• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شمولية إفادة الأخلاق للفقه

د. طه عبدالرحمن

شمولية إفادة الأخلاق للفقه

◄يتعيّن علينا أن نوضّح كيف أنّ علم الأخلاق يفيد الحكم الشرعي من جهاته الثلاث: المقصود والقصد والمقصد.

 - 1.3.2 فائدة الأخلاق للمقصود الشرعي: قد أجمع الأصوليون على استناد المقصود الشرعي إلى الهيئة الخلقية التي فطر عليها الإنسان، فيكون حينئذ كلّ حكم شرعي مبنياً في أصله على هذه الفطرة؛ وأنّ كلّ ما انبنى على الفطرة لابدّ أن يكون معنى عملياً ليس تعلّقه بظاهر النص أولى من تعلّقه بإشارته، ولا تعلّقه بأوّل النظر أولى من تعلّقه بإعمال النظر، كما أنّ المعاني العملية هي بمثابة القواعد السلوكية التي تقررها الأحكام الشرعية. ومتى سلمنا أنّ كلّ حكم شرعي مبني على الفطرة هو بمنزلة قاعدة تقوم السلوك، لزم أن يكون كلّ حكم شرعي ناهضاً بتقويم الأخلاق. وقد نضيف إلى هذه النتيجة الحقيقتين المسلمتين:

إحداهما، أنّ القاعدة الشرعية أكثر تسديداً للسلوك من غيرها، أو قل أوفق منها، وذلك بمقتضى ثبوت بعدها عن التجريد النظري.

والثانية، أنّ القاعدة الشرعية أكثر تغلغلاً في العمل من غيرها، أو قل أرسخ منها، وذلك بموجب إقرارها بمبدأ المراتب في كلّ عمل وفتح الباب للزيادة فيها.

يلزم عن ذلك كلّه أنّ كلّ حكم شرعي يسنّ أكثر القواعد تسديداً للسلوك وأكثرها تغلغلاً في العمل.

- 2.3.2 إفادة الأخلاق للقصد الشرعي: اتفق الأصوليون على أنّ العمل بالحكم الشرعي يستوجب استحضار قصد التقرّب به، حتى يتميز عن غيره من أفعال العادات، وتتميز مرتبته عن مرتبة غيره من أعمال العبادات. وقد بيّنا كيف أنّ النية هي توجيه للفعل لا يصلح حتى يتخلص مما قد يلابسه من التوجهات غير التعبدية، بمعنى أنّ النية الصالحة هي النية الخالصة، علماً بأنّ النية والإخلاص معنيان لا ينازع أحد في صفتهما الأخلاقية. ومتى صح أنّ العمل بالحكم الشرعي يقتضي تحصيل نية التقرّب مع الاجتهاد في التحقق بالإخلاص، وأنّ النية والإخلاص من صميم الأخلاق، لزم أن يكون الحكم الشرعي موقوفاً على القيام بشرائطه الأخلاقية. وقد نضيف إلى هذه النتيجة الأولى حقيقتين أخريين مسلّم بهما:

إحداهما: أنّ النية والإخلاص أسبق من غيرهما من المعاني الأخلاقية، إذ ينزلان منزلة الشرطين اللذين إذا فقدا فقد المشروط، حتى لا عمل إلّا مع الإخلاص، ولا عمل إلّا مع النية، مصداقاً للحديث الشريف: "إنّما الأعمال بالنيات".

والثانية، أنّ النية والإخلاص أدق المعاني الأخلاقية، إذ يخفى أصلهما عن النظر، ويمتنع محلهما عن القياس، حتى إنّه لولا شدة أثرهما في السلوك، لكان المرء أميل إلى القضاء بعدمهما منه بوجودهما.

وعلى أساس هذه الإضافة، يكون كلّ حكم شرعي مقتضياً أسبق وأدق الشرائط الأخلاقية.

- 3.3.2 إفادة الأخلاق للمقصد الشرعي: أطبق الأصوليون على أنّه لا حكم شرعي إلّا وهو منوط بمصلحة مخصوصة؛ وقد أثبتنا أنّ هذه المصالح هي بمثابة العلل الغائية للأحكام، على خلاف الأوصاف التي هي بمنزلة العلل السببية لها، مع العلم بأنّ العلل الغائية عبارة عن قيم أخلاقية. ومتى سلّمنا أنّ كلّ حكم شرعي معلّق بالمصلحة، وأنّ المصلحة قيمة أخلاقية، وجب أن يكون كلّ حكم شرعي معلقاً بالقيمة الأخلاقية، ولنضف، الآن، إلى هذه النتيجة الأولى، حقيقتين ثابتتين أخريين:

إحدهما، أنّ الحكم الشرعي أقوم من غيره أخلاقاً بموجب نزول هذا الحكم على مقتضى الفطرة الإنسانية.

والثانية، أنّ الحكم الشرعي أسمى من غيره قيماً أخلاقياً بموجب تفضيل الشرع للقيم الروحية.

فينبني على هاتين الحقيقتين المضافتين إلى النتيجة السابقة، أنّ كلّ حكم شرعي يحمل أقوم وأسمى القيم الأخلاقية.

وهكذا تجتمع لنا الحقائق الثلاث الآتية:

أ - أنّ الحكم الشرعي باعتبار المقصود يسنّ أوفق وأرسخ القواعد الأخلاقية.

ب - أنّ الحكم الشرعي باعتبار القصد يقتضي أسبق وأدق الشرائط الأخلاقية.

ج - أنّ الحكم الشرعي باعتبار المقصد يحمل أقوم وأسمى القيم الأخلاقية.

فيتضح حينئذ أنّ تداخل علم الأخلاق مع أصول الفقه يفيد الأحكام الفقهية كلّها من وجهين جوهريين:

أحدهما، اكتمال الأحكام الشرعية: تصير هذه الأحكام، بفض اندماجها مع الأخلاق، مشتملة على جميع الأصول السلوكية الضرورية والكافية، وهي ثلاثة: أصل القواعد وأصل الشرائط وأصل القيم، فما من حكم إلّا وينبني على قاعدة وشرط وقيمة.

والثاني، كمال الأحكام الشرعية: تصير هذه الأحكام، لا مشتملة على هذه الأصول السلوكية الثلاثة فحسب، بل بالغة النهاية في كمال هذه الأصول، حتى لا قاعدة فوق قواعدها ولا شرط فوق شرائطها ولا قيمة فوق قيمها.

وبهذا، نكون قد دلّلنا على الركن الثاني من مُدَّعانا، وهو شمولية إفادة علم الأخلاق للفقه، فتكون كلّ الفروع الفقهية مبنية على مبادىء علم الأخلاق المتداخل مع علم الأصول تداخلاً داخلياً.►

 

المصدر: كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث                    

ارسال التعليق

Top