• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مصرع التين

إبتسام إبراهيم

مصرع التين
إلى كونة هناك في درعا التي في الذاكرة.. وضعت سلة التين أرضا، وجلست على حافة الرصيف تمسح حبات العرق التي غسلت جبهتها السمراء الجافة، شعرت أنّ الأرض تميد بها، انتابها عناد طفولي رافضاً الخجل الذي سيطر على مشاعرها، مدت يد خشنة إلى وجهها، تحسست التجاعيد الغائرة، ابتسمت "إيه كانت أيام" رفعت القماش عن سلة التين، نظرت إلى الحبات الناضجة، الحمد لله، تنهدت: مازلن بخير.. ارتفعت الشمس الحادّة في السماء، انحسر الظلّ تدريجياً من الرصيف، أعادت نظراتها إلى سلة التين ترمقها بحب، سيفرح بها، سيضمها إلى قلبه ويشكرها. كانت روحه معلقة بتلك الشجرة، كثيراً ما غفا على أغصانها، رافضاً النزول للغداء. يضحكني شكله وهو متعلق بأغصانها، فأصيح به: -        انزل يا سعدان ألن تذهب معي إلى المرعى؟ يتحايل عليّ: -        معدتي تؤلمني أصرّ على أسناني غضباً: -        من أكل التين.. أحمل عصاي، أهش بها الأغنام، وأندفع نحو الصخور السوداء، أجلس هناك، التربة البنية اللامعة تحت أشعة الشمس تخترق بوهجها عيني، أتنهد (معك حق يا فارس، تجلس في فيء التينة، تحتضنك أغصانها الكثيفة، تغفو في الظل، ماذا ستفعل في هذا القيظ؟ أعود مساءً، أراه غافياً، خذله التعب في ظلها، أوقظه، يقوم متكاسلاً وهو يتمتم بعبارات رفض مبهمة. إيه.. مرّ دهر على ذلك.. التينة العجوز لم تعد تطرح تيناً يا فارس.. هطلت دموع كونة.. الجوّ الحارّ والنسمات الثقيلة جففت الدمع بسرعة، تطلعت إلى قدميها المتورمتين، غاص قلبها بين الضلوع المتعبة. يا إلهي كيف سأعاود السير؟ دخت وأنا أدور في الطرقات، كلما طرقت بابا رماني إلى آخر!! -        إلى متى يا فارس؟ هم قالو لها، إن جميع الأسرى عادوا، قالوا لها، سيأتي فارس قريباً.. مرّت الأيام، وهي تجلس تحت التينة العجوز، ترقب الثمار المتساقطة، الأوراق الشاحبة، الأغصان المحنية مثلها، والدرب الذي سيعود منه! لكنه لم يأت.. الظلُّ يتراجع عن الرصيف، وكونة لاتأبه لحرارة الشمس، صديقتها الوحيدة، التي ترافقها مع غنمها إلى البراري الشاسعة، تقف معها على حدود النهاية المفجعة مع كل غروب، تتعانقان، تودعان بعضهما، وتغوص كل منهما في فراش، تقبّل جبهتها الجافة في الصباح الباكر وتقول: صباح الخير، وطوال سنين مرّت، تمتزجان مع العشب الأخضر في المراعي ربيعاً، وتسحقان مع الأشواك الجافة بين الصخور السوداء صيفاً.. معاً تعودان حين تهجم العتمة على الدرب المقفر، يغتال الغروب آخر أشعة لصديقتها، وتغتالها وحدة مرة ودموع لاتنتهي! ترفع رأسها عن سلة التين، الأقدام تروح وتجيء مسرعة، العيون تنظر إلى الأمام، الأقدام تلهث، عيناها تزوغ، الجوع يقرص معدتها بقسوة، عيناها تدمعان، ترفع القماش عن سلة التين. هل تسكت جوعها بواحدة؟ تغلق فمها بتصميم غريب، لا تعيد القماش إلى مكانه، تغطي حبات التين بحنان، وتتابع ببصرها شمساً تميل، وظلاً احتلَّ الرصيف من جديد.. قالوا لها، جميع الأسماء عندنا يا حاجة، كلهم جاؤوا ليس بينهم واحد بهذا الاسم.. لم تصدق، ستراه، ستمرّ قدماه مسرعتين، سيقف هنا، ستسمره سلة التين في مكانه، ستناديه.. هما يملكان لغة خاصة، فارس كان يحب شجرة التين أكثر مما يحبها هي أمه التي نذرت حياتها له، رغم كثرة الخطاب، عائلات البلد كانت تتبارز للفوز بها، وهي قالت بصلابة: -        لن أتزوج ثانية، عندي فارس برجال البلد جميعاً. لم تكن عواطفها لترضى بأن يمتدّ ظل رجل غريب في أرض الدار فيحتل الفسحة وفيء التينة، ويبعد فارس عنها. عمه قال لها: -        يا زوجة أخي، حرام تتركي الولد دون أب، أنا عمه أربيه، وسأكون له أباً! نظرت إليه بحزن، شفتاها قالتا: -        لا قلبها الخاوي، كان ينتظر دقة أخرى، ينتظر فراشاً دافئاً.. ينتظر أن يصحب الفيء ويترك الغنم والشمس، لكنّ شفتاها قالتا: -        لا، لن يربّي فارس غير أمه. الفراش ابتلّ بالدمع، لكن شفتيها بقيتا مصممتين: لا منذ متى لم تعرف الابتسامة طريقها إلى القلب؟ فكيف بها تتجاوز الشفتين! تتنهد على زمن كان الفرح يسكن فيه تحت جلدها.. ذات مساء، فجّر قنبلته في وجهها: -        أمي سأتطوع في الجيش. بكت بمرارة، احتضن رأسها: -   لا أحب الدراسة يا أمي، أشعر أنّ روحي لغمٌ يكاد ينفجر، فيبعثرني أشلاء، أريد الذهاب.. لم يعد فضاء البلد يتسع لي، روحي تغادرني. حاولت إغراءه بعشقه لتينته، أدار وجهه مخفياً الدمع الساكن تحت الهدب، يعرف أنّ أمه ضربت على أوتار قلبه الضعيفه، فخرج النغم أنيناً، تمتم من خلال غصته: - أنا ذاهب لأحمي وجودها! كونة كانت تدرك أنّ الدراسة لاعلاقة لها بهربه من فضاء بلدته، كانت تعرف أنّ ضربات قلبه هي السبب، قلبه ذاك الذي احترق فجأة بحبّ من طرف واحد، فذوى وذبل وهام في الفلاة في حر آب، نعم اعتصر قلبه بأصابع حديدية.. وتدلت ثمار التين من أغصانها جافة، غاصّة بالتجاعيد! لم تعد تسيل على فمه شهداً كعادتها. .. تنهدت نافثة حسراتها بخاراً حاراً.. آه يا فارس.. الظلّ احتلّ الشارع، رفعت رأسها متعجبة (كأنّه العصر!!!).. سارت بخطا ثابتة، صعدت الحافلة المتجهة إلى درعا.. احتضنت سلة التين وغفت.. أصوات مبهمة أيقظتها، رنين اسمه طرق سمعها، فتحت عينيها، حدّقت حولها، أمامها جلس جنديان من بلدها، لابدّ يعرفان فارس، تطلعت إليهما يتهامسان ويضحكان، وفارس؟ أوشكت أن تصرخ، أين فارس؟ الجنديان يرددان: -        لن يعود، أيعود الأموات يا حاجّة...؟ لا.. لا.. لن تصدق، لن تصدق أنّه فتح صدره للريح، وفرّ إلى فضاء آخر لا تطاله يدها، ولا تراه عيناها، لا.. لا.. سالت دماء التين حمراء قانية.. لوثت جدران السلة، رفعت الغطاء، حدّقت بذهول، خيّم الصمت على السلة، اقتلعتها رهبة الموت من مكانها، هبطت من السيارة، تهالكت ساقاها في الدرب المقفر، رمت السلة، تدحرجت حبات التين القتيلة، امتزجت دماؤها بالتراب البني، دخلت البيت المكتظ بالذكريات، خلعت رداءها، حملت الفأس، وتوجهت إلى الشجرة العجوز.. الشمس غاصت في فراشها، الظلال السوداء عبرت قلبها وعينيها، التينة انحنت تحت ثقل السنين والحزن، نظرت إلى فروعها الكئيبة، إلى أرجوحته المهترئة تعبث بها الريح، إلى أعشاش العصافير الفارغة! هطلت الدموع ساخنة.. وبقوة الحزن والبرد الذي غزا القلب، قوة الألم الذي هز الجسد المتهالك، رفعت كونة الفأس، وهوت به على قلبها.. لم يكن لذاك المساء رعشة، لم يكن له دمعة، بل سال دمه على خد الأفق.. حلو المذاق.. كطعم تينٍ طازج!.   * أديبة وقاصة من سورية

ارسال التعليق

Top