• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البراءة من المشركين يوم الحجّ الأكبر

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

البراءة من المشركين يوم الحجّ الأكبر

◄أراد الله لرسوله أن يعلن هذه البراءة بصوت عالٍ في الموسم الأكبر، ليسمعه الناس كلّهم، فيكون حجّةً عليهم، في ما أراد الله دعوتهم إليه، أو ما كلفهم بالقيام به، ليكون ذلك هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين: مرحلة الصراع بين التوحيد والشرك، في حروب مختلفةٍ في نتائجها بين النصر لهذا والهزيمة لذاك، والتكافؤ في بعض الحالات، ومرحلة هيمنة التوحيد على الساحة كلّها، فلا يرتفع إلّا صوته، ولا تتحرّك إلّا مسيرته وسراياه، ولا تحكم الناس إلّا شريعته، ليفهم الجميع أنّ عهداً جديداً قد بدأ، وأنّ النتيجة الحاسمة بانتصار الإسلام قد فرضت نفسها على الجوّ كلّه، وأرسلَ رسول الله (ص) عليّ بن أبي طالب، ليبلّغ عنه هذا النداء، ولأنّ المهمّة تحتاج إلى رجل توحي شخصيته بالحسم والقوّة، ليتناسب ذلك مع طبيعة القضية، وقرأها لهم وأعلن ـ في ما أعلن ـ أنّه لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يدخل الجنّة إلّا مؤمن.

(وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) (التوبة/ 3) جميعاً من المشركين والمسلمين، ليقوم المشركون بتحديد موقفهم النهائي من نداء الله إليهم، وليستعدّ المسلمون لتنفيذ حكم الله (يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ) (التوبة/ 3). وقد اختلف فيه، فقيل إنّه يوم عرفة، وقيل إنّه مجموع أيّام الحجّ، وقيل إنّه اليوم الثاني من أيّام النحر، وقيل إنّه يوم النحر، ولعلّه الأقرب، بلحاظ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (ع) وغيرهم، ولأنّه اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون والمشركون عامّةً بمِنى. وربّما كانت سيرة النبيّ (ص) في إبلاغ الناس وصاياه، في أيّام الحجّ، أن يقوم فيهم خطيباً في هذا اليوم، كما نلاحظ ذلك في خطبته في حجّة الوداع، ما يوحي بأنّه يوم التبليغ الأخير في أيّام الحجّ؛ والله العالم.

(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة/ 3)، فليس لهم عهد عنده، في ما يوصي به رسوله والمسلمون من الوفاء لهم بالعهد، لأنّه لا يريد للشِّرك أن يعيش مع الإيمان على صعيد واحدٍ، بل يريد له أن يزول من حياة الناس، ولذلك كانت هذه البراءة التشريعية تأكيداً للبراءة الحقيقية في مقت الله للشِّرك والمشركين، (وَرَسُولُهُ) (التوبة/ 3) بريءٌ منهم، فقد صبرَ عليهم طويلاً وحاورهم وقاتلهم، وسلك جميع السُّبل التي يمكن أن تردعهم عن ضلالهم وغيّهم، فلم يترك لهم حجّةً لما يعتقدونه من شِركٍ، ولم يدع لهم عذراً في ما يخوضون به من تمرّدٍ وضلال، فزادوا في ضلالهم وطغيانهم، وعملوا على تدبير المكائد للإسلام والمسلمين، بحيث أصبح وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي خطراً على العقيدة، في ما يحاولونه من فتنة المسلمين عن دينهم بالأساليب الملتوية الخادعة، وخطراً على الوجود، في ما كانوا يثيرونه من مشاكل، أو في ما كانوا يتحالفون فيه مع الآخرين من أعداء الإسلام ضدّ الإسلام والمسلمين، ما جعل من التحرّك في اتّجاه تصفية المجتمع على أساس التوحيد، حالةً ضرورية للحفاظ على المستقبل الكبير الذي يستهدف بناء الشخصية الإسلامية في الداخل، وبناء الدولة الإسلامية في الخارج.

(فَإِن تُبْتُمْ) (التوبة/ 3) ودخلتم في ما دخل فيه المسلمون من توحيد الله من خلال الحجّة القاطعة والبيِّنة الواضحة التي قدَّمها لكم الرسول، ورفضتم الشِّرك، الذي لم تعتقدوه على أساس قناعةٍ وجدانية، ولم تمارسوه على أساس حجّةٍ عقليةٍ، بل كانت القضية أنّه عقيدة الآباء وعادات المجتمع، ما يجعل من عملية الضغط على التراجع عنه، قضيةً لا تتصل بالحرّية في العقيدة، بل بمسألة تحرير الإنسان من الخرافة الضاغطة على وجدانه، من خلال الأجواء المنحرفة المحيطة به ممّا لا يرجع إلى وعيٍ للفكرة، أو وضوح في الرؤية، (فَهُوَ خَيْرٌ) (التوبة/ 3)، لأنّه يفتح لكم الآفاق الواسعة التي تنفتحون فيها على وحدانية الله المطلقة التي تشمل كلّ شيء، في ما يقودكم إليه الوجدان الصافي من أنّ كلّ شيء في الوجود مخلوق له، وأنّه ليس هناك أحدٌ أقرب إليه من أحدٍ من ناحيةٍ ذاتيةٍ، فليس هناك إلّا العمل. وإذا كانت هناك من شفاعةٍ، فإنّها لا تنطلق من رغبة الشفيع الخاصّة، بل هي بأمره ورضاه، فلا معنى لأن تتوجّه إلى المخلوق بطلب الشفاعة.

وفي ضوء ذلك، كان التوحيد يمثِّل الصفاء الروحي الذي يعيش معه الإنسان في حركة الإيمان المطلق، بعيداً من كلّ التعقيدات الخانقة التي تجرّ معها المزيد من العادات والتقاليد والأجواء الضاغطة على الفكر والروح والشعور، وبذلك كان خيراً لهم من ناحية السلام الروحي الداخلي، كما هو خيرٌ لهم في الانسجام الفكري العملي، مع المسيرة الإسلامية التي يتحرّك فيها المجتمع المسلم على أساس المسؤولية والمساواة بين أفراده، في ما ينطلقون به من علاقاتٍ، وما يعيشونه من تكافلٍ وتضامنٍ ومشاعر، وهو خيرٌ لهم في الآخرة، لأنّه يمثِّل النجاة من عذاب الله، والحصول على رضاه، لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) (التوبة/ 3)، وأعرضتم عن هذه الدعوة المفتوحة الهادية، وأصررتم على التمرّد، في شعورٍ طاغٍ بالقوّة والاستعلاء، بأنّكم قادرون على المواجهة، وسائرون إلى النصر، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) (التوبة/ 3) الذي لا يفوته أحد من خلقه، مهما حاول الفرار، في الدُّنيا والآخرة، لأنّه لا يفرّ من مكان إلى مكان آخر إلّا وجد الله عنده في ذلك المكان، لأنّه مالك السموات والأرض، فماذا يملكون من قوّةٍ ليواجهوا الله بها، وهو خالق القوّة، وهو المالك لكلّ ما يملكونه؟! وعليكم أن تدركوا هذه الحقيقة بوعيٍ، لئلّا يخدعكم الخادعون المضلِّلون عن أنفُسكم، وعن حركة الواقع في حياتكم. أمّا إذا كنتم تعتبرون إمهال الله لكم دليل عجز، فاعلموا أنّ الله يمهل عباده، ليقيم عليهم الحجّة، وليفسح لهم المجال للتراجع، حتى إذا قامت عليهم الحجّة، ولم يتراجعوا ـ من خلالها ـ عمّا يخوضون فيه من ضلال، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.►

 

المصدر:  كتاب تفسير من وحي القرآن/ ج11

ارسال التعليق

Top