• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ذكر الله تعالى في ساحته المقدسة

ذكر الله تعالى في ساحته المقدسة

عن الإمام الباقر (ع):

"مكتوب في التوراة التي لم تغيَّرْ أن موسى (ع) سأل ربه فقال: يا ربِّ، أقريب أنت مني فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلا سترك. فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوءٍ ذكرتهم فدفعت عنهم بهم".

 

إحاطة الله تعالى:

يذكر العلامة المحقق المجلسي رضوان الله تعالى عليه في شرح الحديث السابق عن الباقر (ع) أنّ السبب بالسؤال عن آداب الدعاء هو أنني إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كلِّ قريب وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك، فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟

ومن المحتمل أنّ النبي موسى (ع) في الحديث المذكور يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى فيقول:

"إلهي أنت منزّهٌ من الإتِّصاف بالقرب والبعد، فأنا متردِّدٌ لا أجد دعاءً يليق بعظمتك وجلالك، فاسمح لي أن أناديك وعلِّمني كيفيّة ندائك واهدني إلى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال".

والسبب في التردُّد أنّ الله تعالى له إحاطة وقيمومة، وسعة وجود تعم جميع دائرة الوجود، وساحته المقدسة تتنزَّهُ عن القرب والبعد الحسيان والمعنويان، لأنّ ذلك يستلزم نوعاً من التحديد والتشبيه، والحق المتعالي منزه عن ذلك.

وما ورد في بعض الآيات الشريفة من الكتاب الإلهي الكريم من توصيف الحقّ المتعالي بالقرب هو من باب المجاز والإستعارة.

كقوله تعالى:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة/ 186).

وقوله عزّ من قائل:

(نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16).

فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبب العمى في العالم الآخر، يكون التذكر للآيات والأسماء والصفات وتذكر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حدة في البصيرة وإزاحة للحجب بقدر قوة التذكر ونورانيته.

- ومن خصائص الذكر أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يرفع لكرامتهم العذاب عن عباده، فما دام الذاكرون أحياء بين العباد لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس.

 

وللتذكر درجات ثلاث:

أ) تذكر آيات الحقّ سبحانه، حتى يصير هذا التذكر صفة راسخة في الإنسان، فيرى من خلال الآيات جمال الحقِّ.

ب) تذكر الأسماء والصفات، الذي يبعث على مشاهدة الحقِّ في تجليات أسمائه وصفاته.

ج) تذكر ذات الله عزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصفات، وهو يوجب رفع الحجب بأسرها.

ويعتبر هذا التفسير واحداً من التوجيهات والتفسيرات للفتوحات الثلاثة التي هي قرة عين العرفاء والأولياء وهي: الفتح القريب، الفتح المبين، الفتح المطلق، وهو الذي يسمى فتح الفتوح.

 

الفرق بين مقام التفكّر والتذكّر:

التفكّر هو مرحلة البحث عن المحبوب وطلبه، وأما التذكّر فهو الوصول إلى المطلوب والتعرف على الحقِّ عزّ جلّ، فمادام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوباً عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبه يتحرر من عناء البحث والتفتيش، وبذلك يتضح أنّ التذكر هو من نتائج التفكر.

كلّما كان التفكّر قوياً وكاملاً، ستكون نتيجته وهي التذكر أقوى وأكمل، حتى يوصل التفكّر الإنسان إلى التذكّر التام للمعبود، هذا النوع من التفكّر لا تقاس فضيلته بأي عمل آخر.

صحيح أنّ العبادة أيضاً توصل إلى التذكر، ولكن التفكر يختصر الطريق، ففي الحديث الشريف أنّ تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة أو ستين أو حتى سبعين عاما. فلعل تفكّر ساعة واحدة يفتح على الإنسان أبواباً من المعارف لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو إنّ في تفكّر واحدة تذكّر للإنسان بالمبدأ سبحانه ما لا يحصل خلال فترة سنين عديدة من العناء والجهد.

 

التذكّر ضروري لجميع الطبقات:

إنّ تذكر الحبيب سبحانه، والتفكر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافة طبقات الناس.

أما أولياء الله تعالى الكاملون، فإن تذكر الحبيب سبحانه غاية آمالهم، وفي ظل التذكر يبلغون جمال هذا الحبيب، هنيئاً لهم.

وأما عموم الناس والمتوسطون منهم، فهو أفضل مصلح للأخلاق والسلوك وللظاهر والباطن.

لو عاش الإنسان مع الحقِّ سبحانه في جميع الأحوال، لأحجم عن الأمور التي تسخطه سبحانه، وردع نفسه عن الطغيان. إنّ المشاكل والمصائب التي تدفعنا إليها النفس الأمارة والشيطان الرجيم قد نشأت بسبب الغفلة عن ذكر الله وعذابه وعقابه.

إنّ الغفلة التي تضاعف كدورة القلب وتمكن النفس والشيطان من التحكم في الإنسان وتسبب زيادة المفاسد على مرّ الأيام. والتذكر للحقِّ جلّ شأنه يبعث على صفاء النفس ونقائها، ويحرر الإنسان من أغلال الأسر ويخرج حب الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيئات من القلب، ويجعل الهموم هماً واحداً، والقلب نظيفاً طاهراً جاهزاً لاستقبال صاحبه وهو الحقّ تعالى.

 

الذكر التام المحيط بكلِّ أطراف مملكة الجسم:

إنّ ذكر الحقّ تعالى والتذكر لذاته المقدس من صفات القلب، فالقلب هو الذي يتذكر، فإذا تذكر ترتبت عليه جميع الآثار المذكورة للذكر.

ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي الذكر اللساني أيضاً. وأفضل وأكمل مراتب الذكر كافة هو الذكر الساري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه، فتكون الصورة الباطنية للقلب والروح صورة تذكر المحبوب، وتتفتح أعضاء الإنسان وجوارحه على الحقِّ تعالى. ولو أنّ القلب انفتح حقاً أمام الذكر، لجرى حكم الذكر في كلِّ الظاهر والباطن، ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كلّ القوى والجوارح مع ذكر الحقّ، ولم تقم تلك القوى الظاهرية والباطنية بأي فعل يخالف الوظائف الشرعية المقررة، فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحقّ، وتنفذ "بسم الله مجريها ومرسيها" في جميع أطراف جسم الإنسان ليحيط بقواه كلّها الظاهرية والباطنية.

وكلما حصل انخفاض في هذا المستوى الرفيع، وقلّ نفوذ الذكر، انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثر نقصان كلّ من الظاهر والباطن في الآخر.

 

ذكر الله باللسان:

إنّ ظاهر الإنسان وباطنه وكلّ أعضائه وقواه مترابطة ببعضها البعض، ومن هنا يُعلم أنّ ذكر الحقّ باللسان وإن كان قالباً لا روح فيه هو أمر نافع ومجدٍ أيضاً، لأنّه:

أوّلاً: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره.

ثانياً: يمكن أن يصير الذكر باللسان سبباً لتفتح لسان القلب على الذكر أيضاً بعد فترة من المواظبة والاستمرار عليه بشروطه. فكما أنّ المعلم يكرر الكلمة أمام الطفل حتى ينفتح لسانه عليها ويرددها ثمّ إذا نطق الطفل صار المعلم يكرر معه فيزول عنه التعب وكأنّ مدداً يصله من الطفل، كذلك الذاكر يجب أن يعلِّمَ قلبه على الذكر، فإذا انفتح القلب على الذكر صار لسان الفم يتبع القلب، وسيزول عناء تكرار الذكر بعد أن استمد اللسان من القلب أو من الغيب.

 

المصدر: كتاب الأخلاق (من الأربعون حديثاً)

ارسال التعليق

Top