• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المجتمع المدني والقيم الإسلامية

أُسرة البلاغ

المجتمع المدني والقيم الإسلامية

تقديم
مصطلح المجتمع المدنيّ بشكله المحدّد، والدّعوة إلى إقامته نشأت في أوربا في القرن السّابع عشر، كما يفيد الباحثون والمؤرِّخون لهذا المصطلح.. وبالشكل الّذي يناسب ظروف النشأة وفلسفتها النظرية، فالمعروف أنّ أوربا كانت تعيش في عصر الظّلام والاضطهاد السياسيّ والفكريّ الّذي تمارسه الكنيسة والاقطاع والنبلاء والملوك والاباطرة.. وكانت المجـتمعات حينها تخضع لإرادة الحاكم المُسـتبدّ، وإرادته هي القانون في المجتمع والسّلطة في ذلك الحيِّز التأريخي، لا ينظِّم سلوكهما قانون، وإن وُجِدَ فلا سيادة له، وهو تعبير عن إرادة الحاكم، والإنسان خاضِع لإرادة هذا الطّاغوت، ولا حرِّيّة ولا حقوق إلاّ ما تفضّل بها الحاكم عليه.. وحين بدأت النهضة السياسية والمناداة بحقوق الإنسان الّتي في أوربا كانت تصادرها الكنيسة، وتضع حضراً على الفكر والتفكير، ونشاط الفرد والجماعة، حينذاك تقدّم روّاد الفكر والنهضة الأوربية الحديثة بنظريّة المجتمع المدنيّ، ونشأ هذا المصطلح، فكتب في ذلك هوبز وروسو ولوك وهيغل وماركس، وآخرون غيرهم من مفكِّري أوربا وروّاد نهضتها الحديثة، كلّ في مرحلته، ونظّروا لهذا المجتمع.
وكان الحديث عن المجتمع المدنيّ قد اختفى بعد قيام الحضارة الأوربية الحديثة، ثمّ نشط الحديث عنه كما نشط التنظير له وتطوير المفهوم في الحقبة الاخيرة..
وهكذا نعرف أنّ الحديث عن المجتمع المدنيّ في عالمنا الإسلامي اليوم ليس هو مشروعاً عصريّاً، وإن بُذِلَت جهود تنظيريّة لتحديثه وتطويره. كما نعرف"أنّ الإسلام يملك من أدوات البناء الاجتماعي ما هو كفيل ببناء مجتمع مدنيّ سليم من أمراض المجتمع المدنيّ الّذي دعا له الكُتّاب الأوربيّون"، ويردِّد صداهم باسم الحداثة والحرِّيّة وحقوق الإنسان، كُتّاب يعيشون حالة ارتباك الرّؤية، وفقدان المنهجيّة العلميّة في الإبداع أو النّقد والتبنِّي، ومحاولة الدعوة إلى التغريب، وتكرار القديم بمصطلحات حديثة.
وينبغي أن نشير هنا إلى أنّ بناء المجتمع المدنيّ هدف إنساني تسعى لتحقيقه فلسفات ونظريّات متعدِّدة، غير أنّ هذه النظريّات تختلف فيما بينها في تحديد شخصيّة المجتمع المدنيّ وطريقة بنائه ودوره المرسوم، وسـنعرف ذلك من خلال التعاريف المتفاوتة للمفكِّرين وللأفكار والنظريّات المنادية ببناء المجـتمع المدنيّ. وسـنعرف أنّ للإسلام رأيه ونظريّته.
تعريف المجتمع المدنيّ
يتّضح من المفاهيم والتعاريف المساقة لتعريف المجتمع المدنيّ أنّ أصحابها يتحدّثون عن عدد من القضايا والمفاهيم والأليّات السياسية والفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاولون أن يشكِّلوا صورة هذا المجتمع من خلالها، كلّ وفق رؤيته وفهمه ونظريّته.
فممّا عُرِّف به: «أنّه المجتمع الّذي يقوم على المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة؛ لتحقيق أغراض متعدِّدة...»(1).
والمجـتمع المدنيّ في الفكر الأوربي(2) الرأسـمالي يقوم على أبعاد أساسيّة هي :
1 ـ في المجال الاقتصادي يعتمد على حرِّيّة السوق.
2 ـ وفي المجال السـياسي يقوم على أساس استمداد السّلطة من إرادة الشّعب.
3 ـ إنّ مفهوم المواطنة يحدِّده القانون الّذي يضعه المجتمع.
ويُعرِّف آخرون المجتمع المدنيّ بأنّه المجتمع الّذي يتلاشى فيه دور السّلطة إلى المستوى الّذي يتقدّم فيه دور المجتمع على دور الدولة، بل ويذهب فريق آخر إلى اعتبار السّلطة وجوداً معارضاً ومواجهاً لوجود الدولة؛ لذا يجب تقليص دورها ليسود دور المجتمع.
ويُركِّز الّذين كتبوا عن المجتمع المدنيّ أنّ هذا المجتمع هو الوجود الثالث بين الفرد والدّولة، بين الفلسفة الفردية التي تعطي مجالاً غير محدود للفرد، وبين نظريّة سيطرة الدولة، واتِّساع سلطتها ونشاطها.
«وعُرِّف المجتمع المدني أيضاً بأنّه : «مجموعة التنظيمات التطوّعيّة الحرّة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الإحترام والتراضي والتسامح والإدارة السّليمة للتنوّع الخلّاق» (3).
«وعُرِّف المجتمع بأنّه ميدان وحيِّز يتكوّن من فعاليّة أناس يتمتّعون بحرِّيّة الانتخاب، ويمارسون هذه الحرِّيّة في إطار القانون والقواعد العامّة، وبشكل مستقل عن إرادة وقرار السّلطة السياسية أو الحاكم».
ويتحدّث جون لوك عن المجتمع المدنيّ فيقول: «وهكذا فحيث يؤلِّف عدد من النّاس جماعة واحدة، ويتخلّى كلّ منهم عن سلطة تنفيذ السنّة الطّبيعية التي تخصّه، ويتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدنيّ»(4).
وعرّف آخرون المجتمع المدنيّ بأنّه: «كلّ المؤسّسـات التي تنتج للأفراد التمكّن من الخيرات والمنافع العامّة، دون تدخّل، أو توسّط من الحكومة»(5).
وعُرِّف أيضاً بما يأتي: «المجتمع المدنيّ هو النّسق السياسي المتطوِّر الّذي تتيح صيرورة تمأسسه (تمفصله في مؤسّسات) مراقبة المشاركة السياسية»(6).
وقبل أن نغادر إيراد هذه المجموعة من التعاريف، ينبغي أن نوضِّح أنّ نظريّة المجتمع المدنيّ الأوربي في أساس تشكّلها قامت على المفهوم العلماني للمجتمع، فنظريّة العقد الإجتماعي كانت بداية المناداة بالمجتمع المدنيّ. فممّا انتزعته هذه النظرية من بيئـتها التي كانت تتحكّم فيها الكنيسة أنّ نظريّة الدِّين الكنسيّ مهيمنة على بنية المجتمع والدولة. وتقوم على أساس الحق الإلهيّ ـ حكم ثيوقراطي ـ ، وأنّ التخلّص من هذه النظرية هو التحوّل من نظريّة الحق الإلهي الكنسيّ إلى نظريّة الحرِّيّة الفرديّة وبناء الحياة على أساس التعاقد الإنسانيّ الحرّ.
وكما أوضحنا فللفكر الغربيّ البرجوازيّ والرأسماليّ نظريّته في بناء المجتمع المدنيّ، كما للفكر الماركسي أكثر من نظريّة في بناء المجتمع المدنيّ، وللفكر الإسلامي نظريّته في بناء المجتمع المدنيّ.
وينبغي أن نفهم أنّ مصطلح مدنيّ لا يُناقض مصطلح إيمانيّ.
نظريّة المعرفة أساس التشكيل والبناء
ولنتناول هذه الاُسس المعرفيّة بشيء من الإيضاح لنعرف مدى العلاقة بين الفكر الفلسفي والاُسس المعرفيّة وبين نظريّة المجتمع المدني.
1 ـ الفكر اليوناني: ساهم الفكر اليوناني مساهمة فعّالة في تأسيس الفلسفة والعلوم العقلية التي سلكت اُسساً معرفيّة للطبيعة والسياسة والأخلاق والنفس والأدب والإجتماع... إلخ.
فمثلاً انطلق إفلاطون في نظريّته السياسية من أساس فلسفي يعتمد على أنّ الفرد له حاجات ذاتيّة، وهو يسعى لإشباع تلك الحاجات، ولا يستطيع إشباعها بطريقة فردية، لذا نشأ المجتمع نتيجة للشعور بالحاجة إلى التعاون من أجل إشباع الحاجات.
ونادى إفلاطون بنظريّته «المدينة الفاضلة» التي يحكمها الفيلسوف، ولكي تبعد مناشئ الشرور، نادى بشيوعيّة الأموال والنِّساء.
ومن هذه الاُسس انطلق في بناء «المدينة الفاضلة» التي يحكمها الفيلسوف.
وأمّا أرسطوا فيبدأ نظريّته من فلسفته العامّة في الطّبيعة البشريّة، وهي أنّ الانسان مدنيّ بالطّبع، وهو حيوان سياسي؛ لأنّه يملك الشعور بالخير والعدالة (حيوان أخلاقي)، وأنّ سعادته تتحقّق في العيش الجماعي في ظلِّ المدينة.. والاُسرة عنده هي وحدة البناء، فمن مجموع الاُسر تتكوّن القرية، ومن مجموع القرى تتكوّن المدينة، وأنّ حياة الفرد وسعادته لا تتحقّق إلاّ بالمدينة؛ لأنّها غاية في الوجود الإنساني، تفرضها طبيعة الإنسان التكوينية.
2 ـ الفكر الكنسيّ اللاهوتيّ: عاشت أوربا قروناً عديدة تحت كابوس الفكر الكنسيّ الّذي فرض على أوربا حقبة ظلام ثقافي وسياسي وعلمي دامس.. فكانت الكنيسة هي المخوّل الوحيد في التفكير والتنظير والحكم والسياسة، وحتى نظريات الجغرافية والفلك والفيزياء يجب أن لا تخرج عن منهجها ونظريّاتها الخرافيّة التي رفضت منهج البحث العلمي والمنهجية التجريبية، وتنكّرت للحرِّيّات وحقوق الإنسان، فكانت ترى الأرض والإنسان والسلطة ملكاً لها تتصرّف بها كيف تشاء.
وكم من علماء الطبيعة والباحثين ورجال الفكر المعارض، اُعدِموا، واُحرِقَت كتبهم، واضطُهِدوا بسبب آرائهم العلميّة والسياسية المخالِفة للكنيسة.. لقد كانت الكنيسة تعتقد أنّ البابا مُفوّض من قِبَل الله له ما لله. يحكم ما يشاء، وأنّه يملك حقّ إعطاء صكوك الغفران. فكانت عقليّة الكنيسة عقليّة إرهابيّة دكتاتوريّة تنطلق من نظرية التفويض الإلهي القائلة بأنّ الله فوّض أمر إدارة شؤون البشريّة إلى البابا، وأنّ إرادته هي القانون.
وقد استمرّ الصِّراع طويلاً بين الفكر الكنسيّ لبناء المجتمع والدولة، وبين الفكر البرجوازي الأوربي، الذي انغلق على اُسس علمانيّة حتى سقط الفكر الكنسي اللاّهوتي المحرّف.
وهكذا انعكست نظرية المعرفة الكنسية للطبيعة والمجتمع والدين والإنسان والحياة على بناء المجتمع والدولة والسلطة وعلاقة الاُمّة بالحاكم.
وحين انطلقت من فلسفة اللاّهوت لتفسير الطبيعة والفكر والمجتمع والسلوك والأخلاق والطبيعة البشريّة، انتهت إلى النظام الإقطاعي في الاقتصاد، وإلى الدكتاتوريّة والإستبداد في السياسة ومصادرة حقوق الإنسان، واضطهاد المرأة وإقرار الطبقيّة والتمايز بين أفراد النوع الإنساني، كما انتهت إلى تحريم البحث العلمي والاستدلال العقلي، وبذا اُبعِدَ العقل والتجربة عن مجال بناء الفكر والعلم والمجتمع.. كما قام المجتمع والدولة على اُسس خرافيّة مُتخلِّفة.
3 ـ الفكر الإسلامي: وينطلق الفكر الإسلامي في تأسيس الحياة السياسية والمجتمع المدنيّ من مرتكزات معرفية أساسية يمكن تلخيصها بأنّ الفطرة البشرية التي فطر الناس عليها هي فطرة خيِّرة:
(فِطرةُ اللهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عليها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ ذلِكَ الدِّين القَيِّم ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعْلَمون) (الرّوم/ 30)
«كلّ مولود يُولد على الفطرة، حتّى يكون أبواه هما اللّذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه» (7).
وأنّ البشريّة كانت في بداية وجودها على هذه الأرض تعيش حياة الوحدة والوئام وتسيِّرها تلك الفطرة، ويضعف فيها دور العقل والغرائز المؤدِّية إلى الخلاف والصِّراع، وأنّ الذات البشرية تحمل الإستعداد لتسخير الأشياء لصالحها واحتوائها، فنشأ الصراع والخلاف على إمتلاك الأشياء والسيطرة عليها، فبعث الله النبيِّين، وأنزل معهم الكتاب لرفع الخلاف، ودعوة الناس إلى الحق، قال تعالى:
(كانَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النّبيِّين مُبَشِّرينَ ومُنذِرين وأنْزَلَ مَعَهُم الكِتابَ بالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فيما اخْتَلَفُوا فيهِ) (البقرة/ 213)
ويعتبر مجيء النبيين والكتاب، البداية لتأسيس المجتمع السياسي (المدنيّ) الّذي يحكمه القانون وتديره السّلطة.
وهكذا يربط القرآن بين تأسيس المجتمع المدنيّ، وخروج الإنسان من المجتمع الطبيعيّ (الفطريّ)، وبين بعثة الأنبياء، ويؤكِّد أنّ المجتمع السياسي (المدنيّ) تأسّس على يد الأنبياء والرسالات.
وبما أنّ الانسان ترتكز فيه غريزة حبّ الإجتماع، وهو بحاجة إلى الجماعة، لحاجته إلى تبادل المصالح والمنافع..
قال تعالى :
(يا أيّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُم مِن ذَكَر وأُنْثى وَجَعَلْناكُم شُعوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إنّ أكْرَمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم) (الحجرات/13)
(... وَرَفَعْـنا بَعْضَهُم فوقَ بَعْض دَرَجات لِيَتّخِذَ بَعْضَهُم بَعْضاً سُخريّاً (8)) (الزّخرف/32)
بما أنّ الذات البشريّة تحمل في أعماقها هذا التكوين الطبيعي، فإنّه يتجسّد في الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان، ويندفع لتأسيس المجتمع المدني (السياسي).
وبمجموع هذه الاُسس المعرفيّة ينطلق الفكر السياسي الإسلامي.. وتكون مهمّة القانون والدولة هي رفع الخلاف وصيانة الفطرة بنقائها الخيِّر (حمايتها من التلوّث) كما تتم حماية البيئة والطبيعة من التلوّث.
4 ـ الفكر البرجوازي الأوربي: قام الفكر البرجوازي الأوربي على خلاف ما كانت تحمله الكنيسة من أفكار ونظريّات، فقد قام على أساس الفلسفة المادية العلمانية..
وانطلق هذا التيّار الجديد من نظريّة الإلحاد المادِّي، كردّ فعل لتصرّف الكنيسة، وموقفها المعادي للعقل وللعلم التجريبي والإبتكار التقني، وولدت نظريات مادية مُلحِدة لتفسِّر الكون والطّبيعة والمجتمع والسلوك والأخلاق..
فأنكرت دور العقل والإيمان والأخلاق في بناء المجتمع.. ونادت بفصل الدِّين عن الحياة بكل الأبعاد والمجالات، واعتبرته إسطورة وخرافة، وانطلق هذا الفكر من الإباحية في السلوك تحت اسم الحرِّيّة، واعتبرت الأخلاق قيود على السلوك البشريّ صنعتها ظروف البيئة الاجتماعية، كما انطلقت من نكران علميّة البحوث العقلية، وحصر العملية في البحث التجريبي المادِّي.
وفي المجال الاقتصـادي انطلقت من الحرِّيّة المُطلَقـة في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والإدِّخار، وأقام اقتصاده على أساس آلية السوق (نظريّة العرض والطّلب)، ممّا قاد الاقتصاد إلى الرأسمالية الإحتكارية، والإسـتعمار الاقتصادي، وتقسيم البشريّة إلى طبقة صغيرة مُستقلّة مُرفّهة، والطبقة الأكثريّة المسحوقة المُضطهدة التي فرض عليها النظام الرأسمالي الفقر والتخلّف والاضطهاد.
وفي المجال السياسي انطلق هذا الفكر من نظريّة تحليل المجتمع البشري إلى أنّ المجتمع الإنساني مرّ بمرحلتين، وهما: مرحلة المجتمع الطبيعي، ومرحلة المجتمع السياسي. وانّ المجتمع السياسي (المدني) نشأ نتيجة للعقد السياسي بين الحاكم والمحكوم، فحفظ الحقوق الطبيعية للإنسان. ومنطلقها الحرِّيّة، فيكون هدف السلطة هو حماية الحرِّيّات، والسّلطة نتاج العقد السياسي..
وعلى مجموع هذه النظريات قامت السلطة والدولة والمجتمع المدني الأوربي.. وبذا نفهم دور الفكر المعرفي الأوربي، الّذي استفاد كثيراً من الفكر اليوناني، نفهم دوره في بناء المجتمع المدني والسلطة السياسية على أساس العلمانية العلمية، والرأسمالية الاقتصادية، والإباحية السلوكية، والحرِّيّة الشكليّة في السياسة التي يحولها النظام إلى الرأسماليّة التي تُسلِّط الطبقة الرأسمالية في الحكم والسياسة والثقافة.
وعلى أساس هذه النظرية اُقيم العالم الرأسمالي، وعانت البشرية من ويلات الإستعمار والإحتكارية الرأسمالية الجشعة والحروب والكوارث.
لا للمجتمع المدني الغربي ـ نعم للدولة في الإسلام
«الدولة الإسلامية، هي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام، وتستمد منه تشريعاتها»(9).
تُشكِّل الدولة أبرز ظاهرة في الحياة الاجتماعية المعاصرة.. وتتميّز بأنّها مؤسّسة سياسية ذات سلطة مُلزمة.. والدراسة الاستقرائية للنصوص الإسلامية والسيرة العملية توصلنا إلى أنّ الفكر الإسلامي اعتنى عناية خاصّة بمسألة الدولة والسّلطة، واعتبرها ركناً أساسياً من أركان البناء الإسلامي..
والفكر الإسلامي سبق الفكر الأوربي المعاصر بقرون عديدة بتمييزه بين شخصية الدولة وشخصية الحاكم، فقد كانت شخصية الدولة قبل مجيء الإسلام مندكّة بشخصية الحاكم.. ويُعتبر هذا التمييز إنجازاً حضارياً عظيماً في عالَم السياسة والعدالة والدولة واحترام حقوق الإنسان..
لقد فصل الإسلام بين شخصية الإمام أو الخليفة وبين الدولة، واعتبر الإمامة منصباً يملؤه الإمام. كما اعتبر السّلطة أمانة ورعاية عامّة لشؤون الاُمّة يتحمّلها الحاكم..
قال تعالى: (إنّ اللهَ يأمركُم أن تُؤدّوا الاماناتَ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُم بينَ النّاسِ أن تَحْكُمُوا بالعَدْل) (النساء/58)
وورد عن الرسول (ص): «كُلّكُم راع وكُلّكُم مَسؤولٌ عَن رعيّته»(11).
وفي تعريفنا الموجَز بالدولة الإسلامية هذا، يجدر أن نُعرِّف بأبرز المبادئ التي تُحدِّد سياسة الدولة وطبيعتها وعلاقتها بالاُمّة وبالعالم غير الإسلامي، وهذه المبادئ هي:
1ـ تتميّز شـخصيّة الدولة في الإسلام عن شـخصيّة الحاكم: فالدولة لها شخصية قانونية مُستقلّة، والحاكم أمين ومُكلّف بأداء مسؤوليّته تجاه الاُمّة والمبادئ.
2ـ الشورى واحترام رأي الاُمّة: والعنصر الأساس الذي يعتمد عليه الحكم في الإسلام هو عنصر البيعة والشورى.. فالبيعة والشورى تعبير عن أنّ الاُمّة هي صاحبة الحقّ في السّلطة أو في الخلافة العامّة. كما يُعبِّر عنها الفقيه الشهيد محمّد باقر الصّدر بقوله:
«وأمّا خطّ الخلافة الّذي كان الشهيد (12) المعصوم يُمارسه، فما دامت الاُمّة محكومة للطاغوت، ومقصيّة عن حقِّها في الخلافة العامّة، فهذا الخطّ يُمارسه المرجِع (13)، ويندمج الخطّان حينئذ ـ الخلافة والشهادة في شخص المرجِع ـ ، وليس هذا الاندماج متوقِّفاً على العصمة؛ لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحالة لا يتمثّل عمليّاً إلا في نطاق ضيِّق، وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحق في الخلافة العامّة قاصراً عن ممارسة حقِّه، نتيجة لنظام جبّار، فيتولّى المرجِع رعاية هذا الحقّ في الحدود المُمكِنة، ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر، وقيادة الاُمّة لإجتياز هذا القصور، وتسلّم حقّها في الخلافة العامّة، وأمّا إذا حرّرت الاُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تُمارِس القيادة السياسية والاجتماعية في الاُمّة بتطبيق أحكام الله، وعلى أساس الركائز المتقدِّمة للاستخلاف الربّاني، وتُمارِس الاُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيّتين التاليتين:
(والّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِم وَأقامُوا الصّلاةَ وَأمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم ومِمّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُون) (الشورى/38)
(وَالمُؤْمِنونَ وَالمُؤْمِناتُ بَعْضُهُم أوْلِياءُ بَعْض يأمُرونَ بالمَعْروفِ ويَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقيمونَ الصّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إنّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم) (التّوبة/71)
ويتحدّث الإمام عليّ (ع) عن الحق الذي تصنعه البيعة بين الاُمّة والحاكم، حين بويِعَ بالخلافة، فيقول: «إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم عليَّ حقّ، فأمّا حقّكم عليَّ... وأمّا حقِّي عليكم فالوفاء بالبيعة»(14).
ويُثبِّت القرآن مبدأ الشورى في خطابه للرسول الكريم محمّد (ص): (وَشاوِرْهُم في الامْر، فإذا عَزمتَ فتوكّل على الله). ومن هذا النصّ القرآنيّ الكريم يُستفاد مبدأ مشاورة الحاكم للاُمّة واحترام رأيها.. كما ويُثبِّت القرآن مبدأ الشورى بين المسلمين في الحكم وفي الحياة العامّة بقوله:
(والّذينَ اسْـتَجابُوا لربِّهم وأقامُوا الصّلاة وأَمْرُهُم شورى بينهم ...) (الشّورى/38)
وبذا يُسقِط الفكر السياسي الإسلامي الاستبداد السياسي، ويعطي الاُمّة دوراً فعّالاً في الحياة السياسية وتصحيح حياتها الاجتماعية وفق مبادئها ومصالحها العامّة.
3ـ إنّ السلطة أمانة ومسؤولية: ويُثبِّت القرآن مبدأً سياسيّاً هامّاً، وهو أنّ السلطة أمانة بيد الحاكم ورعاية لشؤون الاُمّة، فهو أمين وراع ومسؤول، وليست السلطة تملّكاً للاُمّة ولا تسليطاً عليها.. يتصرّف فيها تصرّف المالك، ويعاملها تعامُل المُتسلِّط.. يوضِّح ذلك قوله تعالى:
(إنّ اللهَ يأمركُم أن تُؤدّوا الاماناتَ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُم بينَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل ) (النساء/58)
وقول الرسول الكريم محمّد (ص): «كُلّكُم راع وكُلّكُم مسؤولٌ عن رعيّته»(15).
ومبدأ المسؤولية المُثبّت في هذا النصّ وفي العشرات من النصوص التي تتحدّث عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر وعن النصيحة والمحاسبة، يعطي الاُمّة حقّ مُساءلة الحاكم عن تقصيره، وسوء إدارته، أو إستغلاله للسلطة، أو إنحرافه عن المبادئ كما هو مسؤول أمام الله سبحانه يوم يقوم الاشهاد.
4ـ الدولة الإسلامية دولة قانونيّة: قبل الحديث عن قانونيّة الدولة الإسلامية، ينبغي أن نُوضِّح معنى الدولة القانونيّة.. فمعنى الدولة القانونية بإيجاز هو أنّ الدولة بما هي شخصيّة قانونيّة، فانّها تخضع بكل ما فيها من سياسة وإدارة وسلطة للقانون، يحكم سلوكها، ويُنظِّم بنيتها، ويُقاضيها حين التقصير، كما يحكم سـلوك الأفراد ويُقاضيهم حين التقصير..
فالرسالة الإسلامية ثبّتت مبدأ ولاية الأمر (السلطة)، وأعطت وليّ الأمر صلاحيات الولاية، وبيّنت ما له وما عليه من الحقوق والواجبات تجاه الاُمّة..
والتحليل العلمي لمعنى الولاية في الإسلام يُوضِّح لنا أنّ الولاية في الإسلام هي ولاية تنفيذيّة، أي أنّ الشخص المُكلّف بتنفيذ أحكام الشريعة وقيمها ودعوتها وحفظ مصالحها، يحتاج في كثير من الأحيان إلى صلاحيّات الالزام (الولاية). لذا أُعطِيَ مَن يلي اُمور المسلمين هذه الولاية (صلاحية الالزام)؛ ليتمكّن من أداء مهامه. لذا فهي ولاية تسلّط أو إمتلاك، ولا ولاية من نوع ولاية الأب على أبنائه الصِّغار. وحتى ولاية الأب في الشريعة الإسلامية فانّها منوطة بحُسن تصرّف الأب وحرصه على مصلحة الأبناء، ولذا يفقد ولايته الفعليّة بفقده الرُّشد وتصرّفه تصرّفاً ضرريّاً بأبنائه. ويُوضِّح القرآن قانونيّة الدولة وسيادة القانون في خطابه للرسول (ص) المُمثِّل للولاية والسلطة الشرعية، يوضِّح ذلك بقوله:
(إن أتّبِعُ إلا ما يُوحى إليَّ)  (يونس/15)
(ثُمّ جَعَلْناكَ على شريعة مِنَ الامْرِ فاتّبِعْها ولا تَتَّبِع أهواءَ الّذينَ لا يَعْلَمُون) (الجاثية/18)
(... قُل ما يكون لي أن أُبدِّلهُ مِن تِلقاءِ نَفْسي... ) (يونس/ 15)
(... وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُم...) (الشورى/ 15)
وهكذا يُوضِّح القرآن أنّ الرسول (ص) مُنفِّذ ومُتّبع للشريعة والقانون والأوامر الإلهية، وليس فوقهما.. ومن ذلك نفهم أنّ الدولة الإسلامية هي دولة خاضعة للقانون وليست فوق القانون، بل هي مُنفِّذة للقانون وقائمة على حماية المصالح ودرء المفاسد.
5ـ استقلال القضاء:
(إنّ اللهَ يأمُرُكُم أن تُؤدّوا الاماناتَ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُم بَينَ الناسِ أن تَحْكُموا بالعَدْل...) (النساء/ 58)
ومن المزايا الأساسية في الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي هو حُرمة القضاء وقُدسيّته واستقلاله وحمايته من تأثير أي سلطة..
ووجود القضاء المستقلّ الذي تُعاطي الأفراد والسلطة على حدٍّ سواء، وفق معايير الحقّ والعدل، لهو من أبرز مظاهر الدولة الحضارية والمجتمع المتحضِّر..
فالقضاء المُستقلّ وشمول سلطته التي لا يُستثنى منها أحد مهما كان موقعه في الدولة والمجتمع، لهو الحصانة الكُبرى لحفظ الأمن وحماية الحقوق، وردع التعسّف السلطوي ضدّ الأفراد والجماعات والهيئات.
وكم هو عظيم قول الرسول الكريم محمّد (ص) : «لا تُقدّس اُمّة لا يُؤخَذُ فيها للضّعيف من القوي حقّه غير متعتع».
ويؤكِّد القرآن حُرمة التحاكم إلى الطاغوت، وهو الحاكم الظالم الذي لا يقضي بالحق ولا يعمل بأحكام الشريعة العادلة.. جاء ذلك في قوله تعالى:
(ألَم تَرَ إلى الّذينَ يَزْعمونَ أ نّهُم آمَنوا بما أُنزِلَ إلَيْكَ يُريدونَ أن يَتَحاكَمونَ إلى الطّاغوتِ وقد أُمِروا أن يَكْفُروا بِه) (النساء/60)
إنّ هذا التعريف الموجَز بالدولة الإسلامية وبالمجتمع المدنيّ القائم على هدي القيم الإسلامية يُوضِّح لنا سموّ الفكر الإسلامي وقوّته الفائقة على قيادة البشريّة في مراحلها المتتالية.
وفيجدر بنا نحن المسلمين أن نوجِّه الدعوة إلى العالَم لكي يتّخذ من الإسلام ديناً ودولةً وحضارة. فليس أمام البشريّة من مُنقِذ غير الإسلام، وستكتشف أجيال البشريّة القادمة عظمة هذا الدِّين الإلهيّ عندما يسود العلم والعقل. وعندها ينطبق قول الله الحق:
(وَلَقَد كَتَبْنا في الزّبورِ مِن بعد الذِّكرِ أنّ الارْضَ يَرِثُها عِبادي الصّالِحون) (الانبياء/105)

الخلاصة
إنّ مصطلح المجتمع المدني والدعوة إلى إقامة نشأ في أوروبا في القرن السابع عشر كرد فعل لما كانت تقوم به السلطة الكنيسة والتي كانت تحكم ضمن مفهوم الحق الإلهي «الثيوقراطي»، وقد وُظف هذا المصطلح بشكل أخرجه عن الصورة التي سعى إليها أصحابها ـ أي أصحاب نظرية المجتمع المدني ـ إنّ الحديث من المجتمع المدني قد عاد إلى التنظير مجدداً بعد إختفاءه مع قيام الحضارة الأوربية ودعا إليه الكثير من أصحاب المذاهب المادية والعلمية المعاصرة وحتى بعض الإسلاميين الذين لم يستوعبوا الإسلام جيداً على أنه دين ودولة لها أركانها وشروطها التي تخالف فيه الصورة التي تشكل عليها بنيان الفكرة التي انطلق منها هذا المفهوم المعاصر وقد طُرح خلال البحث صورة موجزة واضحة عن تركيبة المجتمع والدولة في الإسلام ليتبين أنّ هناك صورة لهذا المجتمع المزعوم يتبناها الإسلام ولكن وفقاً لما يريد.

الهوامش:
(1) د. كريم أبو حلاوة/ مجلّة عالم الفكـر/ العدد الثالث ـ يناير/ مارس/ 1999م، ص12.
(2) المصدر السّابق/ ص 12.
(3) د. أماني قنديل/ المصدر السّابق/ ص 99.
(4) جون لـوك/ في الحكم المـدني/ ترجمة ماجد فخـري، نقـلاً عن كمال عبد اللّطيف/ المجلّة العربية للعلوم الإنسانية/ العدد 55/1996م/ص 66.
(5) يُراجع المصدر السّابق/ ص 72.
(6) المصدر السّابق.
(7) الطبرسي/ مجمع البيان / تفسير سورة الرّوم الآية (30).
(8) يستفيد بعضهم من طاقة البعض الاخر.
(01) تقسم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الدولة في الإسلام إلى قسمين: قسم يُقام على يد الإمام المعصوم بعد الرسول (ص)، وقسم يُقام في عصر الغيبة ـ عدم وجود إمام ظاهر ـ . وتعريفنا هذا هو عن الدولة في القسم الثاني.
(11) أحمد بن حنبل/ مسند أحمد/ ج 2/ ص 54.
(12) يقصد بالشهيد : الرّقيب العقائدي الذي يتولّى دور الشهادة على الاُمّة.
(13) المرجع: الفقيه.
(14) نهج البلاغة/ تنظيم د. صبحي الصّالح/ ص 79.
(15) مسند أحمد بن حنبل/ ج 2/ ص 54.
مصطلح
المجتمع المدني: هو المجتمع الذي يقوم على المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة.

ارسال التعليق

Top