحبّه الله ونكره ما يكرهه الله.. ونُجسِّدها سلوكاً ومشروعاً حضاريّاً وثقافيّاً رائداً.. كما تتجسّد أمامنا السّلوكيّات الأخرى التي يبغضها الله ويكرهها.. فتنطلق في نفوسنا الكراهية لكلِّ تلك السلوكيّات الشِّرِّيرة والإبتعاد عنها، ونُطهِّر المجتمع من آثارها وآثامها..

 

- الحبّ السّلبي:

الحبّ ميل النّفس وارتباطها وتفاعلها واندماجها مع الآخر والذّات والأشياء والقِيَم.. وتتّجه – أحياناً – حركة هذه الغريزة والعواطف والنّوازع اتِّجاهاً سلبيّاً ضارّاً فيتحوّل الحب إلى أذى وضرر على الذات وعلى الآخر..

إنّ أخطر أنواع الحبّ، الحبّ السّلبي، هو الحبّ للدنيا وللشّهوات وللمال.. حبّاً يستولي على العقول والقلوب فيصدّها عن الحقّ والخير والإستقامة، ويتحوّل إلى ظلم وعدوان وضرر، ومعصية، ويُحذِّر القرآن من هذا الحبّ بقوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) (القيامة/ 20). (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20).

وينهى القرآن عن حُبِّ مَن يُعادي العقيدة والمبدأ ومصالح الأُمّة.. لأنّه حبّ خاطئ، وإنّ دافع هذا الحبّ هو المصالح الدّنيويّة التي تقود إلى هدم العقيدة ومصالح الأُمّة، وهو حبّ لِمَنْ لا يُبادل الحب، بل يستبطن البغض والكراهية، ولو بادل الحبّ ولم يحمل العداوة لهان أمره.. جاء هذا النهي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران/ 118-119).

ويوضِّح لنا القرآن أنّ الحبّ ليس إيجابيّاً في كلِّ ما نحبّ، بل من الحبّ ما هو خطأ وشرّ وضرر.. قد يندفع الإنسان بالحبِّ اندفاعاً أعمى.. أو يقوم على الجهل وضغوط الشّهوات والأفكار الخاطئة، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216).

ويتحدّث النّبيّ يوسف (ع) عن الموازنة بين حبّ الخير وحبّ الشّرّ، إذ دُعي إلى المعصية فاستعصم وامتنع وأحبّ آلام السّجن بديلاً عن حبّ الشّهوات المُحرّمة.. وسجّل القرآن هذا الموقف العظيم بقوله: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف/ 32-34).

 

                             الزِّينة والجمال في ثقافة القرآن

 ثقافة الزِّينة والجمال، ثقافة الإنسان الحضاري، الرّفيع الذّوق والمُرهف الحسّ.. وهذا الإنسان يتحسّس فيض الجمال، وجمال الحياة في مرابع القرآن جميعها.. والقرآن تحدّث عن الزينة والحُسن والجمال... بل وكان هو الصيغة الجمالية المُثلى في بنيته الأدبية، وإيقاعه الفنِّي، وصياغته اللّغوية.. فسحر جماله، وجمال بلاغته ملك النّفوس والقلوب، وأذهل العقول، واستولى على الألباب.. ذلك لمن يعرف جمال اللّغة، ويتذوّق فنّ الإيقاع اللّغوي، ويتحسّس جمال التّناغم بين المعاني والألفاظ، وإيقاع الحروف وتناسب مخارجها... إلخ.

وإذا كان القرآن هو الصِّيغة الأخّاذة المُثلى في الجمال، فإنّه صادر من ربِّ الجمال والجلال.. فالله الذي أوحى بهذا القرآن الجميل هو جميل يحبّ الجمال.. فقد ورد هذا الوصف على لسان النبي (ص): "إنّ الله جميلٌ يُجبُّ الجمال"، وما يحبّه الله من عالم الخلق والتكوين، يُبدعه على ما أحبّ وأراد.. ونحن نشهد مظاهر الجمال في عوالم الطّبيعة.. وفي خلق الإنسان والطّيور والحيوان، والأزهار والنّبات.. وحفيف الرِّيح.. وتعانق أمواج البحر وهدوء اللّيل، وإطلالة القمر ومغيب الشّمس، وكركرات الأطفال، وتغاريد الطّيور..

فالعالم من حولنا لوحة فنِّية رائعة الجمال والجلال.. فكلّ ما خلق الرّحمن جميل..

كلّ ما في الكون والطّبيعة وعالم الأحياء يوحي بهذه المعاني ويُجسِّدها..

إنّ الجمال في الطّبيعة وعوالم المخلوقات هو مصدر الإلهام للفنّان والشاعر والأديب، وكلّ منتج لموضوع الجمال.

إنّ الذي يتحسّس الجمال ويحبّ قيمه، ينفر من القُبح والقبيح، سواء ما كان في عالم المادّة والموضوع المادِّي.. أو ما كان في عالم القِيَم والموضوع القِيمي.. إنّه ينفر من الشِّكل القبيح، ومن اللّفظ القبيح، ومن الرّوائح والمناظر القبيحة.. ينفر من القذر والقذارة.. ينفر من الجريمة والحقد والكذب والعدوان.. ينفر من العبث والفوضى والابتذال.. فكلّ ذلك قبيح..

يتحدّث القرآن عن الحُسن والزِّينة والجمال.. ويتحدّث عن جمال الطّبيعة والمخلوقات جميعها، فيعرض الخلائق لوحة جمالية تفيض بالبهجة والسّرور.. ويخاطب بها الإنسان ليلفت نظره، ويُحرِّك حسّه الجمالي، ليرتقي إلى صورة الكون والطّبيعة الجمالية..

نورد من هذه الآيات خطابه للإنسان، ودعوته إيّاه لأن يستمتع بطيِّبات الحياة وزينتها وجمالها.. ويحثّه على ذلك..

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-32).

وبهذه النّصوص التشريعية والتثقيفية يردع القرآن أولئك المتقوِّلين على شريعته والمدّعين أنّ القرآن يمنع الناس من الزِّينة، والجمال وطيِّبات الحياة، ويُفنِّد تلك الإدِّعاءات.. بل ويؤكِّد الدّعوة إلى الزِّينة والجمال والإستمتاع بطيِّبات الحياة من غير إسراف أو حرمان..

ويتحدّث القرآن في موارد أخرى عن الزِّينة والجمال في عالم الطّبيعة والأحياء، ويوردها دليلاً على عظمة الله، وجميل صنعه، وكمال قدرته.. وأنّ الإنسان سيُخْتَبَر في تعامله مع ما تحمل الأرض من زينة وجمال.. هل سيتعامل مع هذا العطاء الرّباني الجميل بما هو خير وهدى وصلاح، أو بما هو شرّ وفساد وضلال.. لنقرأ النصّ المعبِّر عن هذه الثّقافة والدعوة.

قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7).

وكما يتحدّث عن الأرض وعاء الزِّينة ولوحة الجمال، يوجِّه نظر الإنسان إلى جمال المخلوقات وحُسنها وإلى عوالم السّماء وما فيها من زينة وجمال، ليقرأ الإنسان دلالات هذه اللّوحة، ويعرف عظمة البارئ الخالق المصوِّر.. ولتكون معالم الزِّينة والجمال، دليلاً على وجود الخالق العظيم وتربية للذّوق والسلوك.. قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (السجدة/ 7).

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/ 6).

وفي موضع آخر يُحسِّس القرآن الإنسان بمظاهر البهجة والجمال في ما تُخْرِج الأرض من النّبات، وتزهو به من أزهار وثمر وحقول ومناظر خلّابة، يستحضر القرآن تلك الصّورة بقوله: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/ 60).

(وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5).

وكما يتحدّث القرآن عن الجمال في الأرض والسّماء والنّبات، فإنّه يتحدّث عن الجمال في الحيوان.. وأنّه من نِعَم الله على الإنسان.. يرسم صورة الزِّينة والجمال تلك بقوله: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل/ 5-6).

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 8).

ومن جمال الطّبيعة والنّبات والحيوان إلى جمال الإنسان في خلقه وتكوينه.. إنّه يخاطب الإنسان بهذا الخلق الجميل، الذي أفاضه الخالق البارئ المصوِّر، ويدعوه للتأمّل في عظمة هذا الإبداع والحُسْن والجمال.. يدعوه لأن يتأمّل في حُسن الخلق الذي خلقه به خالقه.. وكم هو مفتون هذا الإنسان بالجمال البشري حين يتجسّد في صورته البشرية وفي شكله وصوته ومنطقه ومشيته وحركته، وابتسامته وتناسق قوامه... إلخ.

لنقرأ ما سجّله القرآن عن العناية الرّبانية في خلق هذا الإنسان، وحُسْن تكوينه وتركيب صورته الجميلة الحسناء..

(يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الإنفطار/ 6-8).

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (غافر/ 64).

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).

وكما تحدّث القرآن عن الجمال في موضوعاته المادِّية.. تحدّث عن الجمال والقِيَم والموضوعات السّلوكية.. إنّ الجمال كما يتجسّد في الشِّكل والصّورة والصّوت والمظاهر البشرية الأخرى، فإنّه يتجسّد في السّلوك الإنساني أيضاً.. يتجسّد في القول والعمل. وفي الأخلاق والعواطف والمشاعر والتعامل مع الآخر..

إنّ القرآن يدعو إلى هذا الجمال، وتجسيده سلوكاً وأخلاقاً وتعاملاً.. فإنّه تعبير عن جمال الذّات الباطني، وحُسن تركيبها النّفسي.. يُروى عن النبي (ص) المَثَل الأعلى في معرفة الشّريعة وتطبيقها والالتزام بقيمها، إنّه كان كثير العناية بمظهره ومنظره.. وكان إذا نظر في المرآة، قال: "اللّهمّ كما حسّنتَ خَلْقي فحسِّن خُلُقي"[6].

قال اليعقوبي ناقلاً اهتمام الرّسول (ص) بالزينة والجمال: "وكان (ص) إذا أراد الخروج من منزلِه إمتشط وسوّى جُمّته وأصلحَ شعره. وكان (ص) يقول: إنّ الله يُحبُّ من عبده أن يكون له حُسْن الهيأة..."[7].

والقرآن يتحدّث في موارد عديدة عن حُسن الخُلق، عن الجمال في الصّبر، وفي العفو، وفي التّعامل مع الزّوجة المطلّقة. وفي هجر الآخرين إذا كانت هناك ضرورة للهجر. وإلى كلِّ سلوك يصدر عن الإنسان..

لنقرأ ونستمع إلى القرآن وهو يدعونا إلى جمال السّلوك فهو يدعو إلى الصّبر الجميل حين تشتدّ المحنة على الإنسان وتضيق عليه مغاليق الأمور، ولا يجد غير الله ملجأً وعوناً للخروج من المحنة.. نقرأ ذلك في موقف النّبيّ يعقوب (ع) في محنته مع تآمر أبنائه على أخيهم يوسف (ع):

(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف/ 18).

ويخاطب القرآن النّبيّ العظيم محمّداً (ص) حين اشتدّت به محنة الصِّراع مع خصوم الدّعوة الإسلامية، يخاطبه بقوله:

(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) (المزمل/ 10).

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) (المعارج/ 5).

وحين يقع الخلاف في الأُسرة التي جمعها الحبّ والتآلف العاطفي والوجداني، ودعت الضّرورة إلى فكِّ الشّراكة الزّوجية وإيقاع الفرقة والطّلاق.. يدعو القرآن إلى أن يكون الطّلاق طلاقاً جميلاً يليق بمكانة المرأة المصونة وحرمتها.. نقرأ ما جاء من قول الله تعالى للنبي (ص) في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ[8] وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) (الأحزاب/ 28).

ومثل هذا الخطاب يوجِّهه القرآن للمسلمين جميعاً.. جاء هذا الخطاب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) (الأحزاب/ 49).

ويُخاطب النّبيّ (ص) ويدعوه إلى الصّفح عن الخصوم الذين يختلف معهم في العقيدة، ما زال الموقف يتطلّب الصّفح.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ[9] الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).

والحُسْن هو أحد أوصاف الجمال.. والقرآن يريد الجمال في السّلوك والأخلاق، في القول والعمل.. لذا يدعو إلى جمال الكلمة، وحُسْن أدائها.. قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83).

(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34).

وهكذا يتحدّث القرآن عن الحُسْن والزِّينة والجمال، ومظاهر الإبداع في هذا العام ويوجِّه الأنظار إليه، ليتذوّق الإنسان معاني الجمال، ويملأ قلبه بحبِّ الجمال وبروعة الجلال الإلهي، ويصنع سلوكه على ما صنعت عليه العوالم من صيغ الجمال.. فيصوغ فعله وقوله ونيّته صياغة الحُسْن والجمال.. ويبني البيت والشارع والمدينة والحديقة والمزرعة والمصنع وكلّ أثاثه وأدواته بناءً جمالياً يوحي بعظمة الله.. ويُجسِّد الزِّينة والجمال في لباسه ونظافته وأناقته ونظام حياته، ويتذكّر دائماً قول الرسول (ص): "إنّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمال".. ومَن يُحبّ الجمال، يكره القُبْح والقبيح في كلِّ شيء.. فلا يصدر عنه إلّا الحَسنُ الجميل.

 

                                لا إسراف ولاتبذير ولاتقتير

- التعامل المقنّن مع الأشياء:

الإنسان يتعامل مع الأشياء والموجودات جميعها، وله حاجة طبيعية مادِّية ونفسية وعاطفية وعقلية وغريزية.. مقدّرة تقديراً علمياً وعملياً موضوعياً..

الإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللِّباس والجنس والماء والسكن والجمال والترفيه والحب والكراهية... إلخ. وتتعامل غرائزه وخياله وعقله وأوهامه وعواطفه مع الحقائق والموضوعات والأشياء، وكثيراً ما يتعامل تعاملاً خاطئاً.. فينحرف من الإعتدال والوضع الطبيعي إلى الإسراف والتبذير والتقتير..

إنّ ثقافة القرآن ترسم للإنسان خطّ الاعتدال، وتُثقِّفه على أنّ لكل شيء في هذا الوجود مقداراً محدّداً، فكل شيء هو بمقدار.. وتوفير هذا المقدار هو الحقّ، وهو الموقف الطبيعي للإنسان..

نقرأ هذه الثقافة في قوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/ 8).

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2).

ويثني القرآن على عباد الرحمن النموذج والقدوة في السلوك والتعامل.. يثني على إنفاقهم المُعتدل الذي لا إسراف فيه ولا تقتير، ليعرض طريقة الإنسان السوية في الإنفاق، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

الإنسان عندما يتعامل مع الأشياء تعاملاً خاطئاً، يجلب لنفسه ولأُسرته ولمجتمعه المشاكل والأزمات، وبالاعتدال يحفظ صحّته وماله وسمعته.

 

- الإسراف في الطعام والشراب والمياه:

إنّ أخطر الأسباب المؤدِّية للإنهيار والأزمات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، هما الإسراف والتبذير..

إنّ الإنسان يُسرِف في استعمال الطعام والشراب والجنس واللباس والماء ووسائل الزِّينة والترفيه.. فيتجاوز الحد والحاجة الطبيعية، وبهذا الإسراف يضرّ نفسه ومجتمعه، يضرّ وضعه الصحي، ويضر وضعه الاقتصادي والاجتماعي.. فمثلاً الإسراف في استعمال الماء سبّب أزمات للشعوب والبلدان التي لا تملك كميات كبيرة من المياه..

إنّ هدر المياه في الاستعمال.. في الغسل والسقي وغيرهما.. يُسبِّب الشّحّة والحاجة الكبيرة وارتفاع أسعار الماء..

إنّنا نشاهد المُسرِف والمُبذِّر في استعمال الماء يفتح صنبور الماء ويتركه يجري، ويدفع كميات كبيرة من الماء دون حساب.. فيُسرف في استعمال الماء حتى ينفق أضعاف ما يحتاج إليه عندما يهدر كميات كبيرة من الماء..

والفلاح الجاهل باستعمال الماء، يستخدم كميات كبيرة في السقي تفوق حاجة مزروعاته مرات عديدة، فيهدر الماء بجله وإسرافه.. إنّ الإسراف والتبذير يُضيِّع أضعاف ما يحتاجه الإنسان بصورة فعلية.

وفي إعداد الطعام والشراب، نرى الإسراف والهدر والعبث عندما تعدّ موائد الطعام.. فلا يتناول المُسرفون من الطعام المُعدّ إلا بعضه، ويُلقى الباقي في حاوية الفضلات، فيبذّر المال والطعام والشراب أضعاف ما يحتاجه الإنسان، فيتحوّل إلى فضلات تُلقى في حاويات الفضلات.

إنّ البعض يتباهى بكثرة ما يُعِدّ في الولائم من الطعام والشراب، ويُعدّه كرماً، وتفوّقاً على الآخرين.. ويزداد الإسراف خطراً عندما يُسرف الإنسان في تناول الطعام والشراب، فيُثقِل معدته وجهازه الهضمي وصحّته العامة بالطعام والشراب، فيتحول هذا الإسراف إلى ضرر بالصحة وسلامة الجسم، ورشاقته وجمال قوامه، وراحته وقدرته على الحركة والعمل والتحمّل.. فتتحول متعة الطعام والشراب إلى أمراض وآلام وعبئ ثقيل على الجسم والصحة واقتصاد الأسرة والمجتمع.

إنّ الترشيد في الإنفاق والإستهلاك المادّي يمكن أن يوفِّر نسبة عالية من دخل الفرد والأسرة ودخل الأُمّة العام، ويحفظ الصحة والثروة.. والقرآن الكريم ينهى عن الإسراف في العديد من آياته، منها قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

ويذكر كتاب السير: "أنّ رسول الله (ص) مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: ما هذا الإسراف.. فقال: أفي الوضوء إسراف، قال: نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ".

 

- الإسراف في الزينة والأناقة واللباس:

ويدعو القرآن إلى الزينة والجمال والأناقة، ولكنّه ينهى ويحرِّم الإسراف في الاستعمال المفرط للزينة والأناقة واللباس..

إنّ مروراً سريعاً في الأسواق ومشاهدة واجهات المعارض ومراقبة المتسوِّقين وعمليات الشراء، يكشف لنا حجم البَذْخ والإسراف والنهم في شراء الملابس ووسائل الزينة والتجميل، وحجم الأموال التي تُهدر بسبب الإسراف والتبذير والبذخ.. ممّا يضرّ باقتصاد الأُسرة، بل ويحدث في كثير من الأحيان لها المشاكل والخلافات..

إنّ المشتريات والمستهلكات تفوق حاجة الإنسان الطبيعية للباس، ولوسائل الزينة ومُستحضرات التجميل، لا سيّما في الجانب النسوي، فبعض النساء ومثلهنّ في ذلك الرجال، يدخل في عملية منافسة ومباراة مع أقرانهم المسرفين، متصوِّراً أنّ من أسباب تفوّق شخصيته وظهوره بين أقرانه وفي مجتمعه هو البذخ والإكثار من استعمال الملابس والتفنّن المفرط في وسائل الزينة والتجميل..

وتلعب وسائل الإعلام المستأجَرة للشّركات المنتجة لوسائل الزينة والتجميل ولدُور الأزياء.. تلعب دوراً كبيراً في الإغراء بالشراء والدفع نحو الإسراف المادِّي..

إنّ تقليص حجم الإنفاق وتوفيره للمستقبل والطوارئ والتخفيف عن كاهل الدخل الفردي والأُسري، هو التصرف السلوكي المعقول، والذي يعود بالنفع على المُنفق.. ويكفي كراهية أن نقرأ أنّ الله لا يُحبّ المُسرف.. فالله يكرهه ويمقته وهو يختال في زيِّه وزينته المُسرفة..

إنّ القرآن الكريم إذ يُحرِّم الإسراف، إنّما يُحرِّمه لأسباب اقتصادية وتربوية نفسية لصالح الفرد والمجتمع، ووقاية من المشاكل التي تحدث في الأُسر والمجتمعات بسبب الإسراف والتبذير.. فشريعة القرآن هدفها جلب المصالح للإنسان ودرء المفاسد عنه.

 

- الإسراف في الحب والبغض:

وليس الإسراف في الإستعمال المادِّي.. الطعام والشراب والماء واللِّباس والزينة والترفيه وكثرة السفر وغيرها فحسب.. بل والإسراف في الحب والبغض والعقاب.. فالبعض يتجاوز الحد في حبِّه وبغضه، وفي عقابه..

إنّ الحب لكي يؤدي غرضه النفسي والعملي في الحياة يجب أن يكون حبّاً معتدلاً، لا إسراف فيه ولا تجاوز..

إنّ الحب الطاغي يعمي بصر المُحبّ، ويسدّ منافذ عقله وقلبه عن رؤية العيوب والنقائص في المحبوب والتستر عليه، بل والدفاع عن خطئه حتى يدخله في المعصية، وقد عالج القرآن هذا الخطأ بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).

ومن الشعر لحكمة، يُصوِّر الشاعر الحب الأعمى والمحب المُسرف في حبه بقوله:

وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٍ **** ألا أنّ عين السخط تبدي المساويا

إنّ الإنسان يواجه حالات وأوضاع ومواقف من بعض الناس تشمئزّ نفسه منها، ويكرهها، ويكره الإنسان الذي تصدر عنه تلك الأخطاء والمواقف السلبية.. غير أنّ البغض من الناس يُبالغ في الكراهية، ويُسرف في السخط والبغض حتى يتجاوز الحد، فيتحوّل إلى معتدٍ على الآخرين وظالم لهم.. لذلك ينهى القرآن عن الإنزلاق في هذه الهاوية بقوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

ووضع حد معتدل لردّ الفعل والتفاعل النفسي باتِّجاه الحب والكره، هو تنظيم للإنفعال وحماية توازن الشخصية..

يوجِّه الإمام علي (ع) الإنسان الذي يندفع مبالغاً بالحبِّ والكراهية، يوجِّه بقوله: (أحبب حبيبك هوناً، عَسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغِض بَغِيضَكَ هوناً ما، عَسى أن يكون حبيبك يوماً ما".

فالإمام في هذا التوجيه الرائع، لا ينصح بعدم طغيان مشاعر الحبّ والكراهية فحسب، بل ويرشد وينبِّه إلى رؤية مستقبلية، ووضع خطّ رجعة لئلا يُحرَج الإنسان ويواجه مشاكل نفسية واجتماعية عندما تزول أسباب البغض أو الحب وتتغير المواقف.. إنما يقع الإنسان في هذا الحرج والأزمة بسبب مبالغته وإسرافه في الحب والبغض.

 

- الإسراف في العقاب:

ومثل آخر على الإسراف الذي نهى القرآن عنه، هو الإسراف في العقاب، فمن حق الإنسان المعتدى عليه أن يرد الإعتداء بالمثل، أو يتسامى فيعفو، غير أنّ البعض يتجاوز الحدّ، ويُسرف في العقاب أضعافاً مضاعفة في القتل أو الضرب أو القول أو القصاص في المال... إلخ، بل ويتجاوز البعض على ذوي المعتدي الأبرياء.. انتقاماً من المعتدي، فيقع هؤلاء الأبرياء ضحايا الإسراف وتجاوز الحد في العقاب والرد على المعتدي؛ لذا نجد القرآن يعالج هذه المشكلة الكُبرى في السلوك، ويضع حدّاً لها.. قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 194).

(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/ 33).

 

- الإسراف في الجنس:

وكما اتّضح، فإنّ القرآن ينهى عن الإسراف في كل شيء، لأنّه تجاوز الحدّ، ولكل شيءٍ حدّ.. فينهى عن الإسراف في الكلام وفي الجنس، وغير ذلك، فكما يُسرف الإنسان في الطعام والشراب والماء والعقاب... إلخ، فإنّه يُسرف كذلك في الجنس، فإنّ من أخطر ما تواجهه البشرية الآن هو الإسراف في الجنس.. حتى تجاوز الحد، وتحوّل إلى الإباحية والفوضى الجنسية، وإلى الشذوذ والإنحراف المرضي.. إلى حد اللواط والمساحقة، وممارسته مع الحيوانات..

وتشهد الدراسات والتقارير الطبية بالكارثة المرضية كارثة الأيدز وغيره من أمراض الجنس التي تواجه البشرية نتيجة الإسراف الجنسي..

والقرآن يُحذِّر من الإسراف الجنسي والفوضى الجنسية، نقرأ من هذه التحذيرات: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (الأعراف/ 80-81).

(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 24).

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ(*)) (النساء/ 25).

قال أئمّة اللغة معنى الإحصان: هو العفّة والزواج، ومعنى المسافحة: هي الإقامة مع المرأة ومباشرتها جنسياً من غير زواج شرعي، ومصادقة المرأة سرّاً للتعامل المُحرّم معها.

إنّ القرآن يُحرِّم السفاح والإباحة الجنسية واتخاذ الأخذان والشذوذ، حماية لكرامة المرأة والرجل.. وحفظاً للصحة والمواسرة؛ ولئلا يولد في المجتمع ولد وهو لا يعرف له أباً فيه.

 

- الإسراف في الكلام والجدل والملاحاة:

ومن مصاديق الإسراف التي نهى القرآن عنها، هو الإسراف في الكلام والجدل، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54).

فإنّ الكثير من الناس يكثر الجدل والخصومة واللجاجة، سواء جادل للدفاع عن الحق أو الباطل، والقرآن يرفض الملاحاة والجدل واللجاجة؛ ليكون الإنسان طبيعياً في حديثه وحواره وبيانه للحقيقة.. ويوضّح الرسول الكريم محمد (ص) رفضه للجدلية والملاحاة فيقول: "ما نهيتُ عن شيءٍ بعد عبادة الأوثان، كما نهيتُ عن ملاحاة الرجال".

وبعض المصابين بأمراض الكلام يُسرف في الكلام والحديث حتى يتحول إلى ثرثار يملّه الناس، ويكرهون حديثه.

إنّ القضية التي لا يحتاج بيانها أو تعريفها، أو الدفاع عنها، أكثر من حديث واضح ترى المصابين بأمراض الكلام يتجاوزون الحد في الحديث عن تلك القضية إلى أيام أو أسابيع وربما شهوراً يكرر ويعيد.. وما أحسن القول المأثور: "خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ".

وهكذا فإنّ الإسراف هو من أخطر أمراض البشرية، الفردي والإجتماعي؛ لذلك يُثقِّف القرآن ضد الإسراف، ويدعو إلى الإعتدال والإتزان والتحرر منه.. فهو كما عرّف تجاوز الحد في كل شيء.. لذا فإن عاقبة الإسراف هي الهلاك والدمار للأفراد والشعوب والأُمم؛ لأنّه خروج على قانون الطبيعة ونظام الوجود. ويوضِّح القرآن هذه الحقيقة بقوله: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (الأنبياء/ 9).

 

- التّبذير:

عرّف الراغب الأصفهاني التبذير بقوله: "التبذير: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكل مضيِّع لماله، فتبذير البذر: تضييع في الظاهر لمَن لا يعرف مآل ما يلقيه"(1).

والتبذير ظاهرة سلبية يمارسها البعض من الناس عند التعامل مع المال.. وهي عملية تضييع وإنفاق للمال في ما لا يعود بالنفع على صاحبه، فليس هو الإنفاق الرشيد للمال..

إنّ ترشيد الإنفاق ووضع المال في مواضعه التي تعود بالنفع على الفرد والأُسرة والمجتمع والدولة، هو الإنفاق الذي دعا إليه القرآن، وذلك يتطلب وعياً علميّاً، ومعرفة في موارد إنفاق المال والجهود والإمكانات وتوظيفها.

إنّ الجاهل والسّفيه يُضيِّع ماله، ويُبذِّره في ما لا يفيد، ولا المال وأصحاب المال.. يُبذِّرون أموالهم، ولا يُحسنون الإنفاق، ممّا جرّهم إلى الإفلاس والخسائر الفادحة.

والقرآن يُثقِّف الإنسان المسلم على حُسن الإنفاق وترشيده، وحفظ المال وصيانته من التبذير والتضييع، لذلك نجد القرآن الكريم يصف المُبذِّرين بأنّهم إخوان الشياطين؛ لأنّهم عابثون مضيِّعون.. جاء هذا البيان في قوله تعالى: (حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27).

وينهى القرآن عن تبذير المال والإسراف في إنفاقه، فيقع المُبذِّر والمُسرف في الحسرة والندم على ما بذّر وضيّع وأسرف فيه.. قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).

إنّ القرآن الكريم ينهى عن التبذير والإسراف حتى في الإنفاق المحبّب والمقبول؛ ويُثقِّف على أنّ عاقبة التبذير والإسراف هي الحسرة والندم.

ولكي لا يُبذّر المال، نهى القرآن عن أن يُسلّم المال إلى السفيه، وهو مَن لا يملك الرُّشد في التصرف في المال.. ويُضيِّع المال ويُبذِّر، بل ويحكم الفقه الإسلامي بالحجر على تصرفات السفيه المالية، ويفرض عليه الحجر المالي، صيانةً لماله، وحافظاً عليه، وعلى اقتصاد الأسرة والأُمّة وماليّتها.. وهو إجراء قانوني إسلامي يعطي الدولة حق التدخل لصيانة المال الفردي والجماعي وحفظه. جاء هذا التشريع واضحاً في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5).

بل ويمتدّ الولاية، ولاية الدولة أو المتولِّي على مال اليتيم، ولا يُسلّم إليه المال، بل يُنفق عليه من ماله بالمعروف حتى يبلغ الرُّشد، حفظاً على ماله من التضييع والتبذير، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء/ 6).

إنّ من أخطر مشاكل اقتصاد الأُسرة والفرد والأُمة هو الإسراف والتبذير، لذا يُحرِّمها الإسلام، ويُشدِّد في النهي عنهما، والتثقيف على الاستعمال الطبيعي المتوازن في كل شيء يتعامل معه الإنسان.

 

- التقتير:

والتقتير هو ظاهرة سلبية في الإنفاق، سببها البُخل وشحّ النفوس ولؤمها، والتقتير هو التضييق في الإنفاق من المستطيع.. وكثيراً ما يصل التقتير إلى حدِّ الحرمان ويتسبّب في حدوث المشاكل الأُسرية عندما يُقتِّر ربّ الأسرة في الإنفاق ويُضيِّق على زوجته وأبنائه وأفراد أُسرته.. وربما قاد التقتير بعض أفراد الأسرة إلى طلب المال من الحرام والإنحراف والوقوع في حبائل الشيطان.. أو الكراهية للزوج وللأب أو الأُم.. وذلك سبب مادِّي من أسباب انهيار الأُسرة.. لذلك يأمر القرآن بالإنفاق المُعتدل وينهى عن التقتير بقوله: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).

وبقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

ويأمر الرسول (ص) بالتوسعة على العيال ويعدّها أفضل من الصدقة، ويُحذِّر القرآن من الشّحّ(**)، بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- الهوامش:

(*) أخذان: أصحاب من الرجال غير الشرعيين.

(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن.

(**) الشّحّ: البُخل مع حرص/ مختار الصِّحاح.

 

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46).

المنازعات وحدوث المشاكل بين الناس ظاهرة ملازمة للمجتمع الإنساني، ولا يمكن أن يوجد مجتمع من غير أن تكون فيه مشاكل وخلافات ونزاعات وجرائم ومخالفات..

وتهتمّ الدراسات النفسية، ودراسات علم الاجتماع، والعلم الجنائي والفلسفة وعلم الأخلاق والتربية وغيرها من العلوم بدراسة الأسباب المؤدِّية إلى نشوء المشاكل والنزاعات والجرائم في المجتمع، والعمل على حلِّها ومعالجتها..

فإنّ أخطر ما يُهدِّد نظام الحياة وأمن المجتمع، واستقرار الوضع السياسي والإقتصادي، وسلامة الوضع النفسي للإنسان هو الجريمة والنزاعات والخلافات.. ويعمل القضاء والقانون والسلطة على حماية المجتمع وحلّ مشاكله عن طريق تسمية الفعل الجنائي وإنزال العقاب بالجاني.. أو حلّ المشاكل والنزاعات التي تنشأ بين الأشخاص بإرجاع الحقوق إلى أصحابها.. وفي حال تُركت النزاعات والخلافات من غير حلول ولا تسوية فإنّها تتطوّر إلى مشاكل جنائية، إذ يقدم البعض على ارتكاب الجريمة والإقتصاص من الخصم، واللجوء للثّأر..

إنّ سلامة المجتمع وأمنه واستقراره يكمن في الحيلولة دون حدوث المنازعات وارتكاب الجرائم، وحلّ المشاكل في وقت مبكِّر، قبل أن تتطوّر المشكلة، وتتحوّل إلى أزمة بين الأطراف أو جريمة يدفع الأفراد والمجتمع ثمنها الباهض..

من الأهداف الأساسية للأنبياء والمرسلين والرّسالات الإلهية هو (الإصلاح بين الناس).. لذا يُركِّز القرآن العناية، ويُثقِّف المسلمين على أهمية الإصلاح بين الناس، وحلّ المنازعات التي تحدث في المجتمع.. فليس من أخلاقية المسلم أن يكون متفرِّجاً على المشاكل والنزاعات، كأنّ الأمر لا يعنيه، بل هو مسؤول عن تحمّل تلك المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.. عملاً بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ونورد من نصوص هذه الثقافة القرآنية قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...).

النّجوى: هي حديث السِّرّ والخصوص بين المتناجين.. القرآن يشجب ويرفض مناجاة التآمر والعدوان ونشر الفساد ومقاومة الحق والعدل، وينزع من هذا الفعل العدواني صفة الخير، ويوجِّه إلى أنّ الخير هو في بذل الصدقة.. بذل المال للناس المحتاجين.. الفقراء والأيتام والأرامل والمرضى والعاجزين، والأمر بالمعروف لبناء المجتمع وتنميته وتطويره مادِّياً وإنسانياً، إذا ما حدثت المشاكل والمنازعات بين الناس، فالخير في ذلك.. وكلّ ذلك إصلاح.. والخير في الإصلاح بين الناس، وحلّ المنازعات بينهم، ولأهميِّة هذا العمل الإنساني الكبير يفضِّله الرسول (ص) على المستحبّ من الصوم والصلاة.. ورد عنه قوله (ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة.. إصلاح ذات البَيْن، فإنّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة".

إنّ تصدِّي الأفراد المؤثِّرين في المجتمع، وإيجاد مؤسّسات ومجالس ومنظّمات مدنيّة محلِّية، تعمل على حلِّ المنازعات والإصلاح بين الناس، عند حدوث المشاكل والمنازعات قبل تطوّرها، وقبل وصولها للقضاء، لهي من أهمّ أعمال الخير التي يُقدِّمها الفرد والجماعة للمجتمع..

إنّ وجود مثل هذه المؤسّسات في الأسواق وفي القرى والأحياء، يساعد على حلِّ المنازعات وفضّ الخصومات، كالّتي تحدث في الأُسر، بين الزوج وزوجته، والتي كثيراً ما تنتهي إلى الطلاق، وهدم أركان الأُسرة وتضييع أبنائها.. أو تحدث بين الجيران والأقارب والمتعاملين في الأسواق؛ لأسباب مالية أو منازعات اجتماعية وعشائرية، أو بين الفلاحين بسبب المياه والأراضي... إلخ.

نقرأ عناية القرآن الخاصة في إصلاح المشاكل الأُسرية، وحلّ منازعات الأُسرة، عندما يعرض صورة من مشاكل الأُسرة، ويدعو لحلِّها صلحاً.. قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 128).

ويرشد القرآن الكريم في آيات أُخر إلى آليّة عملية لحلِّ النِّزاع الذي يحدث بين الزوج والزوجة.. جاء هذا البيان في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 228).

وسجّل القرآن الكريم حادثة منازعات بين قبيلتين في عصر النّزول، وحدث بينهما خلاف وقتال.. ووجّه المسلمين في ذلك الوقت، ودعاهم إلى أن يُسارعوا للإصلاح بينهم والوقوف بوجه المعتدي الّذي يرفض الاستجابة للإصلاح وحلّ هذا النِّزاع.

(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 9-10).

ويكشف القرآن دعوته للإصلاح بين النّاس وحلّ المنازعات والخلافات، وإنهاء المشاكل بمبادرات اجتماعية، وجهود مدنية خارج دائرة القضاء..

إنّ القرآن يدعو المسلمين إلى البرِّ، وهو المعروف والإحسان، وإلى تقوى الله، وإلى الإصلاح بين النّاس فيخاطبهم بقوله: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً[10] لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 223).

ومرّة أخرى يدعو القرآن إلى تقوى الله وطاعته، وطاعة الرسول (ص)، وهي الالتزام بأحكام الشّريعة وقيمها الإنسانية السّامية.. وإصلاح مشاكل المجتمع الّتي تحدث بين النّاس، وحلّ منازعاتهم بالّتي هي أحسن.

(.. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال/ 1).

إنّ المصلحين الّذين يحلّون مشاكل المجتمع والمنازعات والخلافات التي تحدث بين النّاس يستحقّون الثّناء والتقدير والجزاء الكريم من الله سبحانه، وذلك رفع لشأن الإصلاح وحلّ المنازعات وتعظيم له.. وفي إصلاح المجتمع وتطهيره من المفاسد والانحرافات الفكرية والسّلوكية، وإصلاح العلاقات الإنسانية بين النّاس.. نقرأ هذا التكريم والثّناء في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170).

ولا يفوتنا أن نذكر هنا الدّور الّذي أعطاه التّشريع الإسلامي للمتخاصمين في اختيار الحَكَم الذي يحلّ المشاكل والمنازعة بينهما.. إذا ما حدثت مشكلة في الأُسرة والقرية والسّوق والمحلّة، وبين المتبايعين وغيرهم، واعتبر الحُكْم الّذي يتوصّل إليه التحكيم ملزماً للأطراف.. ويُسمّى هذا الحَكَم بقاضي التحكيم.. بحث الفقهاء هذا اللّون من التحكيم والقضاء بحثاً قانونياً إضافياً.. كم ساهمت جهود المخلصين في إنقاذ أُسَر عديدة من الخراب والإنهيار.. وكم حُقنت من الدِّماء.. وكم أُصلحت من المشاكل.. وكم قوِّم من الانحراف والانهيار.. وكم حُلّت من المنازعات والخلافات..

إنّ القرآن يدعوك لأن تكون مُصلحاً.. فساهِم في الإصلاح.. القرآن يُحدِّثنا أنّ الإصلاح وحلّ المنازعات إنقاذ من الهلاك والدّمار.. وعندما يتعاون أفراد المجتمع ويُصلحون ذات بينهم، وما فسدَ من مجتمعهم، فإنّهم يُنقذون أنفسهم ومجتمعهم من الجريمة والسّقوط والمنازعات والأحقاد.. القرآن يُسجِّل لنا هذا البيان بقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (هود/ 117).

فالإصلاح في تشخيص القرآن وقاية من الهلاك والدّمار، فلنقِ أنفسنا ومجتمعنا من الهلاك والدّمار.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/ 25).

ويُثبِّت القرآن مبدأين أساسين للإصلاح، هما:

أوّلاً: أساس الحقّ والعدل.. فالقرآن يريد أن يبني الحياة، على أساس الحقّ والعدل.. وعندما يحدث نزاع بين طرفين، يأمرنا القرآن أن نحلّ هذا النِّزاع بالعدل والقسط.. قال تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات/ 9).

ثانياً: والأساس الثّاني من الأُسس التي يرتكز عليها الإصلاح، وحلّ المنازعات الّذي يدعو له القرآن الكريم، هو أساس العفو والتّسامح.. قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ...) (البقرة/ 237).

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة/ 178).

 

- الأسباب الأساسيّة للمنازعات:

عندما ندرس المشاكل والخلافات والمنازعات بين الأطراف المتنازعة.. من خلال وثائق القضاء، والاستماع إلى أطراف النِّزاع في المجالات المختلفة، ومن خلال وثائق التأريخ والإستماع إلى وسائل الإعلام المعاصرة، نجد أهمّها:

1- الخلاف والنِّزاع على المكاسب والمصالح والموجودات المادية:

سواء في مجال الأفراد أو العشائر والقبائل أو الدّول..

ويشهد التأريخ بأنّ أخطر حروب الإحتلال والإستعمار كان من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية والأسواق والطرق التجارية.. وتشهد المحاكم ومؤسّسات القضاء أنّ معظم النِّزاعات الشخصية هي نزاعات حول الملكية أو الحقوق المالية أو الدِّيون وأمثالها.

2- الخلافات الفكرية والعقيدية:

ومن أهمّ أسباب الخلاف والنِّزاع والإقتتال، هو الخلاف العقيدي والفكري بين النّاس.. فالصِّراع بين الأنبياء.. دعاة الإصلاح والإيمان بالله وبقِيَم الحقّ والعدل والخير، وبين الطّواغيت وأتباع الأفكار والعقائد الإلحادية هو من أبرز مظاهر الخلاف والصِّراع والنِّزاع البشري..

وكما شهد التأريخ ونشهد في عالمنا المعاصر الخلاف بين المسلمين والوثنيين والمسيحيين واليهود.. أو بين الفكر الماركسي والفكر الرّأسمالي والفكر الإسلامي، أو بين المذاهب الدِّينية، كمذاهب أهل السنّة وشيعة آل الرّسول (ص)، وبين المذاهب المسيحيّة.. مثل الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم.. ذلك من أهمّ وأوسع وأخطر الخلافات والنِّزاعات بين النّاس..

وكما هي مسألة فكرية وعقيدية، فإنّ حلّها يجب أن يكون فكرياً وثقافياً، فإنّ الجهل بين عامّة النّاس والتّوظيف السياسي والنّفعي لهذا الخلاف، هو السّبب وراء تغذيته وتأجيج خلافاته وتعميقه.

والقرآن يدعو إلى حلِّ الخلافات الفكرية بين النّاس بالطّرق الفكرية والثقافية..

قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (النحل/ 125).

قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصِّلت/ 34-35).

وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (العنكبوت/ 46).

ويدعو المسلمين إلى الاحتكام إلى الله وسنّة رسوله (ص) في حال حصول الخلاف والنِّزاع بينهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء/ 59).

3- النِّزاعات القومية والإقليمية والعشائرية:

ومن أخطر النِّزاعات أيضاً بين الشعوب والأُمم هي العصبية القومية والصِّراع القومي.. والنِّزاعات العشائرية، لا سيّما بعد أن نُظِّر المفهوم القومي والعنصري، وصارت له نظريات سياسية واقتصادية وأمنية، بل وبيولوجية.. وقسم بنو الإنسان إلى قوميات متفاوتة.. ووضع نظام الأمن القومي، وتكوّن مفهوم الإستعلاء القومي، وأُسِّست الدّول القومية، ونشبت الصِّراعات القومية والعنصرية بين النّاس..

والقرآن يرفض كلّ هذه النّظريات والفوارق العنصرية والقومية.. فليس لها أيّ أساس علمي أو أخلاقي أو قانوني أو بيولوجي.. بل هي عصبية انتمائية على أساس اللّغة والنّسب.. ويؤكِّد القرآن أنّ النّاس سواسية في الإنسانية ووحدة المنشأ البشري.. والناس كلّهم أبناء آدم وحوّاء.. والإختلاف في اللّغة واللّون لا يعطي ميزة ولا يُشكِّل فارقاً استعلائياً.. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).

فهذا الإختلاف آية من آيات الله، تدعو إلى التأمّل في عظمة الله وحبّ الخير للجميع واحترامهم وتكريمهم، وليس للإستعلاء عليهم وإيجاد الفرقة والخلاف بينهم، والصِّراع على موجودات الحياة.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13).

4- النِّزاعات السياسية والحزبية:

إنّ قراءة المساحة البشرية على امتداد تأريخها.. ومنذ نشأة السّلطة والدّولة.. كان الصِّراع على السّلطة والتسلّط والقيادة هو من أهمّ أسباب النِّزاع البشري وأهمّ وأخطر الأزمات التي عانت منها البشرية، كالحروب والخراب والدّمار والعداوات.. وما زالت هذه النِّزاعات تتصدّر أسباب الصِّراع والخلاف والنِّزاع.. والقرآن يُحذِّر من اتِّباع القادة والطّواغيت ومن استعمال القوّة الغاشمة ومن العدوان والتّسلّط، ويعرض فرعون طاغية التّسلّط السّلطوي مثالاً لهذه الظّاهرة.. قال تعالى مخاطباً النّبيّ موسى (ع) وأخاه هارون (ع):

(إذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّه طَغَى) (طه/ 43).

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 4).

ويتحدّث في موقع آخر عن الفساد والصِّراع السّياسي، فيقول:

(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 205).

5- النِّزاعات الأُسريّة:

وعندما نتحدّث عن النِّزاعات البشرية، فلابدّ من أن نثبت أنّ من أهمّ النِّزاعات البشرية هو النِّزاع الأُسري.. النِّزاع بين الزّوج وزوجته، وانعكاس ذلك على أوضاع الأبناء وبقيّة أفراد الأُسرة.. وتحدث تلك الخلافات بسبب سوء الخُلْق من أحد الزّوجين، أو عدم احترام حقوق الآخر.. أو الغيرة الباطلة، أو الأوضاع المالية للأُسرة، أو عدم قناعة أحدهما بالآخر... إلخ.

وقد تحدّث القرآن عن هذه الظّاهرة كثيراً، وقام بوضع الحلول والمعالجات لها.. وأكّد على التفاهم والتشاور والتحكيم بين الزّوجين لحلِّ المشاكل والنِّزاعات.. واعتبر الطّلاق آخر العلاجات الّتي كرّهها، وصرف النّظر عنها.. قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 128).

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).

6- النِّزاعات بسبب الأنانية والأزمات النّفسية:

تفيد الدّراسات العلمية الّتي أجراها علماء النّفس وعلماء الإجرام والاجتماع، أنّ الكثير من الخلافات والمشاكل الاجتماعية سببها الوضع النفسي والعُقَد والمشاكل النفسية للإنسان، وأنّ الحلّ لهذه المشكلة هو التّربية والتّوجيه السّليم وتوفير الصحّة النّفسية لأُولئك المرضى، وإعادة تنظيم الشّخصية، وحلّ مشاكلهم الّتي يواجهونها..

والقرآن الكريم يوضِّح هذه الحقيقة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11).

وقال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي...) (يوسف/ 53).

وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89).

فالآيات تعتبر أنّ الأوضاع الداخلية والأفكار والحالات النّفسية والتكوين الباطني لأخلاقية الإنسان هي الدّافع الأساس وراء سلوك الإنسان.. وأنّ الكثير من المشاكل والأزمات والأوضاع الضارة بالفرد والمجتمع هي انعكاس للوضع غير الصحِّي للتكوين الفكري والنّفسي للإنسان.

لكي ننجح في التخلّص من المنازعات، وتُحقِّق جهود الإصلاح والوساطة أهدافها، ينبغي مُراعاة عناصر أساسيّة، أهمّها:

1-             الاهتمام بالتّربية السّليمة والتّوعية والتّثقيف على خطورة المشاكل والنِّزاعات وضررها على حاضر الإنسان ومستقبله، وما ينتظر المعتدي من عقوبات قضائية تطال حياته وحياة أُسرته، وإنّه مسؤول أمام الله سبحانه يوم الحساب.

2-             العمل على حلِّ مشاكل الإنسان الماديِّة، مشاكل الطّعام والشّراب والجنس والخدمات والأمن... إلخ.

3-             دراسة أسباب المشكلة الّتي نسعى لحلِّها لتتوفّر أمامنا الصّورة الكاملة للمشكلة، لا سيّما خلفيّاتها القديمة، والعلاقة بين ماضي المشكلة وحاضرها.

4-             دراسة الوثائق والأدلّة والحجج التي يُقدِّمها كل طرف قبل وضع الحلول.

5-             توفير فهم جيِّد لطبيعة الأشخاص وتكوينهم النّفسي الّذين هم أطراف المشكلة.

6-             معرفة مطالب كلّ طرف ومعرفة البيئة والأعراف الّتي تحدث فيها المشكلة ومراعاتها.

7-             اختيار الوقت والمكان المناسب للقاء الأطراف، وتوفير جوّ نفسيّ وحواريّ مريح بعيد عن التوتّر والإنفعال.. وعندما يشعر الوسطاء بعدم تحقيق التقارب في الجلسة الأوّلى، ينبغي تأجيلها بجوٍّ نفسيّ مريح إلى وقتٍ محدّد أو يُحدّد مستقبلاً، ولنصبر على الحوار وجهود الوساطة حتى حلّ المشكلة.

8-             وضع تصوّرات أوّلية للحلول ودراستها قبل عرضها كصيغة نهائية.. ويُفضّل إذا كان هناك تباين بين الأطراف في قبول الحلّ، تقديم أكثر من تصوّر للحلِّ يُرضي الأطراف المتنازعة.

9-             أن يكون الوسطاء ممّن لهم مقبوليّة عند الأطراف المتنازعة، ولا ينظر إليهم نظرة انحياز، أو لا يحظون باحترام البعض.

10-       أن تقبل الأطراف الإلتزام بنتائج الوساطة والتحكيم.

11-       توثيق ما يتوصّل إليه وسطاء الحلّ والتحكيم للحيلولة دون الإدِّعاءات المحتملة ولتثبيت الحقوق وصيانتها.

من ثقافة الدّعاء

 

(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء/ 110).

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ) (النمل/ 62).

الدّعاء: هو طلب الأدنى من الأعلى، ولا يُطلق مصطلح الدّعاء إلّا على طلب المخلوق من الخالق رجاء تحقيق ما يرجوه.. وهو تعبير عن طلب العاجز من القادر، والمحتاج من الغنيّ.. والدّعاء اعتراف بالرّبوبية، وتعبير عن عبودية الخلق للخالق؛ لذا كان من أسمى مظاهر العبادة..

إنّ بارئ الخلق عظيم.. قد أخرج هذا الوجود من العدم، وأفاض عليه كلّ عطاء الخير والرّحمة، فتجلّت فيه آثار الصِّفات والأسماء الحُسنى.. فنحنُ نقرأ في صفحة الوجود.. تجلِّيات القدرة والوحدانية، والعلم والعدل والحكمة، والرّحمة والجود، والبرّ والإحسان والجمال والجلال.. إلخ؛ لذا تتّجه النفوس الوالهة، والقلوب المؤمنة، والعقول المفكِّرة.. تتّجه إلى ربِّها بالطّلب والدّعاء، وبالأمل والرّجاء..

إنّ الدّعاء يستبطن مفاهيم عقيدية ونفسية وتربويّة عظيمة.. فالدّاع يؤمن أنّ لهذا الخلق ربّ يُديره ويُدبِّر شؤونه، ويُصرِّف مقاديره..

الدّاع يشعر أنّه ليس وحيداً في هذا الكون.. تُهدِّده الأخطار، وتنهبه الكوارث والمحن، وتُحيق به الشدائد والآلام.. بل له ربّ رحيم، يسمع دعاءه، ويجيب دعوته..

إنّ الدّاع يطلب من ربِّه الذي أفاض عليه الوجود والنِّعم، وعرّفه بوجوده، ودعاه إلى الطّلب والدّعاء، ووعده بالإجابة..

إنّ الدّاع يطلب تغيير ما به من أذى وضُرّ، وما اقترف من معصية وذنوب، وفقر وفاقة وحاجة، ودفع المكروه والبلايا، وتحقيق ما يجب تحقيقه من خير وعطاء ونِعَم، وهو تعبير عن الشّكر والإعتراف بالفضل والإحسان.. وهو مطمئن للإجابة.. فإن تأخّرت إجابة دعاء المخلصين فلحكمة ومصلحة خفيّة على الإنسان.. وهو العبادة وفيه الثّواب ودرجات القُربة..

وثمّة ملاحظة هامّة نلاحظها عند استقراء آيات الدعاء في القرآن.. نلاحظ أنّ الدّعاء: هو طلب من الرّبّ.. والدّاعي يُخاطب الباري جلّ ثناؤه، بقوله: (ربِّ).. وفي ذلك سرّ لغويّ وموضوعيّ.. فإنّ الرّبَّ هو المُنْعِم والمُربِّي والمُنشِّئ إلى حدِّ التّمام – كما يقول اللّغويّون – لذلك كان الدّعاء توجّه إلى مقام الرّبوبيّة، وليس إلى غيرها من مقام الصِّفات والأسماء.. لأنّه طلب من المُربِّي والمُنشِّئ والمعُطي والمُنعِم.. مثالها:

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 100).

(رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون/ 118).

(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (آل عمران/ 8).

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 250).

(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 286).

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم/ 40).

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

يعرض القرآن نماذج من دعاء الأنبياء والصّالحين.. ليُعرِّف بعقيدتهم الحقّة، وبالقِيَم السّامية، وبسلوكيّتهم الرّائدة.. لتترسّخ تلك القِيَم ثقافةً وسلوكاً ودوافع باطنية نحو التّسامي وعطاء الخير، وليكون الدّعاء عبادة وتربية، وتطهيراً للذّات، وإدامة الإرتباط بين الخالق والمخلوق والشّعور بحاجة الإنسان وفقره وفاقته وعظيم فضله وإحسانه..

ومن هذا الشّعور يتعالى صوت الدّاع بالشّكر والثّناء على الله، فتتجلّى في نفس الدّاع قِيَم التّوحيد، وآثار الوحدانية، وعظمة الخالق، فيكرِّر ما قاله الرسول (ص): "لا أحصي ثناء عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك"[11].

والمسلم الواعي المتأمِّل في نصوص الدّعاء القرآني، يجد في الدعاء ثروة فكرية وعاطفية بنّاءة.. تساهم في بناء الذّات والمجتمع والثّقافة والحضارة..

والقرآن في مضامين دعائه الّتي أوردها في نصوصه، يُثقِّف الإنسان بمفاهيم أخلاقية واجتماعية وإيمانية غزيرة، فهي إن أشرقت في آفاق النّفوس ستملأها بالخير والاستقامة، وبالحبِّ والعفو والرّحمة والسّلام..

إنّ الدّعاء خطاب عقيدي يُعبِّر عن عقيدة الدّاع وفكره وروحانيّته، ومستوى معرفته بالله، لذا فهو مصدر للثّقافة العقيدية، كما هو تعبير عن أشواق النّفس الرّوحية وآمالها الرّبّانية ومواقفها السّلوكية..

فمن الثّقافة السّلوكية في الدّعاء، ما نجدهُ في دعاء النّبيّ يوسف (ع): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف/ 33).

نقرأ الإيحاء بالتّسامي نحو الحقّ والاستقامة، والقبول بالسِّجن وأذى النّفس، وتفضيله على الفساد والانحراف.. فالحياة في السِّجن أحبّ من الحياة في ظلمات المعصية والانحراف والرّذيلة.

وفي دعاء القرآن الّذي يُردِّده المتّقون، نقرأ أسمى معاني الحبّ للزّوجة والأبناء، والعيش معهم في سعادة وهناء.. إنّه يوحي بذلك كلّه؛ ليُثقِّف الإنسان المسلم بهذه الثّقافة الأُسريّة الجميلة..

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران/ 38).

إنّها دعوة ودعاء للعيش الأسريّ السّعيد الّذي تُقَرُّ به العيون، وتَطيبُ به الحياة.

وفي المقطع الآخر من الدّعاء نقرأ: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

وفِّقنا للكمال والتّسامي في الإيمان والعلم والعمل.. وفِّقنا لأن نكون قدوة للمُتّقين، وقادة للمجتمع في طريق الهدى والصّلاح..

وفي ثقافة الدّعاء القرآني نجد تعليم الإنسان صيغة الدّعاء لوالديه.. وفي نصّ الدّعاء تذكير بفضلهما وإحسانهما.

(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 24).

وتركيز لقيمة أخلاقية كُبرى في النّفوس وهي الجزء الأساس من بناء مشاعر الحبّ والعطف والعناية.. هي أخلاقية الوفاء، ومقابلة الإحسان بالإحسان..

إنّ البيت الّذي يُبنى على أساس الحبّ والوفاء للأبوين وللزّوجة والأبناء هو البيت السّعيد..

وتُشرق في أفق الدّعاء القرآني أسمى القِيَم التّربوية والأخلاقية.. منها قِيَم الحبّ والتّواصل العاطفي بين أجيال العقيدة والمبدأ.. والإبتعاد عن الحقد والكراهية..

وفي هذا الأفق نقرأ:

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 10).

(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر/ 47).

تشعّ هذه النّصوص القرآنية بمفاهيم تربوية وأخلاقية رائعة الجمال والإحترام والتّواصل البنّاء بين مفاهيم الحبّ والعطاء في نفس المتوجِّه بالدّعاء والمناجاة.

القرآن يوحي للأجيال القارئة، جيل الإيمان اللاحق والجيل السابق بهذه المفاهيم، ليقرأ تاريخ المخلصين باحترام وتقدير، وتسامح مع ما قد حدث من هفوات تُعرض للإنسان في تجارب الحياة.. وليُذّكر جيل الإيمان اللّاحق سلفه السّابق بالخير والدّعاء له بالعفو والمغفرة.. ويعترف له بالجميل وتأسيس المسار التأريخي على هذا الأساس..

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا).

ونقرأ في هذا النّصّ طلب الدّاع من الله سبحانه أن يوفِّقه لطهارة النّفس وتنقية الضّمير والوجدان من الغلّ.. من الحقد والكراهية، وتحرّك أشواق الذّات من أعماقها نحو علاقة الحبّ وطهارة النّفس.. إنّه شوق حياة السّعداء في عالم الجنان.. فلا غلّ ولا حقد ولا كراهية.. وإن علقَ في النّفوس شيء من أدرانها، فعالم الجنان والنّعيم يأبى الحقد والكراهية..

ويُحدِّثنا القرآن الكريم عن أهمِّية هذه الصِّفة الأخلاقية، وأنّها من صفات أهل الجنّة:

(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الأعراف/ 43).

إنّها حياة الحبّ والأخوّة الّتي تعمر القلوب والنّفوس.. فتجمعها مجالس اللِّقاء، وروح الأُنس والسرور..

تلك إشراقة الدّعاء في النفوس وثقافته البنّاءة في السّلوك.. تجرّد من الأنانية والحقد والكراهية، وشوق إلى الكمال والاستقامة، وحبّ للخير وطلبه من الله سبحانه للجميع.

وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربّ العالمين.

 

 


[1]- الرّاغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن.

[2] - يُراجع ميزان الحكمة، الرّي شهري، ج3، كتاب الدِّين.

[3] - كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، يراجع الرّي شهري، ميزان الحكمة، ج1، ص319.

[4] - مُخْتالاً: مُتكبِّراً.

[5] - لا جَرَمَ: لا محالة.

[6] - السّيوطي، الجامع الصّغير، ج1، رقم الحديث 1485.

[7] - تاريخ اليعقوبي، ج2، ص88-89، دار صادر- بيروت.

[8] - اُمَتِّعكنَّ: المتاع المقصود في هذه الآية هو ما يُعطى للزّوجة من مال أو لباس أو غيره من الأشياء عند طلاقها.

[9] - الصّفح الجميل: العفو الحَسن.

[10] - لا تكثروا من الحلف بالله.. وهي دعوة إلى تجنّب اليمين، وإن كان صادقاً، إلا لضرورة مشروعة، كإثبات الحقّ ودفع الباطل.

[11] - صحيح مسلم، كتاب الصّلاة.

ارسال التعليق

Top