من أهل هذا البيت ومن أئمتهم، الإمام الحادي عشر، الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، الذي عاش مرحلته، ولم يكن قد تجاوز سن الشباب، بكل رساليةٍ وفعالية في التبليغ والتثقيف الإسلامي، فقد روى عنه الكثيرون من علماء الإسلام ما كان (عليه السلام) يزوّدهم به من علوم أهل البيت (عليهم السلام)، الذين يمثلون النبع الصافي الذي تفجّر من النهر الكبير؛ من كتاب الله وسنّة رسوله.
فقد كان الإمام الحسن العسكري عليه السلام صاحب المواقف التي مثّلت أعلى القيم الإسلامية التي فُرِضَت على المجتمع كله، حتى المجتمع المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) من الذين كانوا يلتزمون خلافة بني العباس، فنحن نقرأ في شهادتهم، أن هذا الإمام كان موضع التقدير والاحترام لكل من عرفه، سواء كان في مجتمع الخلافة أو في المجتمع الآخر.
يروي الكليني في الكافي بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: «دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل عليه صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية عندما حُبِس أبو محمد (عليه السلام)، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح ـ مدير السجن ـ: ما أصنع به وقد وكّلت به رجلين شرّ مَن قدرت عليه ـ كانا أكثر الناس شراً وأشقاهم، ولم يكونا يملكان تقوى ولا ورعاً، كل ذلك لكي يضيّقا عليه ـ فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم. ثم أمر بإحضار الموكلَين، فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ ـ ما الذي غيّركما إلى مثل هذا الصلاح؟ ـ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخَلَنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلمّا سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين».
معالجة الانحرافات الفكرية
وكان الإمام العسكري (عليه السلام) يهتمّ بكل ما يحدث في العالم الإسلامي، وقد سمع أن رجلاً من فلاسفة العرب ألّف كتاباً في تناقض القرآن، فقال الإمام (عليه السلام) لأصحابه، ممن كانوا يتردّدون على هذا الفيلسوف ويدرسون عنده: «أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟»، ولكنّ أحد تلاميذه قال: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال (عليه السلام): «أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟»، قال: نعم، فقال (عليه السلام): «... قل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول إنه من الجائز... فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه». فنقلوا له ما قاله الإمام العسكري(عليه السلام)، وفكر الرجل وأجاب بالإيجاب، وعندما سألهم عن مصدر السؤال وأخبروه، قال: لا يلتفت إلى هذا الكلام العلمي الموضوعي إلا من كان من أهل هذا البيت الذين زقّوا العلم زقاً. ومزّق كتابه.
فقد كان الإمام العسكريّ(عليه السلام) كأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، يلاحقون كل الأوضاع الفكرية التي ينحرف فيها البعض في أفكارهم. ومسؤولية علماء الدين في كل مرحلة، أن ينـزلوا إلى الساحة لمواجهة كل القضايا المنحرفة التي تحاول أن تسيء إلى الإسلام في العالم.
الإمام العسكري (عليه السلام) عاش كما عاش آباؤهُ من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في موقع الإمامة من أجل فتح عقول النّاس وقلوبهم على الإسلام الأصيل الذي انطلق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسار فيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، باعتبار أنّهم أمناء الله على الرسالة، ولأنهم خلفاؤه سبحانه في أرضه وحججه على عباده.. وقد تلمذ عليه الكثيرون من الرواة والعلماء، وأثّر في مجتمعه بالرغم من حداثة سنه تأثيراً كبيراً جدّاً، حتى أنَّ أعداءه كانوا يشهدون له بما يشهد له به أولياؤه. وبالرغم من أنَّه كان أصغر الأئمة عمراً، لكنّه استطاع أن يستولي على ثقة المجتمع كلِّه، وكان يُقَدَّم على شيوخ بني هاشم، والمجتمع كلُّه يقدّمه ويثقُ به ويتحرّك باتجاه علمه وإمامته.
وفي سيرته (عليه السلام) أنَّه بلغ عدد الرواة عنه 149 حدّثوا عنه بلا واسطة مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم، ما يدلُّ على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلميّة التي يمثّلها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، لأنَّ الرواة ليسوا مجرّد أشخاص يسألون، بل كانوا يمثّلون أساتذة المجتمع في الثقافة الإسلاميّة، ومواقع المعرفة فيه.
من وصاياه (عليه السلام) لشيعته
ونحن في ذكرى الإمام العسكري (عليه السلام)، نستمع إلى بعض وصاياه التي يقول فيها لشيعته، ونحن من شيعته الذين بلغتهم وصيته: «أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة ـ أمانة المال أو الموقع أو المسؤولية ـ إلى من ائتمنكم، من برّ أو فاجر، وطول السجود ـ لأن السجود يمثل غاية الخضوع لله ـ وحُسن الجوار، فبهذا ـ بهذه الأخلاق ـ جاء محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). صلّوا في عشائرهم ـ مع الناس الآخرين الذين يختلفون معهم في المذهب. وقد أفتينا، كما غيرنا من الفقهاء، بجواز الصلاة في جماعتهم ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم ـ إذا كان لهم حق عليكم، سواء كان حقاً أخلاقياً أو قانونياً ـ فإنّ الرجل منكم إذا وَرِع في دينه، وصَدَق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك... اتقوا الله، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ـ بحيث نتزيّن بكم من خلال أخلاقكم وأمانتكم وحسن جواركم ـ جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنّا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه غيرنا إلا كذّاب. أكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما أوصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام».
هذه وصية الإمام العسكري (عليه السلام) لشيعته. ويروى عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقّع (عليه السلام): «يا أبا يوسف، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى». قال: وسألته: هل رأى رسول الله ربّه؟ فوقّع (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ»، فالله لا يُرى بالبصر، ولكن يُرى بالقلب، {ما كذَّب الفؤاد ما رأى} [النجم:11].
ومن كلامه (عليه السلام) يقول: «خصلتان ليس فوقهما شيء؛ الإيمان بالله، ونفع الأخوان». وكتب إلى الإمام (عليه السلام) بعضُ مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب (عليه السلام) إليه: «ادعُ بهذا الدعاء: يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي بعمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري».
هذا هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وعلينا أن نقتدي به في كل ما أوصى وتحدث به. والسلام عليه يوم وُلد ويوم انتقل إلى رحاب الله ويوم يبعث حياً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق