• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نداء التقوى في خط المحاسبة والعمل

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

نداء التقوى في خط المحاسبة والعمل

◄(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 18-20).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) إنّه النداء الذي يضع الإيمان عنواناً لهم من أجل أن يستثير ما تختزنه نفوسهم من الانفتاح على الله في حضوره الدائم في الكون، بحيث يتمثله المؤمن في كلّ مفردات الوجود، فيتحسس جوانب عظمته في خلقه، ويستشعر عمق المسؤولية التي تثير مشاعر الخوف من الله في نفسه، فيحسب حسابه في ما يقوم به من عمل، أو يتخذه من مواقف، ويتذكره في كلّ حالاته، في نظرته إلى حاضر المسؤولية ومستقبل الجزاء.

ومن خلال ذلك تتحرك الدعوة إلى التقوى المستمدّة من الوعي الروحي لمقام الله في وجود الإنسان وفي دوره العملي في الحياة، كفكرٍ وشعورٍ وحركةٍ، في العمق الداخلي في الإحساس، وفي الامتداد العملي في الحياة. فإنّ التقوى تبدأ لدى الإنسان كحالةٍ في الضمير الذي يطلّ على المسؤولية من خلال المعرفة بالله والإيمان به والتعظيم لمقامه، ثمّ تتحول إلى حالة في العمل، لينضبط في موارده ومصادره، في رقابةٍ دائمةٍ تحيط بالواقع كله. وإذا عاش الإنسان حسّ التقوى في حركة المسؤولية أمام الله، فإنّه يبقى متطلعاً إلى حجم النتائج العملية في حساب المستقبل الذي يقف فيه الإنسان بين يدي الله، فهو في قلقٍ دائمٍ من حيث طبيعة أعماله التي تقربه إلى الله، لأنّ المسألة لديه أنّ الحياة فرصةٌ للعمل، وساحةٌ للوصول إلى الله، والقرب إليه، مما يجعل للساعات معنى تتيح له فعل الخيرات، لتكون الحياة دائماً حساباً يستزيد الأرقام في رصيد العمل الصالح، مما يجعل الإنسان ينتظر التقدم المتنامي على طريق ما يطمح إليه من غايات.. وهذا ما أرادت الآية أن تؤكده في الفقرة التالية، كحركةٍ داخليةٍ فكريةٍ في آفاق التقوى.

 

وجوب محاسبة الإنسان لنفسه يومياً:

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي الآخرة التي ينتظرها وهي تحتاج إلى الزاد وهو التقوى، الذي تختلف النتائج فيه تبعاً لاختلاف حجم مراتبه. وهذا ما يفرض على الإنسان الدخول في عملية حسابٍ يوميّ للحسنات والسيئات، انطلاقاً من الخوف من الله والرغبة في الحصول على ثوابه والتخلص من عقابه. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نفهم هذه الدعوة إلى التحديق بما قدمه الإنسان لغده، كجزءٍ من حركة التقوى الروحية التي يدفعها شعورها بالمسؤولية أمام الله إلى رصد كل حسابات المستقبل الأخروي عنده، من خلال دراسة الماضي والحاضر في ساحة العمل، ليتخفف الإنسان من سيئاته إذا رأى حجمها كبيراً، بالتوبة، وليستزيد من حسناته إذا رأى عددها قليلاً.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بعد تصفية الحساب، سواء كان إيجابياً في نتائجه أو سلبياً، لتنفتحوا على الأعمال المنفتحة على الحقّ، والمتحركة في مواقع الخير، والسائرة على خط الاستقامة والعدل، مما يفرض على الإنسان أن يؤكد معنى التقوى في أعماله المستقبلية، فلا يقع في الأخطاء التي وقع فيها سابقاً، ولا يضيّع الفرص التي ضيّعها مما كان يستطيع معها أن يحصل على خير الدنيا والآخرة من أقرب طريق، (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تلتقون بها في آفاق الحقيقة الإلهية في إحاطة الله المطلقة بالكون كلّه، وبالإنسان كلّه في سره وعلانيته، وهي التي تعمق معنى التقوى في عقولكم وقلوبكم ومشاعركم وأعمالكم.

وعلى ضوء ما ذكرناه، يتبين أنّ المراد من التقوى في الفقرة الأولى، التقوى في مسؤولية الاستعداد لغد الآخرة من خلال وعي المرحلة التي وصل إليها الإنسان في رحلته إلى الله، حتى تكون استثارة التقوى في الوعي مقدمةً للاستقامة على الخط، في ما قطعه الإنسان من مراحل، ليستقبل المراحل الأخرى بروحٍ جديدةٍ، أما التقوى في الفقرة الثانية، فالمراد بها التقوى في العمل في خط الامتداد المستقبلي، وهناك أقوال أخرى منها: أنّ الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب، والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل. ومنها: أنّ الأولى في أداء الواجبات، والثانية في ترك المحرمات: ومنها: أنّ الأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، والثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها وإخلاصها. ومنها: أنّ الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأوّل فحسب.

 

ولا تكونوا كالذين نسوا الله:

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) فلم يذكروه على مستوى مضمون العقيدة والروح لتتحرك كلّ المفاهيم في هذا الاتجاه، ولم يستشعروه بإحساس العاطفة لتتحرك كلّ نبضاتها في هذا العمق، ولم يعيشوا حضوره الوجداني في حياتهم لتنطلق الطاعة في هذا الخط، بل كانوا في غفلةٍ مطبقةٍ عن ذكره، سواء كان الذكر باللسان أو بالقلب أو بالحركة، وبذلك استسلموا للأجواء الذاتية واستغرقوا في أنانياتهم، وأقاموا العلاقات الطارئة اللاهية العابثة استجابةً لحركة شهواتهم المنحرفة، بعيداً عن خط الاستقامة في حياتهم، فكانت نتيجة ذلك كله تتمثل في الإخلاد إلى الأرض، لا سيما بعد أن ابتعدوا عن وعي الحقيقة الروحية المنفتحة على المسؤولية في ذواتهم، ونسوا الله (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) لا من موقع الإرادة المباشرة في ذلك، بل من موقع القوانين الإلهية الكامنة في طبيعة الواقع الإنساني، فإنّ الإنسان إذا نسي ربه، فإنّه يبتعد ذلك عن القاعدة الثابتة التي يعرف فيها موقعه في الكون، ودوره في حركته، من جهة ما يصلحه، أو ما يفسده، مما يجعله يتحسّس الواقع من خلال لأشياء الطارئة عليه من خارج ذاته، أو من خلال الغرائز المثيرة التي تشغله عن مصيره، وبذلك ينسى نفسه من حيث هي جزءٌ من الحركة الكونية المسؤولة، فيتخبط في متاهات الأهواء والشهوات، وفي ضباب الأوهام والخيالات، على أساس أنّ الحقيقة الإلهية في حضورها في الوجدان، هي التي تعطي الحقيقة الإنسانية حضورها في حركة الحياة، بسبب طبيعة الترابط بين ذكر الله وبين الانضباط في خط سلامة المصير.

(أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) بما يمثله الفسق من تجاوز الحدود المفروضة من الله ومن انحرافٍ عن الخط المستقيم، ومن خروجٍ عن طاعة الله.

وإذا كانت مسألة الجنة والنار هي مسألة القرب من الله بالاستقامة على خط الطاعة، والابتعاد عن خط المعصية، فإنّ من الطبيعي أن يكون الغافلون عن ذكره الذين يتحركون في خط الشهوات هم أصحاب النار، لأنهم يبتعدون عن الله بقدر غفلتهم عنه، كما أنّ من الطبيعي أن يكون الذاكرون لله بقلوبهم وألسنتهم ومواقع عملهم وسلامة مواقفهم هم أصحاب الجنة، لأنّهم يقتربون من الله، بقدر انفتاحهم عليه، وخوفهم من مقامه، ووعيهم لمسؤوليتهم أمامه.

وإذا كانت المسألة بهذا الحجم وبهذا المستوى، فإنّ من المفروض للباحثين عن قضية المصير في مستقبل الآخرة، أن يحسنوا عملية الاختيار في العمل والمواقف، ليحسنوا عملية الاختيار في الغاية والمصير، وهذا ما توحي به هذه الآية الكريمة: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) فهم ليسوا سواءً في البداية وليسوا سواءً في النهاية، فهناك الاستقامة أو الانحراف، وهناك الطهارة أو القذارة، وهناك الرسالة أو الهوى، وهناك العذاب أو الثواب. (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) برضوان الله ورحمته ونعيمه، وأصحاب النار هم الخاسرون، من خلال غضب الله وعقابه، فلابدّ للإنسان من أن يختار، وليس هناك إلا خيار واحد لمن يعرف كيف يواجه المسألة بمسؤوليةٍ ووعيٍ وإيمان، ليحصل على الفوز الكبير في رحاب الله.►

 

المصدر: كتاب تفسير من وحي القرآن

ارسال التعليق

Top