لا تفتقر العدالة إلى تعريف واحد مقبول فحسب، بل إنّ مصاديقها هي الأُخرى مختلفة. العدالة، على صعيدي السياسة والحقوق، إنّما تعني مساواة الجميع أمام القانون. أمّا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية فالمراد بها التكافؤ في الإمكانات والقدرات المادية بين الأفراد الذين يتمتعون بالحقوق نفسها. ومن البداهة ألاّ يكون المقصود بالعدالة، في التوزيع، تقسيم الإمكانات بصورة متساوية بين الأفراد كافَّة. فالفرض المفروغ منه هو عدم تكافؤ الأفراد وتساويهم في القضايا الإجتماعية والإستعدادات والقابليات. وطالما كان الإستحقاق هو الملاك الأصلي للعدالة، فمن البديهي أن تبرز قضية عدم المساواة والتكافؤ. فالعدالة، في التوزيع، على أساس المبدأ الإقتصادي القائل بمحدودية المصادر والإمكانات، إنّما تدعو لظهور العلاقة الطردية بين إستعداد كل فرد وقابليته، ومدى إستحقاقه أو إستثماره لهذه المصادر والإمكانات. وعليه فإقرار هذا التعريف للعدالة سيستلزم حالة عدم المساواة والتكافؤ التي ستسود المجتمع. وللوقوف على مراد الإمام علي (ع) من العدالة، في شأن القضايا الإجتماعية، نرى من الأفضل التوقُّف عند الجواب الذي أورده (ع) حين سُئل عن العدل والجود، سيّما إذا أخذنا بنظر الإعتبار كونه (ع) مصدر الجود والكرم. فقد سُئل (ع): أيُّهما أفضل العدل أم الجود؟ فقال (ع): "العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما". "إنّما تنتظم شؤون الرعية وتصلح أحوالها بالعدل". أمّا الجود فهو حالة أستثنائية قد تتطلبه بعض الحالات والظروف. ولا يمكن اعتماد الجود والإيثار مبنيين رئيسيين للحياة العامّة، وسن القوانين والمقررات على أساسهما؛ ذلك لأنّ الجود والإيثار إنّما يفقدان مسمياتهما إذا ما خضعا لقوانين ومقررات نافذة المفعول. فالجود والإيثار إنّما يكتسبان صفتهما الواقعية إذا ما كان وراءهما والدافع لهما الكرم والمروءة والعفو والمحبة، بعيداً عن القانون والمقررات، والالتزام بالتطبيق والتنفيذ. وعليه فالعدل أفضل من الجود. القضية المهمّة الأخرى التي ينبغي التعرُّض لها والوقوف عليها، بغية إدراك مفهوم العدالة، هي المفهوم المخالف للعدل، والملموس في الحياة اليومية، ولا نعني به سوى مفهوم "الظلم". فكما أنّ الصحة تعني السلامة من المرض وعدم السقم، فإنّ وجود العدالة في المجتمع إنّما يعني إنعدام الظلم في المجتمع أيضاً. وإنّ الإعتداء على حقوق الآخرين المظلومين وهضم حقوقهم إنّما يمثل أحد المصاديق البارزة لمفهوم الظلم. وهذا ما صرّح به الإمام علي (ع) في إطار قبوله للخلافة؛ إذ قال: "أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقارُّوا على كَظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز". نهج الإمام (ع)، إبَّان خلافته، هو الآخر انطوى على الإصرار والتأكيد على ضرورة إصلاح مفاسد المجتمع، واسترداد كافّة الأموال التي أُخذت ظلماً وعدواناً من بيت المال. إنّه (ع) يعدّ العدالة مدعاة للتنمية وإصلاح جميع شؤون الأُمّة سيّما ضعفائها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق