د. مها خير بك ناصر *
هل اللغة العربية عاجزة عن مواكبة الحضارة العلمية الحديثة، وهل تفتقر إلى خصوبة التجدد واحتضان مصطلحات الحضارة المعاصرة؟ ذلك ما يحاول هذا المقال الإجابة عنه.
تشكّل اللغة أداة للتعبير والتواصل بين أفراد المجتمع، وترجماناً ينقل الأفكار إلى الغير ليتم التفاهم والإقناع، أو التأثير، فهي رمز التعايش المشترك، وبها يتم توثيق روابط الوحدة الجماعية، وتدوين سجل الأُمّة، وحماية تاريخها، وحفظ ذاكرتها مما يضمن التفاعل الحضاري بين الخلف والسلف.
تتبنى اللغة تجسيد أنماط الفكر الإنساني، وما ينتجه من تطلعات وأفكار ورؤى وعلوم ومعارف أصّلت وتؤصل لفعل حركة يختزل كمون الإبداع المتجدد مع سيرورة الزمان، لأنها تمنح عملية التطوير شكلانية التراكيب، وتضمر روحية المعرفة وجوهرها الأصيل القابل للتفاعل والتوليد.
لما كان العقل يتمظهر باللغة، واللغة تتلبس وتعكس قيمة العقل، فإنّ العلاقة بينهما تدخل في جدلية الفعل وردة الفعل. فهل اللغة هي أحد مظاهر الحركة العقلية التي تصطدم بجوهر معرفي فتتشكل ردة الفعل لغة تردد صدى الاصطدام وجوهره؟ أم أنّ اللغة تحرّض العقل فينتج الأفكار والآراء؟
إنّ الخوض في هذه الإشكالية يحتاج إلى دراسة علمية بيولوجية ونفسية وألسنية، ولكن هذا النوع من الدراسة له أصحابه من أهل العلوم البيولوجية التي ستبقى تنظر، في رأيي، إلى هذه الظاهرة الإنسانية بالنظرة عينها إلى تشكل البيضة. ولذلك يعنيني من الطرح قضيتان: الأولى، تؤكد أنّ العقل السليم يرسل أفكاره بتسلسل ترتيبي منطقي غير قابل للتناقض، والثانية تؤكد وجود علاقة حتمية بين العقل واللغة، سواء كان ذلك بين العقل وإنتاج اللغة، أو بين اللغة وفاعلية العقل، وفي الحالين معاً، فاللغة تخضع في أدائها إلى منطق الترتيب الرياضي، فليس من المعقول أن تنتج اللغة تراكيب تحتمل التناقض، وهذا ما عبر عنه سيبويه في تحديد الكلمة المفردة باعتبارها أول شكل من أشكال البناء النسقي "الكلمة هي لفظ بالقوة، وبالفعل شكل دال بجملته على معنى بالوضع".
إنّ كلام سيبويه وغيره من علماء اللغة العربية يشير إلى عظمة التراكيب اللغوية العربية، ويحدد ماهية العلاقات اللغوية المنطقية التي تخضع في عملية تشكّلها إلى قوانين المنطق الرياضي، مما أكسبها خاصة التوليد والاكتساب والتطويع، فاختزلت بقدراتها ثقافات الحضارات العالمية التي تفاعلت في مختبراتها، وأعطت فكراً جديداً مغايراً، ومن ثمّ احتضنت الإنتاج العلمي والأدبي والديني والفلسفي الذي تمخضت عنه حركة الفكر الإبداعي الحر المتفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى، فكان نتاجاً علمياً ما زال فاعلاً بالحضارة العالمية المعاصرة.
- واقع اللغة العربية:
تعيش اللغة العربية، اليوم، حالة تغريب عن أبنائها، فهي في نظر البعض لغة عاجزة عن مواكبة الحضارة العلمية المعاصرة، لأنّها في رأيهم، تفتقر إلى الخصوبة العلمية، وغير قادرة على اكتساب المصطلحات، والمفاهيم العلمية والحضارية الجديدة، فشهدت مؤسساتنا التربوية سباقات مفرغة من الهدف، وسارعت إلى تبني برامج تعليمية غريبة عن موروثنا الثقافي، وغير قابلة للتفاعل معه لسبب رئيس يكمن في عجز القيّمين على البرامج عن إيجاد المناخ العلمي القادر على خلق مختبرات الانصهار والإنتاج، وفرضت على أبنائنا أشكالاً علمية مسبقة الصنع، يتعرفون إليها جاهزة، مع الاكتفاء بالشكل الخارجي الذي يجهلون تكوين مادته، فربطوا جهلهم بمعرفة الجوهر بعجز اللغة عن تبليغ الرسالة العلمية بعمق ووضوح، ورميت لغتنا بالنعوت السلبية.
لقد ترسخ الشعور عند معظم أبنائنا، بعجز اللغة العربية عن مواكبة حركة العلم والتكنولوجيا، وتأكدت أمامهم عظمة اللغات الأجنبية التي تحتضن الفكر العلمي المعاصر وتنقله، فتنتج عن ذلك الشعور بالدونية أمام اللغات الأخرى، وصار النطق باللغات الأجنبية دليل تفوق فكري وحضاري، ولو كان النطق لا يتجاوز حدود الشكل الصوتي.
إنّ إتقان اللغات الأجنبية أمر ضروري إذا كان ذلك ناتجاً عن رغبة في الحصول على المعرفة من أصولها اللغوية، وتفعيل الناتج مع الفكر العربي، في حقول معرفية عربية.
ولكن قلما يكون الهدف ثقافياً إنتاجياً، غايته تفعيل الموروث الثقافي بأدوات من التراث وبمواد مستوردة لا تتعارض وطبيعة مختبراتنا الاجتماعية والثقافية والمعرفية، ولذلك لا تتحقق خصوصية تسجيل الفعل وردة الفعل بلغة عربية سليمة، وبإنعدام الرغبة في تحفيز قدرات اللغة فقدت لغتنا الكثير من خصائصها، وأصيبت بالوهن والضعف.
لماذا لا يطرح المثقف العربي سؤالاً محدداً على ذاته وعلى الآخر الذي يجهّله: هل تغيرت اللغة العربية من حيث الفاعلية التواصلية؟ ولماذا استطاعت هذه اللغة أن تحتضن ثقافات متنوعة ومتعددة، وتختزنها وتخمرها ومن ثمّ تبعثها بلسان عربي مبين ناطق بمعرفة لا تعرف الفناء؟
إنّ المشكلة ليست في قدرة اللغة العربية، بل في إنساننا العربي الذي يعيش مرحلة إنسحاق وإنبهار وشعور بالدونية والضعة من إنتمائه، فيمارس دونيته هروباً من أصالته وهويته، والهوية القومية ترتبط باللغة القومية، لذلك كان الاعتزاز باللغة اعتزازاً بالإنتماء القومي، ومَن يتخل عن إنتمائه القومي، فلا وجود له، إنّه أشبه بالشجرة التي تقتلع من دون جذورها، فتكتب نهايتها.
عاشت بلاد الاتحاد السوفييتي السابق حصاراً لغوياً، وصارت اللغة الروسية لغة العلم والفكر والحضارة، ولكن شعوب هذه البلاد ظلت مرتبطة ارتباطاً وجدانياً ومصيرياً بلغتها، فرسخت، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، هويتها القومية باعتماد اللغة الأم لغة رسمية في المؤسسات التربوية لأنها لغة التفكير والتوثيق الحضاري والثقافي. والشعب اليهودي، على الرغم من توزعه في العالم، فهو يحرص على إتقان اللغة العبرية وإحيائها كلغة علم وأدب وفكر وفلسفة، ويعمل المثقفون منهم على إغنائها بالمفردات، بينما إنساننا العربي يحاول تحنيط اللغة في قوالب جاهزة تمنعها من التخصيب والتوليد، ويخجل من إتقانها حتى صار البعض يسمع الخطأ ويسكت كي يحمي نفسه من وصمة التخلف التي يقرنها بعضهم بالأصولية، أو يكون انعكاساً عن جهله بلغته أو لعدم ثقته بنفسه وإنتمائه، حتى صار الخطأ واللحن سمة عامة يبررها البعض بالأخطاء الشائعة، ويرسخها أساتذة الجامعات جوازات مقبولة، ويلقنها المتخرجون حقائق لغوية ثابتة تتناقلها الأجيال، وتفقد اللغة قوانينها وخصائصها.
يتسلح البعض بضرورة تطور اللغة، وهذا أمر طبيعي أثبتته الدراسات اللغوية والألسنية، واللغة الحية لا تتوقف عند الشيئي الجاهز، بل تتجاوزه إلى أشكال تتلاءم ومعطيات العصر، ولكن التغيير في عرف الطبيعة يرتبط بالظاهر الشكلي، ولا يؤثر في قوانين الطبيعة، فالتغيير في اللغة يجب أن يظهر في أنماطها وفي ألفاظها، ولكن يجب ألا يؤثر في قوانين تشكيلها الداخلية، لأنّ أيّ مس في الترتيب الجيني يؤدي إلى التشويه، وهذا ما يرتكبه أساتذة اللغة العربية، ويشاركهم في هذه الجريمة بعض القيّمين على مجامع اللغة العربية بإقرار الأخطاء الشائعة.
تتمتع اللغة العربية ببنية تميّزها عن غيرها من اللغات، وتشكل بنيتها النحوية والصرفية الثوابت التي تضمن سلامة وتطور بقية البنيات. غير أنّ الشائع المقبول في معظم مؤسساتنا التربوية ومنتدياتنا الثقافية، السكوت على الأخطاء اللغوية والنحوية، وترسيخها عرفاً آمن به البعض، واعتبر ميزة أوجدتها الحضارة العلمية المعاصرة، في وقت يبحث فيه عن ترجمة المصطلحات الغربية ولا يقبل استخدامها معربة. فأيّ تناقض هذا؟ وأيّ تعارض مع سنة التطور اللغوي الحقيقية؟ والواقع اللغوي يثبت أن لغتنا اكتسبت، يوم كنا أقوياء وواثقين بأنفسنا، مفردات ومصطلحات طوعتها وأخضعتها لقوانينها، وساهمت في تدوين علومنا وثقافتنا وحضارتنا، فأغنت علومنا، وكانت لنا لا علينا. فما أحوجنا، اليوم، إلى جيل عربي يؤمن بقدرة لغتنا على الاكتساب والتطويع، مع المحافظة على خصائصها وقوانينها!
إنّ الواقع العربي المشحون بالصراعات النفسية، والقلق والضياع يعاني التشرذم والتفكك والضياع وفقدان المركزية، ويعيش إنسانه مرحلة صعبة ومعقدة، وهو يستقبل حضارة عالمية تتميز بالدقة العلمية والاختصاص المفعّل بالشمولية، وينقلها الإعلام العالمي الاستهلاكي بكل إغراءاته، فيكتفي الفرد العربي بالجاهز المعد له مسبقاً، وتتحول مجتمعاتنا بسرعة غريبة إلى مجتمعات استهلاكية، ويتناسى الفرد أصالته، ويهمل قدراته، فيتمثل عجزه ببعده عن لغته، وعدم الوثوق بها، وبفاعليتها وطاقاتها الأدائية.
- حلول ليست جاهزة:
من خلال مراقبتنا للعمليات الرياضية، نلاحظ أن علم إدراك العلاقات من أهم خصائص الرياضيات، وتتجسد العلاقة برسم بياني بين مجموعة الأساس وهي المنطلق، ومجموعة الهدف وهي المستقر، وما نعثر عليه من علاقات في الرياضيات نجدها في اللغة فتكون الفكرة كامنة في العقل، وصورتها في المستقر وهو التعبير، ولكي تؤدي التعابير غايتها، يجب أن تكون مرتّبة ومنظّمة بطريقة يقبلها المنطق، والمنطق في تعريف ابن سينا "هو المعقولات الثابتة المستندة إلى المعقولات الأولى بحيث يتوصل بها من معلوم إلى مجهول" وعلاقتنا بالمنطق والرياضيات، اليوم، تفتقر إلى وجود أهم الخصائص المنطقية والرياضية، فتأتي الدراسات العربية سطحية في أدائها وأهدافها وأغراضها، وينعكس التسطح في استخدام اللغة، أثبتت الدراسات الرياضية أنّه لا قيمة للعنصر الرياضي إلا ضمن العلاقات التي يدخل في نطاق تركيبها، وكذلك الحال بالنسبة إلى العنصر اللغوي الذي يستمد قيمته من خلال وظيفته الأدائية ضمن التراكيب اللغوية، ومن خلال علاقته بغيره من العناصر، والعلاقات خاضعة لمجموعة من القوانين الصرفية والنحوية التي تؤمن سلامة البنية اللغوية للجسد النصي. فإذا أصيبت القوانين بالتزوير والتحريف اختل الأداء وفقد مع الأيام فاعلية التوليد. نحن بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تحصين اللغة العربية وحماية قوانينها، لأنّ الاستعمار الأكثر خطورة على المستقبل العربي، هو الاستعمار الفكري الثقافي، ولكي نؤسس لثقافة عربية، لها قيمتها في التفاعل الحضاري، والقادرة على مواجهة الغزو الفكري، ينبغي إحياء اللغة العربية وحماية قوانينها، وإغنائها بمفردات جديدة، ومن ثمّ تخصيب الفكر العربي بفكر الآخر المغاير والمتخلف، وذلك بالإطلاع على جوهر ثقافته. والسعي إلى مواكبة التطور العلمي وتطويع منجزاته وإعادة إنتاجها بلغة عربية سليمة، قدوتنا في ذلك علماؤنا الأوائل، وما تسلحوا به من قيم وعلوم ومعارف وأساليب ارتبطت بأساليب المنطق الرياضي التي كانت الخطوات الأساس في عملية الإبداع العربي.
إنّ ما نحتاج إليه هو تعزيز الهوية القومية، والاعتزاز بالإنتماء إلى تراث حضاري غني، شريطة ألا يتوقف الآخر بغية التوليد والخلق، متجاوزين الشعور بالنقص أو التفوق، وهذا يفرض وجود مؤسسات – علمية عربية – تعنى بترجمة الكتب العلمية إلى اللغة العربية ليستقبلها الإنسان بلغة تفكيره وإبداعه، ويعيد خلقها من جديد بلغة عربية، فتبعث جدتها، في نفس الآخر، رغبة في نقلها إلى لغته، وتستمر عمليتا الأخذ والعطاء إلى ما لا نهاية، ونؤسس لأنفسنا وجوداً على مسار حركتي العلم والعولمة، ونتحرر من عقدة التحدي، لأنّ التحدي لا يكون بالشعارات المفرغة من العمل، بل بحركة تعكس فعل العقل، وتجسد إبداعاته.
إنّ تشجيع حركتي الترجمة والتأليف مرتبط بإحترام اللغة العربية وحماية قوانينها وطرح قضاياها بمنطق العلم الرياضي، فنحررها من جمودية التعقيد والتلقين والتحنيط في قوالب جاهزة، ومن ثمّ نكشف عن دقة خصائصها، وقدرة قوانينها على استيعاب علوم العصر وتطويع مصطلحاته، وإعادة صياغتها بلغة عربية تواكب علوم العصر، وتتقمص روحها.
* باحثة وأستاذة للأدب العربي – من لبنان
المصدر: مجلة العربي/ العدد 554 لسنة 2005م
ارسال التعليق