• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معرفة النفس ومحاسبتها

عمار كاظم

معرفة النفس ومحاسبتها

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معرفة النفس وحسابها: «أكيس الكيِّسين من حاسب نفسه ـ ليعرف كلّ دقائق نفسه وكلّ أفكاره وأعماله وأقواله وعلاقاته؛ هل هي في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، هل هو من الذين أنعم الله عليهم أو هو من المغضوب عليهم ـ وعمل لما بعد الموت ـ أن يعمل للدار الآخرة ـ وأحمق الحمقى من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني»، هذا الذي يتمنّى الجنة ورضى الله من دون عمل أو تحمّل للمسؤولية. وعن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: «حاسبوا أنفسكم بأعمالها ـ نحن عادةً نحاسب غيرنا لأنّنا دائماً ننظر إلى الآخرين ولا ننظر إلى أنفسنا، مع أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن الآخرين، بل هو مسؤول عن نفسه، فعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين ـ وطالبوها بأداء المفروض عليها ـ فقد فرض الله عليك الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان إذا كنت تستطيع ذلك، والحج، وما إلى ذلك من الفرائض التي أوجبها عليك، وعليك أن تطالب نفسك بهذه الفرائض بأن تؤدّيها ولا تفرِّط فيها أو تستهتر بها ـ والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا ـ وخير الزاد التقوى ـ وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا». وأيضاً عن الإمام عليّ (عليه السلام): «ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعةٌ ـ وقت من الأوقات ـ لا يشغله شاغلٌ ـ بحيث لا يلهو عن هذه الساعة بأيِّ شيء ـ يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها، في ليلها ونهارها»، وربح الأعمال أعظم من ربح المال، وخسارة الأعمال أكبر من خسارة المال.

وورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «كان فيما وعظ به لقمان ابنه: اعلم أنّك ستُسأل غداً إذا وقفتَ بين يدي الله عزّوجلّ عن أربع: شبابك فيما أبليته ـ إنّ الله أعطاك الشباب، والشباب يمثل مرحلة العمر الذي يملك فيه الإنسان القوة التي تعينه على أن يقوم بأكثر الأعمال جهداً ـ وعمرك فيما أفنيته ـ هل أفنيته بالصالحات أم بالطالحات، بالخير أم بالشر، بما يرضي الله أم بما يغضبه ـ ومالِك ممّا اكتسبتَه ـ هل أخذت مالك من مصدر حلال أو مصدر حرام، لأنّ البعض يعتبر أن الحلال ما حلّ باليد بأيِّ طريق وصل إلى يده! - وفيما أنفقتَه ـ هل أنفقت مالك في الحلال أو في الحرام ـ فتأهّب لذلك ـ وهذه الأسئلة هي امتحان أمام الله، فكما أنك تهيّئ نفسك للامتحان في الدُّنيا، عليك أن تتهيّأ لهذا الامتحان في الآخرة ـ وأعدّ له جواباً».

ويعلّمنا الإمام عليّ (علیه السلام) عن كيفية محاسبة النفس فيقول: «إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسُ، إنّ هذا يومٌ مضى عليك لا يعود إليك أبداً، واللهُ سائلك عنه فيما أفنيتِه، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن؟ أنفّستِ عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مُخَلَّفيه؟ أكففتِ عن غيبة أخٍ مؤمن بفضل جاهِك؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكر ما كان منه؛ فإن ذكر أنّه جرى منه خيرٌ حمد الله عزّوجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّوجلّ وعزم على ترك معاودته». على الإنسان أن يدقق في أعماله، ليكون كلّ يوم عنده يوم حساب، ليأتي إلى ربه وقد استطاع أن يركِّز عمله في خطِّ رضى الله تعالى. وقد حدّثنا الله عن بعض الناس الذين يقفون يوم القيامة، ويؤتى بكتابهم، فيقولون: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَن نظَر في عيبِ غيره اشتغل عن عيبِ نفسه»، النفس الأمّارة بالسّوء، والتي لم يفكّر أحدنا أن يجلس معها ليسألها عن نقاط ضعفها وقوّتها، وليتساءل معها: كم كذبة كذبت؟ كم غيبة؟ كم ظلماً؟ كم شتيمة؟ لنكن أصدقاء أنفسنا، فصديقك من صدقك لا من صدّقك.. أن ننهى هذه النّفوس عما يضرّها، ونرشدها إلى ما ينفعها: «يا نفسُ، ما نهى الله عنه فهو مما يُفسد حياة الإنسان في دُّنياه وآخرته، وأمّا ما أمرَ الله به، فهو مما يصلح حياة الإنسان في دُّنياه وآخرته».

فلنفكّر بهذه الطريقة، ونحن في ضيافة الله، حتى نخلِص لله في شتّى أمورنا، وحساب النفس ليس أمراً سهلاً، إنّه يتحرّك في عالم الشّهوة والمزاج: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41)، فالإنسان مدعوّ لفهم نفسه وحسابها ومحاكمتها ومجاهدتها، «اجعل نفسك عدوّاً تجاهده، لأنّها أمّارة بالسّوء إلّا ما رحم ربي».

هذا الشهر هو شهرُ المراقبة، أن تراقب نفسك لتفهمها، وشهر المحاسبة، أن تحاسب نفسك في كلِّ عمل، ثم إذا حاسبتها فهناك المحاكمة بأن تحكم لها وعليها، وهناك المجاهدة بأن تجاهد نفسك فتمنعها عن الشرّ وتوجّهها إلى الخير. لذلك علينا أن نخرج من هذا الشهر بعقلٍ جديد ليس فيه إلّا الحق، وقلب جديد ليس فيه إلّا المحبة والخير، وحركة جديدة ليس فيها إلّا ما يرضي الله، ولا شيء إلّا لله تعالى.

ارسال التعليق

Top