- الإنسان ليس مجموع نثرياته:
ولعله من المناسب الإشارة في البداية إلى ما شاب بعض التصورات "العلمية" التي شاعت من أخطاء وأخطار.. في بعض الحالات شَرَح المنطق التفصيصي الإنسان (بين عوامل المجالات: مادية، وثقافية، ونفسية، ومظهرية، وبدنية، و...)، ووصّف ما استطاع أن يصنفه من عوامل جزئية، ثمّ جمع النثريات التي وصفها، وعامل الإنسان على أنّه حاصلها، ذلك رغم أنّ الإنسان أكبر بكثير من مجموع أجزائه، حتى لو تيسرت معرفة كل هذه الأجزاء. فليس معنى معرفتنا مثلا أن جسد أحد الكائنات الحية يحتوي على عشرين كيلوجراماً من المياه، وخمسة كيلوجرامات كربون، ونصف كيلوجرام حديد، و... ليس معنى معرفتنا هذه التفاصيل أن تجميعها يوصلنا إلى الكائن المعني، لأن هناك شيئاً معجزاً آخر سيظل غائباً عن عجينتنا، مهما سلم تكوينها. وإذا كان ذلك يسري حتى على الجماد – خصائص عناصرها – فما بالنا بالكيان الحي الأرقى النابض بفتافيت الحس والعواطف والانفعالات والإرادة؟! كما أنّ المنطق التصنيفي الجامد يمكن أن يتجاهل أنّ الإنسان الطبيعي يعيش على مدار الساعة الواحدة – على مدار العمر – عدة شخوص دون أن يكون بالضرورة ممثلا أو بهلوانا.. فالأُم حين تستيقظ في الصباح لتساعد أطفالها في الذهاب إلى المدرسة تمارس دور الوالد المسؤول، لكنها قد تتحول ما إن تودعهم، وخلال لحظات، إلى "طفل معتمد" يتكئ على كتف الزوج العطوف، وما هي إلا دقائق بعد ذلك حتى تشد رحالها، لتتعامل معاملة الند، مع غيرها من اليافعين، خلال رحلة العمل، والأُم في ذلك كله امرأة طبيعية جدّاً، وعاقلة جدّاً، وعلى سجيتها جدّاً من دون تعالم، لأن مرشدها فيما تفعله خلاصة علمية موثوقة قطرتها الخبرة الإنسانية الثرية الرحبة المديدة. والمبالغة في التشريح والتجزيء والتصنيف ووضع الحواجز التي تصنع اللاتوافق، ربما أنستنا أن حلول المشكلات ربما كمنت في مجرد أن يفهم المرء أنّه لا مانع أن يكون الرجل أبا لزوجته في لحظة، وطفلا لها في أخرى وشريكا على قدم المساواة في ثالثة.. وأن يفهم ضرورة مجاهدة النفس، بعيداً عن الرومانسية، في ممارسة ذلك كله. - بعيداً عن الاستبداد: لقد تسلحت الدراسات بمستحدثات مختلفة مثل الاعتماد على ملاحظة الزيجات الناجحة (بدلاً من الزيجات الغارقة في المشاكل)، لأن خبرات الناجحين هي حقيقة ما نحتاج إليه في علاج مشاكل الأسرة، ومثل الإمكانات الحديثة التي أتاحها التصوير بالفيديو وبالتالي إمكان استعادة الانفعالات المختلفة في المواقف المختلفة ودراستها على نحو أوفى. بالذات حين يتم تسجيلها مع مجموعة من القياسات الفسيولوجية (الكهربية العصبية، وإفراز العرق، و..)، ومع وجود أبجديات أو شفرات لقراءة انفعالات الوجه، مما يسهل في النهاية دراسة الاستجابات الانفعالية والتدفق الانفعالي في هذا الموقف أو ذاك. وقد أكّدت هذه الدراسات أنّه لم يعد هناك مجال لأن يمارس الرجل دور "سي السيد" في المنزل. رغم أن كل الزوجات تقريباً مستعدات للخضوع أو قبول نفوذ أزواجهنّ، إذا عدل الرجل من توجه سي السيد إياه، وقد يكون ما هو مطلوب يسيراً كأن يلتفت عن مشاهدة مباراة كرة القدم حين تكون زوجه راغبة في الحديث معه، فهي تود أن تحس بأن زوجها يفكر بصيغة "نحن نريد ونحن نرى" لا بصيغة "أنا أريد وأرى و...". ومن بين الاكتشافات غير المتوقعة أنّ الغضب ليس أكثر العواطف تدميراً في العلاقة الزوجية، فالزوجان السعيدان والتعيسان يتشاحنان، لكن الانتقاد الدائم، والتحقير، واستخدام الحيل الدفاعية، والخطابة الكثيرة على حساب الفعل الحقيقي، هي أكثر أعداء الحياة الزوجية. وقد ظهر أن أفضل طريقة لتجنب الآثار المدمرة لما سبق هي أن يعي الزواج أحلام زوجته ومخاوفها. وكل الأسر السعيدة يتميز الزوج فيها بفهم عميق لنفسية زوجته بما يمكن من انسياب التصرفات والمشاعر دون حدوث اختناقات عاطفية معوقة. وتشكل الصداقة بين الزوجين أهم عوامل الرضاء الزوجي، إذا نحينا العلاقة الجنسية جانباً – رغم أهميتها البالغة – لأنها خارج نطاق هذه العجالة. كما تأكد أنّ الأزواج السعداء يتحلون، في نزاعاتهم، بمحاولات متجددة لرأب الصدع، والابتعاد عن السلبية التي يمكن أن تقود لإفلات الأمر من أيديهم، وأنّ الدعابة كثيراً ما تساعد في إنجاح محاولاتهم، وأن بمقدورهم التعامل مع النزاعات المتجددة والدائمة – التي تهدد باختناق العلاقة – بطريقة تفرق بين الخلافات الأساسية والثانوية.. فعلى سبيل المثال، تشكو الزوجة من الجرائد والأوراق والكتب المبعثرة التي تشوه منظر البيت، والزوج يعجز عن تلبية متطلباتها في هذا الصدد. وبدلاً من تأزيز الموقف يقرران مع الزمن أنّ المشكلة تنتمي إلى مجال التباينات الثانوية، التي تتطلب التحلي بالمرونة في التعامل معها، لأنّها أصغر من أن تكون سبباً يعكر صفو ما بينهما، ولأنّ هذا الموقف يقوي من زواجهما. ولا بأس هنا من مجموعة من النصائح التي – أكدت الخبرات – يمكن أن تجنب الزواج العثرات وتساهم في نجاحه: - ضرورة النظرة الناضجة إلى الزوج – بعيداً عن الصور المثالية التي نحلم بها – على أنّه شخصية واقعية لها مزاياها وعيوبها، وعند تعذر تغيير هذه العيوب يمكن التعايش معها وقبولها كجزء من مقومات الشريك الذي ارتضيناه ككل متكامل. وليس هناك ما هو أخطر على الحياة النفسية للمتزوجين من العيش في عالم سحري من التهاويل البراقة والأحلام الخادعة، بل وخداع الذات، حتى بصورة لاشعورية، فيما يخص طبيعة الزوج والحياة الزوجية بوجه عام، والخلط بينها وبين "المغامرة الغرامية"، لأن ذلك يصعب من عملية التكيف مع الحقيقة وقد يجعلها متعذرة. - يجب اتباع استراتيجية الإشادة بنصف الكوب المليء دوما. فكل علاقة في الحياة يكون فيها ما هو إيجابي (نصف الكوب المليء) وما هو سلبي أو ما تفتقده العلاقة (نصف الكوب الفارغ) والتركيز على ما هو إيجابي يدعم العلاقة ويزيد من إيجابيتها، حتى بمجرد الحركة بالقصور الذاتي. أو الشكوى المستمرة والنعيب حول ما ينقص العلاقة فإنّه يوقع بها أوخم الأضرار. - يجب فهم ما في العلاقة من ضرورات تكيف وضرورات صراع والعمل دوما على تغليب ضرورات التكيف باتجاه المقبول من سلوك الشريك، وطبعاً فإنّ الأسرة الذكية هي التي تسعى لا إلى اللقاء في نقطة وسط أو في منتصف الطريق كما هو شائع، بل إلى التكيف باتجاه السلوك الصحيح – بصرف الظر عمن يبدو كاسباً أو خاسراً من طرفيها، ومن الضروري فعل ذلك برغبة حقيقية في التعاون المتبادل والتفاهم المشترك لصالح كيان الأسرة. - والأفضل أن يبدأ الزوجان الجيِّدان حياتهما على أنهما عالمان مختلفان تماماً يسعيان إلى الوفاق، بدلاً من أن يبدآ على أنهما ينتميان إلى عالم واحد متوافق تماماً، يعرف كل منهما كل شيء على الآخر. لأنّ البداية الأولى تجعلهما أقرب نفسياً إلى التصور الصحيح، وبالتالي إلى النهوض بأعبائه. - ليس هناك ما هو أفعل من اللباقة واختيار الكلمة المناسبة في الوقت المناسب في تحقيق السعادة الزوجية، إنّها السحر الذي يمكّن من الوصول إلى أعماق الشريك في كل لحظة، لأنها تضمن للزوجين الصفاء والسكينة وراحة البال. - الغياب القصير أو ما يمكن أن نطلق عليه "الإجازات الأسرية" مما يقوي الرابطة الزوجية، لأنّه يبعد التوتر والاحتكاك الدائم، ويبرز مزايا العيش المشترك التي تعود الطرفان تناسيها عند وجودهما معاً، كما يخفف من حدة الملل، ويجد الشوق والحب بين الطرفين، ولكل ذلك تأثير في تحجيم أوجه التباين أو عدم التوافق الثانوية. - الحذر من النقد اللاذع المتواصل، والتحقير، واستخدام الحيل الدفاعية، والخطابة الكثيرة على حساب الفعل الحقيقي. تبقى إشارة إلى ضرورة وجود المؤسسات التي تقدم العون والنصيحة للراغبين في حل مشاكلهم الأسرية. وهي ليست مؤسسات علاجية بالضرورة، لأن كل ما سبق ينتمي إلى مجال حل مشاكل التواصل الاعتيادية، وإن فضلت بعض المجتمعات إطلاق مسميات علاجية عليها: "علاج تقبل الآخر"، "علاج تعديل السلوك"، "العلاج الزوجي"، ...، جريا وراء أغراض تجارية. غير أنّ المؤسسات العلاجية حقاً يجب أن تبقى كملاذ أخير للحالات التي يصل التوافق فيها إلى حدود الاستعصاء. *كاتب علمي من مصر المصدر: مجلة العربي/ العدد 550مقالات ذات صلة
ارسال التعليق