• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وبالشكر تدوم النعم

وبالشكر تدوم النعم
◄الحمد لله المستحق الحمد والشكر والصّلاة والسّلام على حامل لواء الحمد وصحبه الحامدين الشاكرين.

وبعد أيّها الأخ الكريم، فإنّ النعم لا تدوم على أصحابها إلا إذا أدوا حقها من الشكر والطاعة، وحافظوا عليها من الإسراف والمعصية، كما يقرر ذاك ربّ العالمين بقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم/ 7)، هذه الآية هي إعلام صريح بأنّ النعم تزداد بالشكر وتنقص بالكفران، وانّ من سُنن الله عزّ وجلّ أن يبتلي عباده بالخير والشر ليمتحنهم هل يشكرون في السراء وهل يصبرون على الضراء، فيقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35)، غير أنّ المؤمن المحتسب يثاب في كلا الحالين، كما يخبرنا بذاك الصادق الصدوق فيقول: "عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمْرَه كلُه له خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صَبَر فكان خيراً له"، وبما أنّ الأيام دول يداولها الله بين الناس يختبر بها شكرهم وصبرهم وإيمانهم كما في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 2-3).

أخي الكريم، إنّ الله عزّ وجلّ جعل زينة الحياة الدنيا امتحاناً لعباده فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7)، فالعاقل مَن يحسن استغلال هذه النِعَم في طاعة مولاه ليفوز برضاه في الدنيا والآخرة، والأحمق الجاهل العاجز هو مَن يسيء استعمالها فيقع في سخطه وعقوبته في الدنيا قبل الآخرة، إذ إنّ من أكفر الكفران أن يضع العبد نعم مولاه في معصيته ويستعملها في التعدّي على حدوده، كما انّ مِن أنكر نكران الجميل أن يسيء المرء لمن أحسن إليه، والله سبحانه وتعالى يحسن إلينا صباح مساء في الصحة والعافية، في المال والبنين، في الرزق والأمن، فكم يحسن إلينا ويسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، غير انّ أكثرنا وللأسف لا يراها ولا يحس بها فلا يشكرها إلا لماماً، كما قال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (غافر/ 61)، فكم يكون جميلاً لو نكون من هذا القليل فإنّ الكرام دائماً قليل.

ولقد قص الله علينا قصة قوم سبأ الذين امتحنهم الله بالخيرات الوفيرة في ذلك البلد الطيب هواؤه، المعتدل مناخه، الخصيب تربته، فكان منظره الجميل يسرّ الناظرين، وهواؤه العليل يشفي السقيم، وبساتينه المثمرة تشبع الآكلين، لقد كانوا في نعيم مقيم لكنهم بطروا معيشتهم، وركنوا إلى الترف والدّعة، فلم يؤدّوا شكر النعمة لخالقهم بل نسوه فنسيهم وأغفلهم عن ترميم سدّهم المنيع، فكأن أن انفجر في ليلة ليلاء، فقد فاضت هذه الملايين من الأمتار المكعبة من المياه تجرف أمامها كلّ أخضر ويابس، وتقتلع كلّ نبات وبنيان، وتغرق كلّ إنسان وحيوان، حتى أصبحت البلاد بين عشية وضحاها قاعاً صفصفاً، كأن لم تكن بالأمس وكأن لم يغنوا فيها. ولم يكفهم أنهم كفروا النعمة بل تعدّوا ذلك إلى الترفّع على النّاس ومحاولة احتكار الخيرات من دونهم فقال الله فيهم: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ/ 18-19).

أخي المسلم، إنّ أعظم نعمة أنعمها الله على النّاس هي الأمن والكفاف وقد امتنّ الله على قريش بهاتين النعمتين فقال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4)، إذ بدون هذين الركنين لا طعم للحياة، فماذا تفيد القناطير المقنطرة إذا أنعدم الأمن؟ وماذا يفيد الأمن إذا انعدم الكفاف؟ وللحصول على هذين الصّنْويْن، لابدّ من شكر الله عزّ وجلّ وعبادته والابتعاد عن معصيته، والرأفة بعباده.

عافانا الله وإيّاكم من زوال نعمه، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وجنّبنا البَغْي والطغيان في الأرض، وختم لنا بما ختم لأحبابه وأوليائه.►

ارسال التعليق

Top