لما كان الدعاء عنوان تعلق بالمضارع، ورغبة محمومة في الرحيل، وفي إحداث تحول إيجابي في الواقع المعيش الذاتي والموضوعي، ولما كان (مع الحلم تبدأ المسؤولية) على حد تعبير الشاعر الإيرلندي (ويليام بترييتس) فإنّ الدعاء قرين الآمال العريضة، وهو ما يورث صاحبه روح بذل واجتهاد ويمكنه من قدرات إبداعية.
ويمكن الاستشهاد لذلك بهذا الموقف الافتراضي الذي طرح على طلبة جامعيين: ماذا أنت فاعل بعد أن كانت نتيجتك الدرجة (D) فيما كان هدفك هو الحصول على الدرجة (B)؟
لقد كان الأمل هو العامل المحدد للاختلاف بين الطلاب، فالطلبة المتمتعون بدرجة عالية من الأمل يكون رد فعل هذه النتيجة عندهم بذل جهد أكبر، والتفكير في مجموعة من المحاولات لرفع درجاتهم النهائية، أما الطلبة المتمتعون بقدر متوسط من الأمل فنجدهم يفكرون في وسائل عدة يمكن أن ترفع درجاتهم، لكن تصميمهم على تحقيق ذلك أقل بكثير من المجموعة الأولى، ومن الطبيعي أن يستسلم الطلبة المفتقرون إلى الأمل أو الممتلكون لقدر ضعف منه، وتضعف معنوياتهم.
ولقد أكّدت الدراسة الميدانية صحة هذا الأمر، إذ وجد العالم السيكولوجي بجامعة (كانساس) عند مقارنته للنتائج الأكاديمية للطلبة الجدد من ذوي الآمال العريضة والمنخفضة أيضاً، أنّ الأمل كان أفضل مؤشر على درجاتهم في الفصل الدراسي الأوّل أكثر من درجات اختبار الكفاءة (SAT)[1].
وهكذا يتبين لنا أنّ الدعاء ينعكس إيجاباً على نفسية المؤمن وأدائه في الوقت نفسه، وإذا لم يحدث شيء من ذلك كان نقضاً لطبيعة الدعاء، وتنكراً لحقيقته، ونفياً لقابليته للاستجابة والتحقق، كما يشير لذلك الحديث النبوي الذي رواه البخاري والذي ذكر فيه الرجل أشعث أغبر، يطيل السفر، ويرفع يده إلى السماء: "يا رب... يا رب" معلقاً على ذلك بقول الرسول (ص) "فأنى يستجاب له، ومطعمه من الحرام، وملبسه من الحرام...؟" إذ تناقضت الممارسة مع طبيعة الدعاء.
الأمل مرّة أخرى:
يعرف الأمل بكونه ثقة الشخص في كونه قادراً على جعل الأوضاع تتطوَّر إيجابياً بهذا القدر، أو ذاك بصرف النظر عن الكيفية التي سوف يعتمدها لتحقيق ذلك[2].
فهو يكشف عن الخصائص التالية:
- الأولى: أنّ الشخص غير راض عن واقعه المعيش.
- الثانية: أنّه غير مستسلم له، ولا هو مسلم بحتميته.
- الثالثة: أنّه يحلم بواقع أفضل منه ولا يكف عن التطلع إلى بلوغه.
- الرابعة: أنّه يعتبر نفسه مسؤولاً عن انبثاق فجر المرحلة القادمة المرجو بلوغها.
- الخامسة: أنّه لا يقلل من شأن نفسه ومن قدرته على تحقيق ذلك وكأنه يأخذ بقول الرسول (ص): "لا يحقرنَّ أحدكم نفسه"[3].
- السادسة: أنّه لا يقصّر في بذل قصارى الجهد للتقدّم على درب الكدح، غير مقلل من قدر أيّ جهد وأيّ مكسب يحققه آخذاً بالنصح النبوي: "ولا تحقرنَّ من المعروف شيئاً"[4].
وهذه كلّها معاني متضمنة في الدعاء كما تطرحه النصوص الإسلامية، فهو إيقاظ للحلم الكبير، تبدأ معه المسؤولية منذ انبثاقه، وتعديل للحياة على إيقاعه، ولذلك وجدنا الرسول (ص) ينكر على من يدعو الله شيئاً؛ لا يوحد إرادته مع إرادة الله شكلاً ومضموناً فقال (ص): "أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون/ 51)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة/ 172)، ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمدّ يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب له"[5].
وهكذا يجمع الدعاء بين التفاؤل إيماناً بالله وتصديقاً لوعده، ووعياً بحقيقة واقع الشخص المعيش ومختلف (سيناريوهات) تطور أوضاعه من جهة، والأمل من جهة أخرى بما هو تحمل للمسؤوليات، وانحياز للغد الأفضل وللفعل الناجز والمتواصل، وتقدير لكلِّ المنجزات والمكاسب بما فيها الفعل والمبادرة والخروج من السلبية، والقطع مع الاستقالة، والتسوّل البائس على قارعة التاريخ، إيقاناً بـ(أنّ كلَّ عمل مثمر شرطه الجهد وإن أضنى، والصبر وإن أمل والمثابرة وإن جلّت، وطيّ المراحل وإن طالت)[6].
ولذلك وجدنا الرسول (ص) يعتبر أنّ استعجال النتائج محبط للعزائم، وقاتل للأمل، وموقع في التشاؤم، وقاطع لحبل التواصل بين الإنسان والله، وبين الإنسان والمستقبل الأفضل، وفي ذلك يقول (ص) "ما يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل" قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوت، قد دعوت، فلما لا يستجيب له، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء".
وتبقى كلّ خطوة واعدة بالتي تليها، ومشيرة إلى أنّ النقص في الأشياء؛ هو الرجاء فيما سيأتي وفي صيانة الحياة وتطورها.
إرادة قوة:
إنّ من شأن تكرار الدعاء أن يعمق وعي الذات بما تؤمن به من قيم ومهام، وما تتطلع إليه من آفاق وإنجازات من جهة، وأن يحفز الهمة على الفعل، ويولد العزم على إبداء الصالح من الأعمال من جهة أخرى، وإذا ما استعرنا مقولة إرادة القوة من (نيتشه) فسيكون الدعاء مؤشراً على قيمة القوة لدى الشخص، وعلى إرادة امتلاكها، إذ يرفع الدعاء هذه الإرادة جاعلاً منها علامةً بارزة في الوعي، لا تنفك عن البحث عن سبل التحقق في الواقع التاريخي[7].
الدعاء باعتباره وعياً بالمستقبل وتدرباً عقلياً عليه:
إنّ الدعاء يمزج بين مقاربتين اثنتين؛ فهو من جهة أولى، يركز على طرح الأهداف الكبرى التي يروم المرء بلوغها، كما أنّه لا يغفل من جهة ثانية عن الدخول في التفاصيل والجزئيات المكونة لمجمل أهدافه على كلِّ الآماد القريبة والمتوسطة وبعيدة المدى، ولذلك وجدنا الرسول (ص) يحض على أن لا يستنكف الإنسان عن أن يسأل ربه أبسط معروف، وعلينا أن نعيد للذهن أنّ الدعاء هو التزام من الذات بالجد في تحصيل الشروط الموضوعية؛ المساعدة على بلوغ أهدافها، بالقدر نفسه الذي هو رجاء في العون الإلهي لتحقيق ذلك، وهذا يعني أنّه بالإمكان أن ننظر إلى الدعاء باعتباره نوعاً من التدريب العقلي على المسار الذي على الشخص سلوكه خطوة بخطوة، مفضياً به إلى غاياته ونيل مراده الأوفى، مما من شأنه أن يرفع من أداء الشخص وفاعليته ومهاراته.
ولقد أثبتت اختبارات علمية لأسلوب التدريب العقلي على الرياضيين نجاح هذا الأسلوب[8]، إذ طلب من الرياضيين بعد فترة من الاسترخاء العضلي، أن يستحضر كلّ واحد منهم في ذهنه صوراً حية مفصلة عن الحركات الصحيحة التي عليه القيام بها (الرميات الحرة في كرة السلة مثلاً) ثمّ المرور بعد ذلك للتنفيذ، ولقد أثبت القياس للمهارات بعد ذلك، عن تحسن فعلي (يعزي إلى التطور العقلي وحده، دون الممارسة البدنية العقلية لهذه المهارات، إنّ مثل هذا الأسلوب أكثر كفاءة في حالة المهارات التي تشمل على مكون عقلي مهم وعلى سلاسل طويلة مركبة من الحركات)[9].
وليس الدعاء بمكتف بالتفكير المجرد، إذ هو يقحمنا في الزمن من خلال الآمال والأحلام التي نتحرك صوب تحقيقها، وكما يقول (غاستون باشلار) فإنّه: (حتى ندرك جيداً الزمن المنفتح أمامنا، يلزمنا أن نعيش وعود المستقبل بالفكر، ولابدّ من إحلال إقرار مخطط الحياة محل الشعور الغامض جداراً بما هو معاش، فالمرء يشعر بالوقت بقدر عدد المشاريع)[10].
تحيين الأحلام (actualization de rêves):
(إنّ الأمل الذي ينقل الذات في المستقبل باسم التفاؤل والهروب من مواجهة الحقيقة؛ هو عنوان الثقة الكاذبة في الغد لدى من خنقهم الزمن، وتبطنوا بضعف المشاعر، وعجزوا عن أن يختطوا لأنفسهم حيزاً يحوي وجودهم ويكفيهم شر الضيق (...) ولذلك لابدّ من الجرأة والشجاعة في القضاء على الحلم حينما يصبح حلماً مستحيلاً، ذلك أنّ الأحلام إذا ما تواصلت وطال بها العمر، ولم يتبناها الواقع، انقلبت إلى مغالطة دنيئة، ودفعت النفس إلى مخادعة ذاتها)[11].
والتفاؤل الحقّ هو الوعي بالجوانب الإيجابية التي لا يمكن أن يخلو منها واقع مهما كان بائساً، ولا تخلو منها مرحلة مهما ضاقت بأصحابها، وهو استشراف لآفاق تطور هذه الجوانب عندما يحسن توظيفها وتنميتها (وما الشعر والفن والحلم إلا امتداداً للواقع، فهي جزء منه بعيد، وهي العيون التي يفتحها على الأفق والزمن حينما تغص به ردهة الحاضر، وتسعى نفسه إلى التعاطف والتكاثر في غمرة الجهد الواثق، والعمل العنيد الخالد، والحب الحقيقي المتعفر بوعث الأرض والتعب، ومن ليس هذا منطقه فله الغربة أو السفر والنفي)[12].
وهكذا يصبح تحيين الأحلام (Actualisation) واجباً وضرورة، إذ هو تعبير عن وعي حاد بالمرحلة والواقع الذات والموضوعي، وعن نهوض للمهام الإبداعية الأكثر قابلية للتحقق، وما الدعاء في كلِّ مرحلة ووضع إلا اللسان الناطق بالطموحات والآمال التي تناسب الممكن والمتاح، ولا ينفك أفق الدعاء الأعلى في العلو والانخفاض بحسب ما يستجد من إمكانيات ذاتية وموضوعية.
تلخيص:
إذا ما أردنا تقديم تلخيص موجز لما مرّ بيانه، فإنّ علينا أن نستحضر حقيقة الدعاء بما هو رغبة محمومة في الرحيل، متأسسة على قراءة لواقع الذات، أفضت إلى التخارج عنه، والتطلع إلى واقع أفضل، ترسم معالمه انطلاقاً مما يوجه من نقد إلى الوضع الراهن المعيش.
