• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معنى التفكير.. أنواعه وتطوره

مايكل هاينز/ ترجمة: د. عبدالرحمن الطيب (أخصائي علم النفس)

معنى التفكير.. أنواعه وتطوره

◄أنواع المشكلات والتفكير:

أ) لعلنا نذكر الآن شيئاً عن موضوع الدوافع والتعلم كيف أنّ لكلّ كائن حي دوافع تحثه للقيام بسلوك معين وأنّ هذه الدوافع استغلت بعد ذلك في عملية التعلم فأصبحت هي التي تؤدي بالكائن إلى اكتساب خبرات وعادات جديدة تغير من سلوكه، ولعلنا نذكر أيضاً كيف أنّ الدافع يظل في حالة توتر مستمر إلى أن يتم تحقيقه فعلاً أما إذا كانت هناك عوائق تمنع تحقيقه فإنّنا نحاول أن نسلك في هذه الحالة شتى الطرق الممكنة حتى تحقيق هذا الدافع، وإنّ نفس هذا الوضع قائم بالنسبة لعملية التعلم، ففي تجربة "كهلر" على الشمبانزي نجد هذا الأخير قد واجه مشكلة يريد أن يحلها. فهو أوّلاً جائع ويود الحصول على الموزة المعلقة لكن يوجد مانع يعوقه عن تحقيق رغبته تلك هو أنّ الموزة بعيدة جدّاً عن متناول يديه فكيف إذن يحصل عليها؟ هذا الموقف نطلق عليه اسم (مشكلة) فدافع الجوع لم يتم إشباعه لذلك يضطر الشمبانزي إلى التفكير في طريقة لحل المشكلة.

وتتنوع معاني "المشكلة" وتتعدد ولكنها لن تخرج عن كونها موقف غامض معقد يحول دافع يريد أن يشبعه الإنسان لكن العوائق منعته من ذلك.

وبناءً على هذا يمكننا أن نعرف التفكير بأنّه عبارة عن نشاط عقلي يسعى لحل مشكلة أو ما تفسير موقف غامض فلابدّ أن يوجد أوّلاً هذا الموقف بما يصاحبه علامات الاستفهام المتعددة والذي نحاول أن نبحث له عن حلول بواسطة عمليات التفكير المختلفة وإذا انعدمت علامات الاستفهام تلك وامتنع وجود عائق يحول دون تحقيق دوافع ورغبات الفرد فإنّ المشكلة تنعدم أيضاً وينعدم معها التفكير وتعتبر عملية التفكير من أرقى العمليات النفسية العقلية للكائن الحي حيث يدرك فيها الكائن العلاقات القائمة بين الأشياء كما أدرك شمبانزي كهلر العلاقة القائمة بين العصاتين المجوفتين والموزة المعلقة وكما أدرك الإنسان بعد ذلك العلاقة بين ظاهرة سقوط الأمطار وتكثف بخار الماء في طبقات الجوّ العليا الباردة، إذن تمكن الكائن من حل مشكلاته المختلفة بواسطة إدراك العلاقات المختلفة وبالتالي فإنّ التفكير يكون قاصراً على الإنسان والحيوان الراقي فقط أما دون ذلك فإنّه يعجز عن التفكير بسبب قصور تكوينه اقتصاره على المستوى العصبي التشريحي بما فيه من أفعال منعكسة وسلوك فطري آلي.

ب) لكن هل يعتبر هذا الفكر شيئاً مجرداً معنوياً فقط أم أنّ له مظهراً مادّياً محسوساً؟. لا شكّ أنّ عملية التفكير في أساسها عقلية داخلية لكن لها مظهراً مادّياً خارجياً يتمثل في اللغة والكلام الذي نعبر به عن هذا التفكير؟ وبدون هذه الأداة يفقد التفكير وظيفته الاجتماعية ويجب ملاحظة أنّنا نحن الذين نخلق تلك الأداة أي اللغة فكلّ فكرة معنوية نعطيها رمزاً يشير إليها هي بمفردها فقط فالألم نعبر عنه بكلمات خاصة وكذلك الفرح وغيرها من الحالات الأخرى مثل هزال الجسم والقيء واصفرار الوجه التي نطلق عليها في العربية اصطلاح "المرض" وكذلك يفعل الانجليز في بلادهم ولغتهم وأيضاً الألمان وبقية الأُمم الأخرى كلّ منها يضع لفظة تطلق على هذه الحالة فقط. إذن اللغة رمز يشير إلى معنى ونحن الذين نضع هذا الرمز الذي لابدّ أن يجمع القوم على استخدامه في هذا المعنى بالذات دون غيره وبدون هذا الإجماع وتلك الكلية للغة لا يصبح لها أيّة قيمة أبداً فاللغة هي التي تنظم الفكر وعادة تجمع تلك المصطلحات والرموز في القواميس المختلفة ومعاجم اللغة المتعددة ليوضح أمام كلّ منها المعنى الذي اصطلح القوم واتفقوا على استخدامها فيه.

إذن، هناك تطابق كبير بين الفكر واللغة ولكي يكون تفكيرنا دقيقاً يجب أيضاً أن يكون استخدامنا للغة دقيقاً، لذلك يجب أن نتحاشى أخطاءها قدر الإمكان والعوامل التي تؤدي إليها.

ومن الواجب على الفرد كي لا يقع في الخطأ أن يفهم اللفظة دائماً في ضوء المعنى العام للكلام، فمثلاً قولنا إنّ فلاناً حاز "قصب السبق" في إحدى المباريات فإنّ كلمة "قصب" لا تعني هنا أبداً" قصب السكر" بل إنّ سباق الكلام يجعلها تعني "الصدارة" وكذلك الحال في كثير من الألفاظ المشتركة مثل جواد التي قد تعني الحصان أو الكريمة، وغيرها من الألفاظ ذات المعاني المتعددة التي تحتاج إلى تحديد دقيق أثناء الحديث وينطبق هذا القول أيضاً على الألفاظ المبهمة التي لا يوجد إجماع على معناها.

ج) انتهينا سابقاً من الحديث عن معنى التفكير وأدواته اللغوية مع الأمثلة المتعددة، لكننا نسأل: هل كلّ المشكلات التي يعالجها التفكير في العالم الخارجي واحد؟. بالطبع لا، بل هي متعددة من حيث المضمون وما دامت كذلك فإنّ التفكير القائم عليها لابدّ أن يختلف باختلافها فهناك مشكلات تتصل بالعالم الطبيعي الخارجي المادّي وهذه تحتاج إلى نوع من التفكير العلمي التجريبي وهناك أيضاً مشكلات أخرى تتصل بالعالم الوجداني الداخل للإنسان والتفكير فيها يقتضي استخدام منهجاً تأملياً، أما إذا كانت المشكلة أعلى من مستوى العقل البشري فإنّه حتماً سيعجز عن تفسيرها والتفكير فيها بطريقة سليمة، وإذا فعل ذلك فإنّ تفكيره سيكون خرافياً متناقضاً كما حدث مع الإنسان البدائي الذي فسّر الرعد والبرق بأنّه غضب من الآلهة لأنّ تفكيره قديماً كان أبسط وأقل من أن يفهم السبب الحقيقي لتلك المشكلة.

إذن، يمكننا أن نحدد ثلاثة أنواع أو طرق من التفكير: هي التفكير العلمي التجريبي الذي يقوم على التجربة والتطابق مع الواقع، ثمّ التفكير الفني التأملي ويعتمد على الوجدان الشخصي والشعور الذاتي، وأخيراً التفكير الخرافي المتناقض المتهافت، وإنّ لكلّ منهم منهجه الخاص به وخطواته التي تختلف عن غيرها، فالتفكير العلمي يستخدم أدوات أساسية هي العقل باستدلالاته المختلفة إلى جانب التجربة التي يستمدها من العالم الخارجي، وخطواته هي نفسها خطوات المنهج التجريبي.

1- الشعور بالمشكلة وتحديدها.

2- فرض الفروض المختلفة لتفسيرها.

3- التحقق من صحّة بعض هذه الفروض بالمناقشة أو التجربة.

تعميم الحكم النهائي على كلّ المشكلات المشابهة، مثلاً ظاهرة سرقة الطفل لبعض النقود من المنزل تجعل الوالد يسعى لمعرفة السبب، فيفترض بعض الفروض يفسّر بها تلك الظاهرة مثل افتراض أنّ الطفل يقصد من السرقة إيذاء والده والانتقام منه لأنّه دائماً يضربه، أو أنّ قلة المصروف والحرمان منه تدفع الطفل للسرقة أو غير ذلك من الفروض، تبدأ بعد ذلك مرحلة التجربة التي يتحقق فيها الوالد من صحّة أحد هذه الفروض بواسطة إجراء التجارب المختلفة فيواظب على إعطائه المصروف العادي لكن يمتنع عن ضربه فإذا استمر الطفل في السرقة يضطر الوالد إلى استبعاد هذا الفرض الأوّل. ثم يجرب تجربة أخرى يحرم فيها الطفل من المصروف وفي نفس الوقت يمتنع عن ضربه حينئذ قد يعود الطفل للسرقة فيتأكد لدى الوالد أنّ الفرض الثاني هو الصواب وأنّ حرمان الطفل من المصروف الذي اعتاد الحصول عليه يدفعه للسرقة، ومن ثم يشرع في علاج هذه المشكلة بحكمة وروية.

أما خطوات التفكير التأملي فإنّها تختلف عن تلك كلية وتعتمد أساساً على الوجدان وتبدو تلك الطريقة أكثر وضوحاً لدى الشعراء والأدباء والفنانين لأنّ مشكلاتهم هنا عاطفية وجدانية، فالفرد منهم يفسّر الموقف الغامض كما يتراءى له هو داخل ذاته، فالشاعر يفسّر الليل ليس بأنّ الشمس انتقلت إلى الجزء الآخر من الكرة الأرضية كما يقول العالم، بل يفسّره في شعوره بأنّه ظلمة تجتاح قلب الحياة كلّ يوم كي تبعث فيها الأمل من جديد وتعطيها صحوة الحب والاستمرار وينظر الأديب إلى البركان الثائر وكأنّ الأرض نهمة عطشة تريد أن تطفي ظمأها بأفراد البشر السقاة والرسام يعبر عما يدور في خلجات نفسه مهما كانت مناقضة للواقع لأنّه لا يتقيد بهذا الواقع بل بذاته هو فقط.

وهكذا نجد أنّ التفكير التجريبي يعتمد أساساً على التطابق مع الواقع، عكس التفكير التأملي الوجداني الذي يقوم على أساس التطابق مع الذات المفردة والحقيقة أنّ تفكير الإنسان في حياته اليومية ليس إلّا مزيجاً متكاملاً من الطريقة التأملية والتجريبية، ففي بعض الأحيان يميل إلى الأمل وفي أحين أخرى يعمل على استخدام التفكير العلمي في حل مشكلاتهم الاجتماعية، ومن هنا قيل إنّ الإنسان عالم وفنان في وقت واحد. عالم عندما تواجهه مشكلة جدية مثل رغبته في منع أخاه الصغير أو ابنه من أن يسرق النقود أو يكذب فتراه يفرض عدة فروض يفسّر بها سبب تلك الظاهرة ثم يختبر كلاً منهما ليتأكد من صّحتها، وحينئذ يشرع في علاجها وتحاشيها. ويكون الإنسان أيضاً فناناً عندما يتأمل نفسه ويغوص داخل ذاته ويرتع في أحلامه وتخيلاته المختلفة ويرسم لنفسه المثل العليا التي يسعى لتحقيقها في ضوء رغباته وتمنياته الشخصية.

 

تطوُّر التفكير عند الفرد:

أ) قام علماء النفس بدراسات عديدة لمعرفة نشأة التفكير لدى الطفل ومراحل تطوره، كان في مقدمتهم العالم الإنجليزي (بيرت) والعالمين الفرنسيين (هازلت) و(ديشيه) ثمّ هناك أوّلاً وقبل كلّ شيء بحوث عالم النفس السويسري الأشهر (جان بياجيه) الذي يعتبر حجة في موضوع التفكير لدى الطفل، ولقد انتهى هؤلاء جميعاً إلى النتائج التالية:

يقتضي التفكير وجود عدد كبير من المعاني والصور العقلية تكون بمثابة ذخيرة يستمد منها مقوماته، ويقتضي أيضاً وجود علاقات مختلفة بين هذه المعاني والصور التي تصطبغ أوّلاً بمسحة حسية لدى الطفل، ثمّ تعلو بعد ذلك إلى مرتبة معنوية مجردة يقوم بها العقل بعد أن يتم نضجه ويصبح في الإمكان تعميم الأحكام بواسطة الاستدلال العقلي وتجريد المعاني من مظاهرها الحسية.

فالطفل أوّلاً يكون المعاني عن الأشياء التي يضطر إلى استخامها ومن خلال تكرار الاستخدام يفهم الطفل معنى هذا الشيء فمثلاً تكرار رؤية زجاجة اللبن وتناوله منها باستمرار ثمّ ما يترتب عليه من راحة، يعرف الطفل بمضي الزمن أنّ هذه الزجاجة خصصت لأجل تلك العملية فقط أما قطعة الخشب التي يراها إلى جانبه فإنّها لا يمكنها أن تؤدي الوظيفة السابقة أو هكذا يبدأ الطفل في التمييز بين الأشياء المحيطة به وهي ما تسمى بمرحلة التمييز بعد أن كان أوّلاً يعجز عن القيام بها ويظن أنّ لكلّ الأشياء وظيفة واحدة هي إشباع حاجته للطعام، بمضي الزمن تزداد عملية التمييز والتخصيص ويرتفع المعدل عن مستوى الصورة الحسية إلى مستوى الاستدلال العقلي بواسطة التجريد ثمّ التعميم.

وقد انتهى العلماء إلى أنّ التفكير العقلي والاستدلال المنطقي الناضج لا يكتمل لدى الطفل إلّا فيما بين سن الحادية عشر والثانية عشر، إنّ العقل لم يكن قد تم نضجه تماماً قبل ذلك، بل كانت الحواس والمستوى الجسمي هو الذي يقوم بأغلب عمليات الإدراك والتفسير، فمثلاً يظن الطفل الصغير ذو السنوات الثلاث أو الأربع عند سماعه المذياع أنّ الشخص المتكلِّم يوجد فعلاً داخل الجهاز، أيضاً لا يتمكن هذا الطفل أن يحسب جمعاً أو طرحاً أي عدد من الأرقام إلّا إذا استخدم أصابع يديه. وهكذا في بقية العمليات الأخرى لأنّه لا زال في المستوى الحسي، وطبعاً تتغير كلّ هذه التفسيرات عندما يرقى الفرد إلى المستوى العقلي؟ فالطفل يستخدم الألفاظ أوّلاً دون أن يعرف معانيها كاملة، لكن عندما ينضج عقله يستطيع أن يفهم هذه المعاني بعد أن يجردها من مظاهرها الحسية فتراه في سن السادسة أو السابعة لا يفهم معاني الشفقة أو الحرام والحلال في صورتها الأخلاقية المجردة، بل لابدّ أن يكون في مواقف محسوسة قد يخلط فيها بين الكائن الحي والجماد فيظن أنّ ضرب الأرض التي تسببت في وقوعه يؤلمها كعقاب لها، عكس الحال مع طفل آخر تخطى الثانية عشر بمراحل فإنّه يستطيع فهم هذا كلّه ولا يمكنه أن يخلط أبداً بين هذه الأوضاع لماذا؟ لأنّ عقله وتفكيره قد تكون فعلاً ووصل إلى مستوى راقٍ.

ب) إذن، يمكننا القول بأنّ محوري التفكير الرئيسيين هما أوّلاً: إدراك ذو مستوى حسي خارجي وثانياً عمليات عقلية داخلية، وكما رأينا سابقاً أنّ الإنسان في مرحلة طفولته الأولى يغلب على تفكيره المظهر الحسي ثمّ يأخذ بعد ذلك المظهر العقلي، بل وأنّ تفكير الإنسان العادي في الحياة لابدّ أن يستمد مقوماته ومادّته أوّلاً من العالم الخارجي بواسطة الإدراك ثم يقوم العقل بعد ذلك بعملياته الداخلية المختلفة التي نطلق عليها اسم التفكير، وقد انتهى أغلب علماء النفس حالياً إلى أنّ التفكير يحتاج إلى صور حسية ندركها من الخارج بالحواس المختلفة ولا يمكن أن يقوم التفكير بدونها ومهما كان موضوع التفكير عقلياً مجرداً خالصاً فإنّه لابدّ وأن يستمد بعض مقوماته من العالم الحسي ويمكن ملاحظة أنّه كلما كان التفكير راقياً وصادراً من عقل ناضج فإنّه يعتمد على أقل قدر ممكن من الصور الحسية ويغلب عليه المستوى العقلي المجرد أما إذا كان التفكير بسيطاً ساذجاً وصادراً من شخص غير ناضج تماماً فلابدّ وأن يغلب عليه المستوى الحسي وتفسيراته البسيطة المادّية كالتي نراها لدى الأطفال الصغار.

والواقع أنّ الشخص المتكامل لابدّ وأن يجمع في ثنايا تفكيره بين هذين الشقين الحسي والعقلي لأنّه لا يمكن الاقتصار على واحد منهما أبداً، فكلّ فرد يمتلك مجموعة من الحواس تستقبل المؤثرات الخارجية المتعددة وتنقلها إلى المخ ثمّ يبدأ العقل بعد ذلك في إعطاء المعاني المختلفة لهذه المؤثرات.

وبدون هذين الشقين لا يمكن أن يقوم التفكير حقيقي. وإنّ الاكتفاء بالمرحلة الحسية المستقبلة فقط يحط من قدر الإنسان ويجعله يتساوى مع الحيوان الذي يمتلك أيضاً نفس الحواس المستقبلة لكن يعجز عن أن يسبغ عليها شيئاً من التفكير العقلي الذي تميز به الإنسان دن غيره من بقية الكائنات.►

 

المصدر: كتاب القوى العقلية (الحواس الخمس)

ارسال التعليق

Top