• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

اللغة العربية وتحدِّيات العصر الإلكتروني

مصطفى سليمان

اللغة العربية وتحدِّيات العصر الإلكتروني
◄"اللغة البشرية من بدائع الخلق الإلهي، وهي والعقل صنوان. ولقد علَّم الله تعالى آدمَ الأسماءَ كلّها، مهما اختلف المفسِّرون في ماهية هذه الأسماء. فالأسماء مُسمِّيات لأشياء وحقائق ومفاهيم. الأسماء لغة" هناك نظريات كثيرة حول كيف نشأت اللغة؟ كيف تطوّرت؟ ولكن كيف سيكون مآلها على لسان البشر في عصور إلكترونية متسارعة؟ وبالذات كيف ستكون لغتنا العربية في تلك العصور الإلكترونية القادمة المذهلة؟ وبالأخص على يد الأجيال العربية الإلكترونية؟ وهل يقدم علماء لغتنا ومسؤولوها أي حل لهذه التحدِّيات؟ لعل القارئ يتذكّر أنّ اللغة الألمانية كانت قبل الحرب العالمية الثانية لغة واحدة موحَّدة. لا تتساءل: وهل صارت لغتين بعد الحرب العالمية الثانية؟ نعم، كادت أن تصير! فقد درس علماء اللغة الألمان، آنذاك تأثير إنقسام ألمانيا إلى شرقية وغربية، ومدى تأثير (الدخيل اللغوي) عليها، سواء من الشيوعية والفلسفة الماركسية، أو من مصطلحات إستجدّت في علم السياسة والإجتماع والإقتصاد والفلسفة، ومن تطوّر المجتمع الألماني الشرقي المختلف جذرياً عن المجتمع الألماني الغربي. اللغة ظاهرة عقلية إنسانية، وهي كذلك ظاهرة إجتماعية، تتطوّر بتطوّر المجتمع من جميع النواحي، ولابدّ لهذا التطوّر من مصطلحات تعبر عن مجالاته. وقد يكون التطوّر سلبياً، وقد يكون إيجابياً. والدارس لتطوّر لغتنا عبر عصور النشأة الغامضة غير الموثقة علمياً، وعصور الإزدهار ثمّ الإنحطاط، ومن خلال الإمتزاج الحضاري بين الأُمم التي دخلت الإسلام، أو اتّصلت به، يدرك مدى هذا التطوّر، والتأثير، والتأثُّر معاً. فما من لغة تستطيع أن تبقى قابعة خلف الأسوار، ولو كانت أطول وأشمخ من سور الصين العظيم. فاللغات تنشأ نشأة بدائية، ثمّ تبدأ بالتطوّر: نطقاً، ورسماً، وتقعيداً، وبلاغةً، ودلالاتٍ، ومصطلحاتٍ، ومفاهيم... ثمّ تدخل إمّا في مرحلة موت سريري، كاللغة اللاتينية، حيث ترقد مشلولة دماغياً في أكاديمية تاريخ اللغلات البشرية، وأديرتها، وكنائسها. وإمّا تدخل في (تمويت أو إماتة) من جانب أبنائها، وعلمائها، وزعماء دولتها، ومؤسساتها التربوية، ووسائلها الإعلامية... فاللغة إنّما تموت بموتها لسانياً أي على اللسان اليومي للمتكلمين بها عندما تغادر اللسان والشفاه. وهذه حال لغتنا العربية الفصحى التي تتيبّس على اللسان والشفاه وفي الحلوق، بمزاحمة اللهجات العامية، وتسهيلات وسائل تعلُّم وانتشار اللغة الأجنبية الأولى في العالم: الإنكليزية. نعم، اللغة كالأشجار تموت واقفة. فإذا كانت لغة حيّة، ولغتنا من بينها، فإنّ جذورها لا تموت، بل تنمو أوراقها من جديد، وتتجدد أغصانها، وتعطي الثمار اليانعة.. بشروط. لكن إذا تعفّنت الجذور، ستنقصف تلك الأشجار، وتصبح كجذوع نخل منقعر. وتدخل اللغة الحية، في موت سريري، كباقي اللغات التي (كانت حية)! واللاتينية مثالنا. وموت اللغات يأتي من عجزها عن التكيُّف مع التحدِّيات الحضارية الكبرى. فاللغة اللاتينية، كما يقول (فينلون)، أغنَتْ نفسها بما كانت في حاجة إليه من المصطلحات الأجنبية، فكان الرومان تعوزهم مثلاً مفردات مخصصة في الفلسفة، إذ لم تظهر بروما إلا في فترة متأخرة من الزمن، فاستعاروا من اليونانية مصطلحاتها. كذلك فعل الخطيب الروماني الأشهر (شيشرون) حين سمح لنفسه بإستخدام المفردات اليونانية على أنّها أعجمية، ثمّ اعتبرها حقّاً من حقوقه الخاصة. لكن اللاتينية ماتت (راجع دورية اللسان العربي، مكتب تنسيق التعريب، الرباط، المجلد 14، ص177). في الإنكليزية ما يقارب الألف كلمة من العربية. وربع الإسبانية مأخوذ من العربية. وفي البرتغالية ثلاثة آلاف كلمة عربية، كما أوضح المستشرقان (إنجلمان) و(دوزي) في (معجم المفردات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية). وبالنسبة إلى لغتنا، فلقد تكيَّفت، وتحدَّت، وتطوَّرت عبر العصور منذ نشأتها البدائية، التي ليس العصر الجاهلي أوّل مراحلها، مروراً بتحدِّيات مصطلحات الدين الإسلامي الجديد الذي أدخلها في مفاهيم، ومصطلحات، ودلالات لم تكن تألفها في سياقها القديم. وأخطر ما واجهها في مسيرة تطوّرها: لغةُ (الدخيل) من اللغات الأخرى، عبر أقوام غير عرب أسلموا وتعرَّبوا، وبدأوا يستخدمونها لغة لهم، لحاجات إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية، أي لتلبية متطلِّبات السوق، في دواوين الدولة، ومعاملات البيع والشراء وبلاطات الخلفاء والوزراء، وكبار القادة، فاللغة ظاهرة إجتماعية وإقتصادية وسياسية... لهذا دخلت مئات الألفاظ الغريبة على ألسنة الناس، وأقلام الكُتّاب، والشعراء... وفي كتابنا الإلهي المقدّس، القرآن الكريم، حيث وردت فيه كلمات غير عربية كالحبشية، والنبطية، والفارسية، واليونانية، والقبطية، والهندية. والأمثلة كثيرة: السندس، والإستبرق، والديباج، والتابوت... (للتوسع راجع الدورية المحكمة: اللسان العربي، مكتب تنسيق التعريب، الرباط، المجلد 14، ص186، 187، 208). وقد انبرى علماء العربية وخرَّجوا ذلك الدخيل، على قاعدة أنّ اللغة القرآنية إنّما كانت تخاطب العرب في زمانهم، ووفق لغتهم، أو لسانهم الأصيل أو المكتسب، أو وفق لهجاتهم: (أُنزِل القرآن على سبعة أحرف)، وإلا كان القرآن الكريم سيخاطب قوماً بلغة لا يفهمونها، وهو إنّما نزل للبيان والتشريع. كذلك خرَّجوا الدخيل على قاعدة: أنّ ما أُخضِعَ لمقاييس العربية وأوزانها فهو عربي. ففي عصرنا مثلاً عَرِّبت كلمة تلفزيون إلى (تلفاز) كإسم آلة، وحديث (متلفَز) لإسم المفعول، وماتت كلمة الرائي أو المرناة، كما ماتت (الشطيرة) مقابل (السندويش) على اللسان والشفاه، وهو الأهم، والأمثلة بالمئات. وهذه التخريجات الجريئة للدخل أغنت اللغة العربية بمئات المفردات والمفاهيم وأدخلتها في معادلة إمّا تلبية حاجات العصر، أو الإنكفاء والموت السريري. وهانحن اليوم نشاهد لغتنا العربية تتصارع مع لغة عالم التقنيات الإلكترونية المتسارعة، فتدخلها، عنوةً، مصطلحاتُ ومفاهيمُ التقنيات الحديثة، دون إستئذان. ولغتنا غنية بقواعد صرفها ونحوهاه عبر وسائل مبدعة مثل التعريب والنحت والإشتقاق. حتى لو كان المصطلح العربي الجديد خليطاً أو مزيجاً من العربية والأجنبية، مثال ذلك (العوامل الجيوسياسية، أو الجغراسية) للدلالة على تبادل التأثُّر والتأثير مابين تضاريس الأرض والموقع الجغرافي الحيوي وبين العوامل السياسية، أو حتى لو كان المصطلح نحتاً من العربية فقط، مثل مصطلح (الزمكانية) من كلمتي الزمان والمكان، والعوامل النفسجسمانية للعلاقة الجدلية مابين أمراض الجسم والإضطرابات النفسية، وهل ننسى المصطلح الشهير في عصرنا عن الرّهاب الإسلامي (إسلاموفوبيا)؟ العالم يهتم بلغتنا إهتماماً متزايداً لإهتمامه بمصالحه الإستراتيجية، ولما لهذه الأُمّة من مخزون حضاري حي، ثقافياً، وإقتصادياً، وجغراسياً، يفعل فعله في أحداث العالم. وقد نُشر مؤخراً تقرير هام عن اللغات التي يستخدمها زعماء العالم، والشخصيات الفاعلة في مجريات العصر، عبر مواقع التواصل الإجتماعي (الفيس بوك والتويتر، ترى كيف نترجمهما؟) فكانت اللغة العربية الرابعة بعد الإنكليزية والإسبانية والفرنسية، من بين سبع عشرة لغة عالمية تُستخدَم في هذه الفعاليات الإلكترونية، وذلك لإدراك هؤلاء القادة أهميّة المجتمع العربي في تقرير أحداث العصر. طبعاً هناك زعماء وسياسيون بارزون عرب لهم حساب خاص بهم، ويكتبون الردود بأنفسهم باللغة العربية: (الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، ونجيب ميقاتي رئيس وزراء لبنان الأسبق، والمنصف المرزوقي الرئيس التونسي...)، وهناك مترجمون يشرفون على حساب الشخصيات الأجنبية. اللغة العربية في مأزق إلكتروني في هذا العصر الباهر المتسارع، حيث نجد شبابنا يخترعون لغةَ تخاطبٍ إلكترونية فيما بينهم، للتفاهم والتواصل الإجتماعي، عبر مواقع التواصل المعروفة، ومن خلال رسائلهم الإلكترونية. فتجد رموزاً لبعض الأبجدية العربية، ليست معهودةً في لغتنا وكأنّها اللغة (الحلمنتيشية) في المقاهي المصرية العريقة، أو كأنها شِفرة سرّية يتبادلها الأفراد بعيداً عن أعين وآذان الرقباء، التي تلتقط دبيب النملة في قراها تحت الأرض! والخطر اللغوي المشروع تساؤلنا حوله هو: هل تتطوّر اللغة العربية، شيئاً فشيئاً، عبر الشباب، وهم المستقبل، ومن خلال مواقع التواصل الإجتماعي، والرسائل الإلكترونية، إلى لغة إلكترونية غريبة عن الآخرين، بحيث لا يفهمها إلا المتحدِّثون بها وكأنّها لغة (الإسبرانتو)؟ المراسل باللغة الإنكليزية عبر هذه الوسائل يجد أيضاً تلك الرموز والشفرات اللغوية، رغم أنّها مشتقة من اللغة نفسها وليست غريبة الشكل كما في لغة الجيل الجديد. لغة الإختصارات، التي تبدع فيها اللغة الإنكليزية، صارت منذ مدّة لغة التخاطب الإنساني عالمياً، وأخذت هذه الإختصارات تحل، شيئاً فشيئاً، محلَّ أبجديتها! أليست لغة الإختصار والإختزال سهلة وسريعة وممتعة؟ إنّها (تابو) ممتع، حرام – محلل، أو حلال – محرم! وهنا يكمن الخطر. ما الحل؟ أين علماء اللغة العربية من هذا التطوّر والتحدِّي الحضاري الإلكتروني المفروض علينا وعلى لغتنا وأجيالنا فرضا؟ هل نلوم شبابنا على تسهيلات يخترعونها للتواصل السريع في عصر التسارع؟ أو هل نقول مع شبابنا وهم يرددون بيت أبي نواس: (دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءً/ وداوني بالتي كانت هي الداءُ)؟

ارسال التعليق

Top