• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نفحات ليلة القدر

عمار كاظم

نفحات ليلة القدر

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر). ليلة القدر ليلة العظمة والشرف، من قولنا لفلان عند فلان قدر أي منزلة عظيمة. وتنزل الملائكة أي تتنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها الله لقبول تجليها. سلام أي أمن من كلّ أذى وشر. مطلع الفجر وقت طلوعه.

فقد أشار القرآن الكريم في ثلاثة مواضع إلى نزول القرآن، والقرآن يفسر بعضه بعضاً. في هذه السورة التي بين أيدينا يقول سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). في سورة الدخان يقول سبحانه: (حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 1-4). وفي سورة البقرة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185).

يبيّن الله سبحانه في الآية الأولى انّه أنزل شيئاً مهماً في ليلة القدر، والآية الثانية تبيّن انّه نزل هذا الشيء المهم في ليلة مباركة. وآية البقرة هي الآية الوحيدة التي ترشد إلى أنّ نزول القرآن كان في شهر رمضان. فلابدّ انّ نزول القرآن كان في شهر رمضان. وتبيّن لنا الروايات الشريفة عن أهل البيت انّ زمان نزول القرآن كان في إحدى ليالي شهر رمضان، روي عن الإمام الصادق (ع): "انّها الليلة الحادية والعشرون، أو الثالثة والعشرون". وعندما يطلب السائل من الإمام التحديد في ليلة واحدة يقول له: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب". وهي الليلة التي يفتح الله فيها أبواب الدعاء للمنيبين، ويقدر فيها كلّ أمر حكيم. ويتضح لنا من هذه الآية ومن غيرها من الآيات انّ للقرآن نزولاً دفعياً، ونزولاً تدريجياً خلال 23 سنة.

فالنزول الدفعي هو: نزول القرآن بأجمعه على قلب رسول الله، أو إلى البيت المعمور، وهو بيت في السموات بمحاذاة الكعبة، وهو محل عبادة الملائكة، ويحج إليه سبعون ألف ملك كلّ يوم، ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة: أو نزوله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا حسب اختلاف الأقوال.

أمّا النزول التدريجي: وهو ما تم خلال 23 سنة بحسب الحوادث والظروف والمتطلبات. إنّ الآيات المباركة قد عبرت عن نزول القرآن مرّة بالانزال، ومرّة بالتنزيل أو النزول، والذي يُفهم من معاني اللغة العربية انّ التنزيل يستعمل في الموارد التي ينزل فيها الشيئ تدريجياً ومتفرقاً، أما الإنزال فله معنى واسع يشمل النزول التدريجي والنزول الدفعي.

لكن كيف نزل القرآن جملة واحدة على الرسول (ص)؟ هل على الهيئة التي بأيدينا بسوره وآياته، وهذا يتعارض مع بعض الأحداث التي حصلت، والرسول لم يجب عنها إلّا بعد أن نزلت الآيات التي تحل المشكلة، أو تجيب على السائل، مثلما حدث في سورة المجادلة في قصة المرأة التي جاءت تشتكي من زوجها، فلم يجبها رسول الله عن سؤالها إلا بعد أن نزلت الآيات من سورة المجادلة: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة/ 1)، وغيرها من الآيات؟ أم انّ مفاهيم القرآن قد نزلت بصورة مختصرة جامعة، كمن يأتي ببضاعة ويعلم مجملاً محتواها ولكنه لا يعرف تفاصيل ما في هذه البضاعة؟ والرأي الأخير هو الذي يمكن قبوله. أما فضل هذه الليلة: فهو يقول أوّلاً مستفهماً عن فضلها، أي لم تبلغوا غاية فضلها، ومنتهى علو قدرها.

إنّها ليلة خير من ألف شهر، لأنّها ليلة يسطع فيها نور الهدى، وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل الخير الكثير، ويكون فيها وضع الحجر الأساس لهذا الدين الذي هو آخر الأديان، والصالح في كلّ زمان ومكان. وأي ليلة هي أعظم من ليلة يبتدئ فيها نزول القرآن، وتشرق فيها شموس المعرفة الإلهية على قلب رسول السماء وخاتم الأنبياء، فوجب على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيداً لهم وولادة جديدة لتصرفاتهم في حياتهم. تنزل الملائكة والروح تنزل فعل مضارع يدل على الاستمرار، والأصل تنزل مما يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصة بزمن النبيّ الأكرم (ص) وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كّل عام باستمرار، والروح هو جبرائيل الأمين، وقيل إنّه الوحي، وذلك لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى/ 52)، وفي رواية عن الإمام الصادق قال: "الروح أعظم من الملائكة، أليس الله سبحانه يقول تنزل الملائكة والروح؟).

من كلّ أمر أي لكلّ تقدير وتعيين للمصائر، ولكلّ خير وبركة، فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة هو تقدير المصائر. سلامٌ هي حتّى مطلَعِ الفَجْر: انّها ليلة أمن وسلام وبركة إلى حين طلوع فجرها، فهي ليلة الخير والبركة والقرب من الله سبحانه، والعبادة فيها تعدل ألف شهر. وكلمة سلام توحي إلينا بالكثير من الرحمة المهداة إلينا من ربّ العالمين، فتحية العباد يوم يلقون ربّهم سلام، وتحية أهل الجنة سلام، وتحية الملائكة على أهل الجنّة سلام، وقول الملائكة لإبراهيم حين جاؤه بالبشرى سلام.

إنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الاهتمام بهذه الليلة، وطلبها بحرص، تماماً كما أخفى الله رضاه في كثير من الطاعات، كي يتوجه النّاس إلى كلّ الطاعات، وأخفى غضبه بين المعاصي كي يتجنب العباد المعاصي كلّها، وأخفى أحباءه بين النّاس حتى يُحترم كلّ النّاس، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتُقرأ كلّ الأدعية، وأخفى وقت الموت كي يكون الناس على أهبة الاستعداد له.

ارسال التعليق

Top