وإذا ما أضفنا لذلك أنّ العبادة هي كلّ الأعمال التي تذلل كلّ الصعاب؛ التي يمكن أن تعيق الكدح الإنساني إلى الله، وسعيه إلى تمثل أسماء الله الحسنى، علمنا أنّ (الدعاء) هو العبادة، كما جاء في الحديث النبوي، وهو مخ العبادة، لا لمجرد كونه لبّها، وإنما لأنّه التعبير عن الوعي بواقع الذات، وبما تتطلع إلى تحقيقه من منجزات، وبلوغه من غايات، فهو التعبير عن عملية التعقل حالاً واستقبالاً.
· الدعاء حلم استشرافي مقترن بالتزام بتحويله إلى حقيقة موضوعية، مما يجعل الدعاء المستجاب هو الذي يستجيب الإنسان أوّلاً لمقتضياته التزاماً به وتحملاً لمسؤوليات تحقيقه، وهو السبيل للاستجابة الإلهية لما في ذلك من توحيد لإدارة الإنسان مع إرادة الله.
· عندما ينهض الداعي لواجبه تجاه دعائه (حلمه)، قد ينصب اهتمامه على بعض الأسباب المساعدة على تحقيقه دون غيرها، كما قد يذهب به الظن إلى استفاء كلّ الشروط، أو معتبراً أنّ الفاعلية كلّ الفاعلية لبلوغ المراد يعود للأسباب التي أخذ بها، فيأتي الدعاء بما هو توجه إلى الله الذي له الخلق والأمر وإليه تعود كلّ الأسباب، تذكر الداعي بالتواضع وعدم الغرور، وبذم الغفلة عن نسبة كلّ شيء في عالم الناس.
· يحاول الداعي الخروج من واقع الضعف، ومحدودية الحيلة إزاء شروطه وجوده، بحثاً عن توسعه مجال فاعليته والرفع من قدراته، وذلك بفعل الطلب للأرقى من الأوضاع من جهة، وبالاحتماء بالله القوي العزيز المقتدر من جهة أخرى (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود/ 80)، كما قال لوط (ع).
الهوامش:
[1]- دنيال جولمان، الذكاء العاطفي، ترجمة ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة الكويت 2000، ص128.
[2]- راجع الذكاء العاطفي.
[3]- أخرجه أحمد في مسنده، ج3، ص73.
[4]- أخرجه أحمد في مسنده، ج5، ص63.
[5]- مسلم في الزكاة (65)، والإمام أحمد في المسند (2/ 328).
[6]- محمود المسعدي (الإيقاع في السجع العربي) محاولة تحليل وتحديد، نشر وتوزيع مؤسسات عبدالكريم بن عبدالله، تونس 1996، ص201.
[7]- بيار هيبر سوفرين، زرادشت نيتشه، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 2002 ط2، ص132-133.
(إنّ فهم شيء ما، يعني أن نميز فيه إرادة قوة (...) بمعنى أن كل شيء هو قوة تريد، تريد أن تنفي أو أن تثبت، أن تلتجئ أو أن تنمو، أن تتخطا ذاتها أو أن تتهاون).
[8]- Suter. S. (1986) Health psycho physiology: mind-body interactions in wellness and illness hillsdale NJ: Erlbaum associates.
[9]- Feltz, D.L, and Landers, D.M (1983) the effects of mental practice on motor skill leatning and performance: a meta-analysis journal of sport psychology 5-25-27.
[10]- غاستون باشلار، جدلية الزمان، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت 1982، ص64.
[11]- عبدالصمد زايد، موعد عند الأفق، الدار العربية للكتاب، تونس 1983، ص189-227.
[12]- المرجع السابق 227-228.
المصدر: كتاب فلسفة الدعاء
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق