أيها الحجاج الأبرار:
هذا حَرَمُ الله تفتح لكم سماؤه تكريماً لوفودكم، وتتطامن لكم أرضه ترحيباً بقدومكم، وهذه ملائكة الرحمن تستقبلكم وتحييكم وتقود خُطاكم وتهديكم.
أيها الضيف المكرمون: حنان ما أتى بكم اليوم هاهنا.
في هذا القيظ الملتهب هواؤه، المحترقة ورمضاؤه، أعلن حين يتهيب الناس في بيوتهم أن يخرجوا من الكن إلى الضح، وأن يتعرّضوا للفح الريح. في الوقت الذي يخرج فيه القادرون على السفر إلى مرابع الظل الظليل، ومساقط النسيم العليل، في مناطق الشمال، وعلى شواطىء البحار تُقبلون أنتم ضاحين في العراء ضاربين في أحشاء الصحراء، تكابدون عناءَ الحل والترحال، وتخوضون بحاراً من العرق والغبار، في بلد غير ذي زرع ولا قطر. هلا أجلتُم هذه الرحلة القاسية عِدةً أخرى من السنين حتى يدور الزمان دورته، فيجيء موسم الحج في الشتاء أو في الربيع!..
هكذا يُخوف الشيطان أولياءه، ويخذل الضعفاء من أعدائه، وهكذا يفكر أولو النعمة، والمترفون في كل أُمّة.
أما أنتم، فقد سَخِرتُم من كل هذه المعوقات والمُثبطات، إن حرارة الطبيعة قد انحمت وانهزمت أمام حرارة إيمانكم، وإن وُعورة السفر قد ذللتها صلابة عزائمكم. وهكذا يرهنتم على أنّ الإنسان ليس هو هذا الهيكل الحسي الذي تدركه الأبصار، وأن قيادته وتصريف زمامه ليسا كما يزعم الجاهلون بيدِ تلك القوى الطبيعية كلها بدنية كانت أو كونية برهنتم على أن في الإنسان جوهرة أخرى أعظم من أن ينالها الحس: السلطان في الحقيقة سلطانها، والأمر النافذ على الجوارح هو أمرها. تلك هي المضغة التي إذا صَلُحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
لقد شعرتم إذن بنداءِ الواجب، يتردد صداه بين جوانحكم، فلم يسعكم إلا أن أجبتموه سراعاً: لبيك لبيك، لا نعرض محجمين ولا نقعد مُتثالين. وكذلك يفعل أولو الحزمِ والعزم، هم أبداً سباقون إلى الخير، مُسارعون إلى البر، لا يحتمل نداءُ الواجب عندهم تسويفاً ولا تأجيلاً، ولا يبالون في سبيله من يبذلون من جهد وتضحية، ذلك بأنّهم لا يصيبهم فيه ظمأٌ ولا نصب ولا مخمصة، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ووفوا عليه جزاءهم. ألا فليكن في سبيل الله ما كابدتم وتكابدون، وفي صحيفة الحسنات ما بذلتم وتبذلون. وليكن جزاؤكم عند الله موفوراً. وسعيكم لديه مشكوراً.
أيها الضيف المكرمون:
لا تحسبوا حين أدعوكم باسم الضيف المكرمين، أني أعدكم ضيفاً هاهنا هي أحد من البشر. فإنّما أنتم وفد الله وضيف الرحمن. إنّكم هاهنا لستم بدار غربة. ولكنكم في أرضكم ودياركم. لئن كنتم قد فارقتم أوطانكم الخاصة المتفرقة – لقد حللتم هنا في وطنكم المشترك الجامع. هذا هو البلد الحرام الذي جعله الله للناس سواءاً العاكف فيه والباد. فالمسلمون فيه سواسية: المقيمون فيه، والقادمون إليه – لهم جميعاً حقٌّ مشاع في مناسكه ومشاعره، وآثاره ومعالمه، لا ينازع فيه أحد أو تستأثر به أُمّة دون أُمّة.
أيها الحجيجُ البَرَرة:
كم تشاهدون هاهنا من آيات بينات؟ وكم تستعيدون هاهنا من ذكريات محببات إلى القلوب؟. هاهنا هبط الوحي من السماء، هاهنا استوطن الأنبياء، هاهنا بزغ نور الإسلام، هاهنا مشى محمّد (ص) وصحبه، هاهنا انتصر الحق وحزبه، هاهنا طاف الأنبياءُ والصالحون، هناهنا سعوا وهرولوا، هاهنا صعدوا وانحدروا، هاهنا ذبحوا ونحروا، هاهنا دعُوا وابتهلوا، هاهنا تصدقوا وبذلوا، فإنّ كنتم تريدون أن تسجلوا أسماءكم في الكتاب الذهبي أعده الله لهم فسيروا على مواضع أقدامهم، واقتفوا سنتهم وآثارهم، في نصها وروحها ومظهرها ومخبرها.
ثمّ هذه الكعبة التي كنتم تحجون إليها بقلوبكم في الصلوات، وترنون إليها بأبصاركم من وراء الآفاق، كل يوم عشرات المرّات هاهي ذي منكم الآن رأي الأعين، فاغتنموا وتزودوا. إنّها البقعة المطهرة المطهرة: مطهرة؛ أمر الله أن تنزه عن كل رجس، وعن كل إثم. وعن كل ظلم. حتى من الرفث والخصومة والجدال. الصغيرة فيها كبيرة والحيفُ اليسير فيها ظُلمٌ عظيم (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج/ 25).
ومطهرة؛ جعلها الله مغتسلا للذنوب التي ترتكب في كل مكان، وفي كل شأن. إلا ظلم الإنسان للإنسان، فإنّه لا تكفره صلاة، ولا صوم ولا حج، ولا قربان. وإنّما تمحوه رد التبعات إلى أهلها أو استغفاؤهم منها.
أيها الحجاج المبرورون:
لقد حدثتكم الآن عن أهداف هذه الرحلة المقدسة، حديثاً يعرفه كل امرىءٍ منكم في نفسه، وأود أن أحدثكم عنها حديثاً آخر ربّما لا يعرفه منكم إلا القليل: فعامة المؤمنين يفهمون من شعائر الحج أنها مأدُبة روحية أعدها الله لعباده عند أوّل بيت وضعه للناس. ليتزودوا فيها من أنواع القُربات، ويتعرضوا فيها لفيض الرحمات، فكل واحد منهم حين يؤدِّيها إنّما يعنيه شأن نفسه وتزكيتها وشأن واجباته وتأديتُها.
غير أنّ الإسلام أوسع أُفُقاً، وأبعد نظراً من أن تحده هذه الأهداف الفردية الضيقة. وإلا فلماذا لم يترك لنا الخيرة في أن نؤدي هذه الشعائر فُرادى أو مجتمعين في صعيدٍ واحد. في وقت واحد، وفي زي واحد؟. لابدّ أنّ هنالك سراً أو أسراراً يهدف إليها التشريع الإسلامي من وراء هذا التجمع والتكتل. ولست محدثكم عن هذه الأسرار جملة وتفصيلا، ولكني أكتفي بواحد منها.
أتدرون ما الأواصر التي ربط الله بها هذه الأُمّة الإسلامية، لتكون كالجسد الواحد؟ كلنا نعرف منها آصرتين اثنتين: وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، إله واحد، وكتاب واحد، آصرتان عقليتان معنويتان ولكن الله أراد أن يضم إليهما آصرة ثالثة حسية ملموسة، فبعث مناديا في الناس أن يجتمع هاهنا وفود المسلمين من أقطار الأرض كل عام ليعبدوا هذا الإله الواحد، بتلك الشريعة الواحدة، على أرض واحدة، هي أرض الوطن الروحي. وهكذا تجسدت وحدة العقيدة ووحدة الشريعة في وحدة الوطن الأعلى. ذلك ليذكر المسلمون أنّهم – وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألوانهم – تجمعهم جامعة الدين والله والوطن. وأنّه إذا جد الجد وجب أن يُضحي كل فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل هذه المصلحة المشتركة العُليا.
إنّ نظرةً إلى خريطة العالم الإسلامي تُرينا كيف أنّه يمتد في قلب العالم كتلة واحدة متصلة، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وأنّه كلّه يدور على محور واحد، هو مكة المكرمة التي هي قلب الوطن الإسلامي وقُطبَ رُحَاه. إنّ هذا الوضع الجغرافي المتماسك القوي، قد اختص به الإسلام بين سائر الأديان. ومع ذلك فمن أعجب العجب أنّ الذي ينظر إلى الماضي القريب للأُمّة الإسلامية، لا يجدها في المكانة التي يؤهلها لها هذا الموقع الفريد. ذلك أن تفتتها الإقليمي وإنطواء كل شعب منها على نفسه أنساها هذه الرابطة العظمى. ولقد كان المسلمون الأولون لا يعرفون هذه الحواجز الحديدية. فكان التجار والرحالون يتنقلون من قطر إلى قطر وليس بيدهم جواز سفر إلا كلمة الإسلام.
فهل يعود الإخوة المؤمنون إلى هذا التقارب، والترابط، لتعود للوطن الإسلامي مناعته وحصانته، فلا يبقى فيه بعدئذ عَيشٌ لتلك الطفيليات التي تمتص دماءَ أبنائه وتحني أعناقهم؟. وهل يكون لنا من موسم الحج هذه العبرة؟!.
إنها ذكرى، وإنّ الذكرى تنفع المؤمنين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق