• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل ودوره في تحديد الأهداف الخيّرة

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

العقل ودوره في تحديد الأهداف الخيّرة

◄قيمة العقل تكمن في أنّه يعطي الإنسانَ الفكرَ الأفضل، ويوجّهه نحو الطريق والغايات الأحسن، ولهذا، فإنّ الله سبحانه يخاطب عقلنا ويريد له أن يفتح كُلَّ آفاقه على الموازنة بين موقعين، موقع الدنيا وموقع الآخرة، ليقارن بين العطائين أيَّهما أبقى وأنفع وأكثر خيراً... وللعقل دوره الكبير في هذا المجال.

والناس تميّز عادةً بين العاقل والجاهل، فتترك رأى الجاهل، وتعود إلى العاقل باعتبار أنّ العقل الذي يملكه يُعطي الرأي الأصوب الذي يُنقذ من الهلاك، ويجنّب المتاعب ويدفع إلى المواقع الطيّبة. ومن هنا، طلب الله من الإنسان أن يحكِّم ويستحضر عقله دائماً حتى لا يستسلم لشهواته وغرائزه ونداءات حِسِّه التي ترميه في التهلكة وهو لا يعلم. فقال سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص/ 60)، يخاطب الله تعالى عباده، أن ادرسوا كُلَّ ما عندكم في الدنيا، مما تأكلون وتشربون وتلبسون وتسكنون وتتزيّنون به، ادرسوه، هل يحمل عنصر الخلود والقوّة الحقيقية أم لا؟ وهنا يخاطب العاقلُ نفسه: تأكل، تستلذّ بالأكل، يتفاعل الأكل مع جسمك ويغذيه، ثمّ يتحوّل ذلك إلى فضلات تذهب خارج الجسم، تلبس، تظهر بشكلٍ جيِّد، ثمّ يبلى المظهر، تلتذُّ بأعلى الشهوات التي تهزُّ جسدَك، ثمّ يذهب إحساسك بالشهوة، لأنّ قيمتها لحظة، تزيِّنُ وجهك وشعرك وتعطِّر نفسَك، يأتي الغبار، يتصبّبُ العرق، ثمّ لا يبقى عليك شيءٌ من الزينة، تسكن بيتاً تفني عمرَك أحياناً في بنائه، ثمّ بعد ذلك تذهب إلى القبر.

ينبغي للإنسان أمام كُلِّ هذا أن يقوم بجردة حساب، حسابات دقيقة، وبالعقل البارد، من دون أيّة انفعالات، فيدرس بدقّة علاقته بالأشياء، فيما يبنيه من علاقات، وفيما يأكله ويشربه ويسكنه ويشتهيه ويمارسه، ويفكّر باللّذات الفانية وليقارن بينها وبين اللّات الباقية، بين اللّذة العميقة والسطحيّة، بين اللّذة التي تملك حجماً معيناً وبين التي لا يُحيط بها عقل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة/ 17).

لذلك تنطلق الآية السابقة لتحثَّ الناس على أن يحضّروا عقولهم، ليعيشوا المقارنة بين ما يبقى وبين ما يفنى، حتى لا يسقطوا أمام غرائزهم وحواسهم، لأنّ الحواس تأخذهم وتشغلهم باللّذات عن الحقائق (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من كُلِّ ما أُوتِيتموه من رزق وخيرات ومساكن وما شاكل ذلك (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) المَتَاعُ هو الشيء الذي نحتاجه فترة من الزمن، ثمّ نستغني عنه باستغنائنا عن حاجته، كما يستغنى المسافر عن متاعه الذي يحتاجه في الطريق عندما يصل إلى مقصده، وهكذا فمتاع الدنيا طريق (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) خيرٌ، لأنّ لذّة الآخرة أعمق من لذّة الدنيا وأخْلد (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حكّموا عقولكم في ذلك.. ويُتْرَك للإنسان أن يجيب عن هذا السؤال بعمله لا بكلامه.

 

تمييز الطيِّب من غيره:

ثمّ يعطينا القرآن الكريم صورة ثانية للتفاضل والمقارنة، فيقول سبحانه: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (القصص/ 61)، أُدرسوا الفرق بين النموذجين من الناس، نموذج الذي عمل صالحاً فوعدَه الله رضوانَه وجنَّتَه، فوصل إلى يوم القيامة (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (الأنبياء/ 103)، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصّلت/ 31-32)، فأعطاهم الله الوعد ووفى لهم بوعدهم.. ونموذج الذي لم يكن له من الدنيا إلّا شهوات الدنيا (كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ليس له من الدنيا إلّا ما حصل عليه من مالٍ ولذّات، ولم ينتهز الفرصةَ في الدنيا ليعمل صالحاً ولينالَ جزاءَه وثوابَه من خلال عمله (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) يقف يوم القيامة (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24)، ويُسْأل عن كُلِّ أعماله، وإذ ليس بيده شيءٌ.

يطرح القرآن الكريم هذا الاستفهام الإنكاري لندخل في عملية مقارنة وتفاضل بين النموذجين، ويتساءل من دون حاجة لمعرفة جوابنا، كيف تقدِّمون متاع الحياة وزينتها، عمّا عند الله؟ كيف يمكن أن تفضّلوا الإنسان الذي أعطاه الله متاعَ الحياة الدنيا ولم يدّخر شيئاً لآخرته، وبين الذي خاف الله فاتّقاه وعمل صالحاً، فوعده الله وعداً حسناً في الآخرة.. فالله تعالى يُنكر علينا أن نساوي بين هذا وذاك، وأمثلة هذا الاستفهام الإنكاري كثيرةٌ في القرآن، منها (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم/ 35-36)، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ) (السجدة/ 18)، فالله تعالى لا يستفهم ليعرف الحقيقة، فالله عالمٌ بكلِّ شيء، ولكنّه سبحانه يُطلق الاستفهام في مقام الإنكار.

 

تنوّع الشركاء:

ونأتي إلى مَن يتركون الله ويلجأون إلى غيره، هؤلاء الذين وُضعوا في منصب الشركاء لله تعالى. ومسألة الشركاء قديمة قِدَم التاريخ، ففي الماضي صنعوا إلهةً من أحجار وخشب، ورضخوا لآلهة تمثّل ما هو موجودٌ في الظواهر الكونية والطبيعيّة فكانوا يعبدون مثلاً إلهَ النور وإله الجمال وإله الظلمة والنور وما إلى هناك، كما في أساطير الأوّلين من اليونان والإغريق وغيرهم، وعندما جاء الأنبياء برسالات الله ليِسقطوا كلَّ هذه الآلهة ويوجِّهوا الناس لعبادة الله تعالى، استنكروا وقالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص/ 5)، وما زالت مسألة الشركاء لله قائمة حتى اليوم وهي متنوعة، فمن الناس مَن يتخذ لنفسه رمزاً يطيعه من دون الله، فينتمي إلى حزب كافر بعقيدته ونهجه وخطِّه، وينكر رسالة الأنبياء واليوم الآخر، ويعتبر أنّ ذلك من الخرافات، وأنّ محمّداً (ص) مجرّد مصلح.. وهذه الطاعة للحزب تدفعه لأن يلتزم بأوامر المشرفين على هذا الحزب، ولا ينطلق من أوامر الله ونواهيه، وهؤلاء ينطلقون من أهوائهم، فيطيعهم في ذلك، ويصبح الحزب هنا شريكاً لله، لأنّ الله يقول له، افعل، والحزب يقول، لا تفعل، الحزب يقول اقتل، والله تعالى يقول، لا تقتل، وإذا ما سُئِلَ فيجيب بأنّه مجبرٌ على الالتزام بأوامر الحزب، لأنّ له الوقاية عليه. والله سبحانه يقول: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) (الكهف/ 44)، هو تعالى وليُّ الكون كلِّه، وقد ميّز بين الناس (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة/ 257)، فإذا كان الطاغوت وليّاً لهذا الإنسان فهو مُلْحَقٌ بالكافرين (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء/ 140)، ومن الناس أيضاً مَن يتخذ عشيرتَه شريكاً لله، فتقاليد العشيرة تفرض عليه أن يلتزم بما تأمره، وبما يراه الآباءُ والأجداد (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170)، وينطلق من القاعدة السيئة (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22)، ويُقِرُّ بأنّ الشريعة تأمر بأمرٍ ما، ولكنّ العشيرة تخالف ذلك، فهو ينفِّذ أمرَ العشيرة، ولكن عندما يأمر الله ويترك أمره ليرضخ لقرار العشيرة، فقد جعل العشيرة شريكاً لله تعالى. والبعض قد تكون زوجته شريكاً لله، أو يكون زوجها شريكاً لله، فالله يأمرها بالحجاب وزوجها يرفض ذلك، فتطيع زوجها، والله ينهاه عن فعلٍ ما، وزوجته تأمره بمخالفته، فيطيع زوجته، هنا يصبح الزوج والزوجة شريكين لله. ولا تعني الشراكة في كُلِّ ذلك الدخولَ مع الله في عمليات مالية أو تجارية، بل تعني أن نطيعَ الله ونطيع غيرَه في الوقت عينه.

وهكذا نجد بعض الناس يرتبط بالزعامات الإقطاعية والاجتماعية وينفّذ تعليماتها وأوامرها على خلاف ما أمر الله، فيتجسّس ويقتل ويوالي ويعادي حسب ما يحبون ويشتهون، فهو بذلك يجعلهم شركاء لله تعالى.

 

عندما يتنكرون لبعضهم:

وتنتهي الحياة ونُقدم جميعاً على الله، ويُنادى علينا (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 6)، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الإنفطار/ 19)، (وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) (طه/ 108)، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) (طه/ 111)، ويُنادى على كُلِّ هؤلاء الذي اتخذوا لله شركاء في الحياة الدنيا (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (القصص/ 62)، أين هؤلاء الذين كنتم تعبدونهم من دوني وتطيعونهم وتخضعون لهم (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) (القصص/ 63)، جاء زعماء الأحزاب والعشائر، جاء الأزواج والزوجات، كلُّهم اجتمعوا، بماذا أجابوا (رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص/ 63)، نحن لا نتحمّل المسؤولية، لم نقل أن يتخذونا شركاء لك، ولم نعتبر أنفسنا آلهة يعبدوننا من دونك. وطريقتهم في الجواب كطريقة الشيطان (إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر/ 16)، صار الشيطان "تقيّاً". فإذا سرتَ خلف الشيطان، فإنّه يوم الحساب يعلن بأنّه يخاف اللهَ، وأنت لا تخافه، معنى ذلك أنّك شيطان أكبر من الشيطان.

ويقف الجميع أذلّاء (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) نادوهم ليخلّصوكم ويساعدوكم (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) (القصص/ 64)، ووجهاً لوجه أمام العذاب ينطلق التمنّي، لو أنّهم اهتدوا منذ البداية من خلال عقلهم ووعيهم (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص/ 65)، أرسلتُ لكم الرُّسل ومعهم التعليمات الموجّهة من قِبَلي إليكم، فماذا أجبتموهم؟ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) (القصص/ 66)، نسوا كُلَّ شيء ولا يسأل بعضهم بعضاً شيئاً.. وليست المسألة في أن يتذكروا أو لا يتذكروا، المسألة في النتائج (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (القصص/ 67)، وكم هي القضية صعبة، تاب وآمن وعمل صالحاً وفيها (عسى) يعني قد يكون من الناجين المفلحين ولكن هذا ليس تقريراً نهائياً، لأنّ للعمل حساباته، وللإيمان حساباته، وللتوبة حساباتها فهو يعمل صالحاً، ولكن قد يكون مغشوشاً، وقد يتوب، ولكن قد تكون توبة غير نصوح، قد يؤمن، ولكن قد يمتزج هذا الإيمان بالشرك، لذلك، على الإنسان أن يبقى خائفاً على مصيره (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون/ 60)، لأنّ المؤمن لا يعرف نتائج عمله، صحيحٌ أنّه يصلي ويصوم ويحجّ، ولكن لا يدري حقيقة المصير (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (القصص/ 68)، هو سبحانه يفعل ما يريد، لذا، فعلى العبد أن يفهم موقعه من ربّه، لأنّه تعالى يملك الأمرَ كلّه، والإنسان لا يملك شيئاً إلّا ما ملَّكه الله إيّاه، فهو يخلق ما يشاء ويختار، وليس للإنسان اختيار أمر نفسه وحياته فيما قضاه له وقدّره عليه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36)، ليس له اختيار عمله أمام الله، أو أن يكون حرّاً أمامه، هو حرٌّ أمام الناس، أمّا أمام الله فهو عبدٌ، ما عليه إلّا أن يطيع (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص/ 68)، عَظُم الله في كُلِّ مواقع عظمته، وتعالى عن كُلِّ ما ينسبه إليه عباده من الشركاء، لأنّه أسمى وأعلى من كُلِّ شيء (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) (القصص/ 69)، السِرُّ والعلن عند سواء، أما السرُّ والعلانية ففي علاقات الناس مع بعضهم ولكن عند الله لا يختلف السرُّ والعلانية، بل هما يتساويان في علمه (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه/ 7)، فالله سبحانه يلاحق طريقة تفكير الإنسان، ويرصد مشاعره وأحاسيسه الخفيّة، فهو مكشوف له تعالى، وصحيحٌ أنّه يستر عليه في الدنيا، ولكن في يوم القيامة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق/ 9)، تُمزَّق السرائر وتنكشف.

 

مالك الحقيقة وحده:

(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) (القصص/70)، هو الحقيقة المطلقة التي تفرض نفسها على العقل والقلب والإحساس والكون كلِّه، والكون كلُّه ناطقٌ بوجود الله تعالى، كما يقول أمير المؤمنين (ع): "ما رأيتُ شيئاً إلّا ورأيْتُ اللهَ قبله وبعده". لا نستطيع أن نتصوّر شيئاً دون أن نتصوّر الله معه (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ) لأنّه هو الذي أعطى كلَّ شيءٍ ما يُحْمَدُ به، فصفات الحمد له، وكلُّ حمدٍ مستمدّ من حمده (وَلَهُ الْحُكْمُ) لأنّ الذي يملك الأمر كلّه، يملك الحُكم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص/70)، وتُحاسَبُون على كُلِّ أعمالكم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).

ويريد الله منّا أن نفكّر بطريقة واعية، فها أنتم في الليل مثلاً، فالليل مهما امتدّ فإنّ الصباح سيُشرق ولكن ما رأيكم لو أنّ الله سبحانه لم يرد للشمس أن تطلع على الوجود، ويجعل الليل عليكم أبدياً، فلتجتمع كُلُّ قوى الدنيا ولتقرر غير ذلك، فإنّها لا تستطيع أن تغيّر من أمر الله شيئاً (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (القصص/ 71)، وهنا يطرح القرآن القضية ليحذّر الناس الذين يستغرقون بعظمة الأشخاص فيعصون الله ويطيعونهم، يتمرّدون عليه سبحانه ويخضعون لهم، فلو أنّ الله أراد أن يجعل الليل مظلماً دائماً مستمراً، فهل يستطيع هؤلاء الذين رضختم لهم أن يُعيدوا لكم الضياء؟ ويعكس المسألة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص/ 72)، عندما ننظر في الكون ندرك أنّ الله نظّمه بطريقة لا يستطيع البشر منذ خلقهم وإلى أن يرثَ الأرضَ ومَن عليها أن يغيِّروا ذرّة واحدة في نظام الكون، لأنّه مركّز على أساس قدرته سبحانه، وكلّ ما فعله البشر في الكون أنّهم اكتشفوا أسرار خَلْقِ الله فيه، واهتدوا إلى القوانين التي خلقها، وليس بمقدورهم أن يغيّروا أو يبدّلوا أيَّ قانون من القوانين، وعلى هذا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ترتاحون وتتخفّفون من أثقال النهار (أفَلا تُبْصِرُون) ألا ترون حركة الليل والنهار؟ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص/ 73)، وهذا التقسيم لليوم جعله متناسباً مع طبيعة حياتكم، ولولاه لما استمرّت بكم الحياة، لذلك عندما يأتيكم الليل والنهار، فكِّروا بسرِّ علاقتكم بهما في امتداد حياتكم، لتعيشوا الشكرَ العملي لله بطاعتكم له وسيركم على نهجه.

ويبقى المتمردون في دائرة الملاحقة (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (القصص/ 74)، استدعوا كُلَّ مَن جعلتم منهم آلهة (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) أتينا بالشهود الذين يشهدون على الأُمّة ويتولّون قيادتها (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (القصص/ 75)، لقد أنكرتم وجود الله والتوحيد، وكذّبتم رسلَه وقلتم عن كُلِّ ذلك (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) (الأنفال/ 31)، وها أنتم تقفون أمام الحقيقة، فما دليلكم على ما كنتم فيه؟ أقيموا الدليل، هل تمردتم من خلال قناعات ترتكز على دليل وبرهان، أم من خلال أهوائكم وشهواتكم؟ هذه هي الحقيقة أمامكم وما كان عندكم أباطيل.

وهكذا، لابدّ لنا أن نعيش الحقيقة، والله تعالى هو الحقيقة (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص/ 70).►

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top