◄من دروس عاشوراء:
منذ أربعة عشر قرناً من الزمن تقريباً، ونحن نحيا هذه الذكرى في حياتنا، حتى تحوَّلت إلى عادةٍ متأصلة متجذّرة في وجداننا الديني؛ ينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير. وما زالت تتنامى وتتَّسع وتمتد في كلّ ساحة يتحرّك فيها الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام). وربّما نجدها تتمثَّل حتى في بعض الساحات التي لا تلتزم خطّ أهل البيت (عليهم السلام) مذهباً. على أنّ الطابع الذي أخذته هذه الذكرى في تقاليدنا وفي عاداتنا هو طابع الحزن الذي تسيل معه الدموع، وربّما تحترق فيه القلوب.
الحزن القاتل في الحياة:
وعندما يعيش الإنسان الحزن على قضية مرّت عليها القرون المتقادمة، يحتاج إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته. فما معنى أن تبكي على مأساة حصلت في التاريخ لأناس تحبُّهم من خلال عقيدتك وإيمانك وولائك، وأنت تعيش في أكثر من موقع من مواقع حياتك آلاماً قد تكون أقسى من آلام كربلاء وفظائعها، وقد تكون وحشية ما يلقاه الناس الذين ترتبط بهم برابط العقيدة، والولاء، والإنسانية في الوقت الحاضر أشد فظاعة فتشعر أنك تعيش اللامبالاة أمام حركة المأساة في الحاضر. إنّ ذلك يعني أنّ حزنك على الإمام الحسين (ع) ليس حزناً إنسانياً رسالياً، ولكنّه حزن انفعالي جامد لا يتحرك ليثير فيك حزناً مماثلاً في كلِّ صورة شبيهة بصورة كربلاء. لذلك لابدّ لنا أن نفسِّر هذا الحزن لأنفسنا، حتى نوحي لها بأنّ هذا الحزن ليس حزناً ذاتياً، بل هو حزن ينفتح على كلِّ مواقع المأساة في الحياة عندما تتحرَّك المأساة في ساحاتنا من خلال الذين يضطهدون الناس على أساس الإسلام، ويقتلون الناس على أساس التزامهم بالحرية التي يُقَدّمها الإسلام، أو من خلال التزامهم بالعدالة هي سر حركة الإسلام.
نحن نحب الإمام الحسين (ع)؛ نحبّه ونحبّ أَخاه، ونحب أُمَّه، وأباه، وجدّه، والأئمة المعصومين من ذريته، وننتظر حفيده لنكون من جنوده، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً... نحبه لأنّه أحبّ الله، ونحبّ آل بيته جميعاً لأنّهم أحبّوا الله. نحبه ونحبهم لأنّهم حملوا رسالة الله، ولأنّهم جاهدوا في سبيل الله، وأعطوا كلّ شيء يملكونه لله؛ من هنا فحبنا لهم ليس ذاتياً، وليس حبَّ قرابة، أو حب صداقة، ولكنّه حب يفرضه علينا انتماؤنا إلى القاعدة التي انطلق منها الإمام الحسين (ع) وتحرك في اتجاهها.
لقد أراد الإمام الحسين (ع) الإصلاح في الأُمّة، لا الإصلاح في العائلة أو القرية. الإصلاح على مستوى الأُمّة كلّها لا على مستوى الوطن الذي يتأطّر فيه الإنسان. لقد انطلق (ع) ليقول لنا: فكروا في قضايا أمتكم من خلال الإسلام الذي حمله جدّي رسول الله (ص)، وأصلحوا ما فسد فيها. فكّروا في قضايا الأُمّة حتى يكون كلّ واحد منكم مسلماً يحمل همَّ الإسلام كلّه، وهَمَّ المسلمين كلّهم. لا تعيشوا عصبية الذات أو العائلة أو الوطن أو عصبية القوميّة. عيشوا رساليّة الإسلام في كلِّ المساحات الإنسانية التي للإسلام فيها قضية، وللرسالة فيها خطّ، وللإنسان فيها انفتاح.
وعندما نفكِّر في حجم الأُمّة، سينطلق تفكيرنا في قضايانا الصغيرة على أساس مقارنتها بالقضايا الكبرى. فإذا ما أردنا أن نتحدّث عن قضية الحريّة – على سبيل المثال – فيجب أن نثيرها على أساس علاقتها بقضية الحريّة في العالم الإسلامي والعالم بأسره، بحيث لا نجعل خطّ الحرية حركةً قد نَربح فيها شيئاً ويخسر العالم الإسلامي من خلالها أشياء. بمعنى أنّ هناك ضرورة للتكامل مع العالم الإسلامي في هذا المجال، حتى نفهم دورنا تماماً كما قال رسول الله (ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى" تماماً كما هو كلّ عضو في جسدك لا يطلب الراحة والشفاء لنفسه إلا من خلال راحة بقية الأعضاء. فلا يمكن للإنسان أن يعالج يده إذا كان المرض يدب في كلِّ أجزاء جسمه، كما لا يمكن أن يُعالج يده بدواءٍ ينقلب إلى داءٍ في جميع أجزاء جسمه. بل لابدّ – حين أخْذ الدواء – من التحقّق من أنّ هذا الدواء لن تنتج عنه مضاعفاتٍ سلبيةً على الأجزاء الأخرى في جسد الإنسان؛ ولهذا قد يَذهب شخص ما إلى بعض الأطباء، فيقولون له: إنّ هذا الدواء يفيد في معالجة المرض، ولكنه يضر المعدة، أو القلب، أو جهازاً عصبياً، أو ما إلى ذلك... فلابدّ من البحث عن دواءٍ يشفي المرض ولا يخلق أمراضاً أخرى لبقية الجسد. هكذا عندما نريد أن نفكِّر في قضايا الأُمّة؛ فإنّ علينا أن نفكِّر بحلّ المشكلة في بلدنا أو في إقليمنا أو في أي موقع يتسع ويضيق من مواقعنا، بحيث لا ينعكس سلباً على قضايا الأُمّة. وهذا ما نواجهه في المرحلة الحاضرة في أكثر من قضية من قضايانا العامة التي تتصل بواقعنا كلّه.
قد يستيقظ الألم عند الشروع بعلاجه، لكنّه سوف يبرأ بعد ذلك. لهذا فإنّ ما نودّ قوله في مرحلتنا الحاضرة، ضرورة إستيحاء كلمة الإمام الحسين (ع) "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، إنّ الإمام الحسين (ع) كان ينظر في ثورته إلى الساحة الإسلامية الواسعة، وإلى الخط الإسلامي الممتد في حياة المسلمين جميعاً. لهذا فإنّ معارضته ليزيد لم يعقها كون يزيد خليفةً يعيش في الشام. الإمام الحسين (ع) كان يعيش في الحجاز وبالتالي فإن قاده أمر لا يخصه، باعتبار أنّه لا دخل لأهل الحجاز بأهل الشام وعلى كلِّ فريق تدبير أمره ومشاكله، أليس هذا هو المنطق الذي نعيشه الآن في أكثر من بلد إسلامي، حيث يعتبر كلّ بلد أنّ له قضاياه ومشاكله التي يريد حلّها ولو على حساب قضايا الأُمّة؟
الإمام الحسين (ع) لم ينظر إلى القضية من هذا الجانب، ولم ينظر إلى يزيد باعتباره مجرد والٍ على الحجاز يمكن أن يُعزَل فَتُحَلّ المشكلة، ولا باعتباره والياً على الشام؛ إنما نظر إلى يزيد كونه (خليفة المسلمين)، فسلوكه ينعكس سلبياً على السلوك الإسلامي كلَّه، وطريقته في إدارة المسؤولية تنعكس سلباً على كلِّ مواقع المسؤولية في العالم الإسلامي. وعلى أساس ذلك، فقد اعتبر الإمامُ الحسين (ع) مشكلة يزيد مشكلةً تمسُّ الأُمّة كلّها، لا فريقاً معيّناً، لأنّه في موقع حاكم واسع الصلاحيات، في الوقت الذي لا يملك فيه أيّة مؤهلاتٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ وروحيةٍ تسوّغ له أن يكون في هذا الموقع.
وعلى هذا الأساس وجد الإمامُ الحسين (ع) أنّ عليه أن يطلق الصوتَ، ولو ليسمعه بعض الناس، فالأصوات كانت قد خفت، وأصبح هناك أمر واقع، كلٌّ يقول للآخر: ماذا نفعل وقوة الدولة أقوى من قوة الأفراد؟! وكأنَّ عليهم الاستسلام للدولة. فهذا يخوِّف صاحبه بانقطاع راتبه – إذا ما قام بعمل ضد الحاكم – وذاك يخوّف صاحبه بتهديم بيته. وبذلك استطاع الحكم أن يستقطب الساحة كلَّها من المؤيدين له، ومن المعارضين الساكتين، ومن الحيادين الذين "يجلسون على التل"... لهذا فالمسألة كانت بحاجة لصوتٍ ينطلق، يحرِّك ويدوّي، ليربك الساحةَ، وليخلق فيها ذهنيّة جديدةً، ليشجِّع الذين لا يملكون أيّة إمكانياتٍ لحركة شجاعتهم، لأنّهم لا يرون أحداً يتحدَّث أو يتكلّم أو يثير المسألة.
إنّ حركة الإمام الحسين لم تكن حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الواقع، ولكنها كانت حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الذهنية الإسلامية التي يريد أن يطلقها باتجاه قضايا الحرية والعدالة، والمنهج الإسلامي القويم. لهذا نبههم إلى أنّهم أمّة محمّد (ص)، وأنّ هناك فساداً في الأُمّة، وأنّه (ع) انطلق ليُصلح، وأنّ عليهم أن يتبعوه... وهكذا طرح مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس أنّه يمثل الرقابة الاجتماعية التي يتحوّل فيها كلّ مسلم إلى "خفير"، فكلّ مواطن في الإسلام هو حارسٌ للقيم وللنهج الشرعي في حياة الناس.
أجل، إنّ كل مسلم هو حارسٌ للقضايا الكبرى التي يمكن أني تحرَّك ضدّها هذا الفريق أو ذاك. وهذا ما يُسمّى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي دعا الله سبحانه وتعالى الناسَ إليه، ليهيّئوا من أنفسهم جماعةً قويّةً بحجم الحاجة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104)، على أساس أنّ سلامة المجتمع هي في الدعوة إلى المعروف ومواجهة المنكر الذي يمكن أن يساهم في إسقاط حياة الناس فكرياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً.
وعندما طرح الإمام الحسين (ع) هذه المسألة، طرحها بفرض أن تفتح عقول الناس على هذه العناوين، وأن تفتح أرواحهم الناس على تحسّس مثل هذه الأمور. ولم يكن في أسلوبه يتحرّك من موقع العنف؛ فقد خاطب الناس قائلاً: "من قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقِّ" كأنّه يريد أن يقول للناس: فكروا في كلماتي وفي طروحاتي ومواقفي؛ ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخط الذي أطرحه عليكم، وفي الواقع الذي أنبهكم إلى كلِّ ثغراته وسلبياته. ومن رد عليّ ولم يقبلني، فإنّما يكون رافضاً الحقّ الذي جئتُ به، وانطلقت فيه صابراً حتى يأتي الوقت الذي ينفتح الناس فيه على الحقِّ دون أن أتراجع أو أن أسقط أو أتعقد، ولكنني أتابع قول كلمة الحقّ الآن وبعد الآن. ولذا فعندما جاءت الجيوش لتقتل الإمام الحسين ولتحاربه، كان يقف في كلِّ يوم ليخطب فيهم ليُسمعهم كلمة الحقّ حتى يُخرجهم من عصبياتهم، فيجعلهم يعيشون التوافق والانسجام بين الفكر والممارسة؛ لأنّه (ع) وجدهم كما وصفهم الفرزدق: "قلوبهم معه وسيوفهم عليه" فحاول أن يجعل سيوفهم في اتجاه ميل قلوبهم، وحاول أن يوفق بين حركتهم في الواقع، وبين حركتهم في العقل وفي الفكر. لأنّ هذه هي مشكلة أغلب الناس الذين يحبون الله، ولكنهم يحبون الشيطان معه. فعندما تنفتح مصالحهم على الخط الآخر، يحتفظون بمحبّتهم كعاطفةٍ في قلوبهم، ويتحرّكون في خطواتهم لمحاربة الله ورسوله عملياً على أساس أنّ مصالحهم تتجه في ذاك الاتجاه.
لقد كان الإمام الحسين (ع) يعمل على فتح القلوب، في ما كانت قيادات يزيد تعمل على إغلاقها، ولذلك رأينا شمر بن ذي الجوشن يقف أمام الحسين (ع) وقد فرغ الحسين (ع) من خطابه ليقول له: "ما ندري ما تقول، ولكن أنزل على حكم بني عمك" بمعنى أننا لسنا مستعدين أن نسمع أو نفكر بما تقول، لأنّ مسألتنا محسومةٌ؛ فهي ليست مسألة قناعةٍ، ولكنها مسألة منفعةٍ. وليست القضية أن تكون مسيرتنا حقاً أو باطلاً، خيراً أو شراً... بل القضية هي أن نقبض في مسيرتنا هذا المال أو ذاك، أو نحصل على هذا الموقع أو ذلك.
ولذلك فلابدّ من دراسة قضايانا كلّها لا على مستوى الحاضر، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وهو ما نستوحيه من كلمة الإمام الحسين (ع) "من رد على هذا أصبر". فلنقل الكلمة وليرفضها العالم، فلابدّ أن يأتي وقت يمكن للناس أن يواجهوا فيه قضاياهم من موقع متقدّم. لأنّ الحاضر إذا ضاق عن قضاياكم، فإنّ المستقبل يمكن أن يفتح لكم أكثر من ثغرة.
فلابدّ إذن من قول كلمة الحق دائماً مهما كانت الصعوبات، فالحقّ كالجنين تماماً؛ فكما أنّ الجنين لن يستطيع بلوغ تكامله ونموه إلا في الشهر التاسع، كذلك الحقّ قد يحتاج إلى سنوات، وقد يحتاج لأجيال. المسألة، كلّ المسألة، هي أن نعمل على أساس أن لا يفقد الحقّ نموّه في فكرنا وروحنا ووحدتنا وقوّتنا وفي كلِّ صرخات الدَعْوة إلى الله، والدعوة إلى الحقّ.
وإذا ما أردنا عاشوراء إسلامية متحركة، فيجب الانطلاق على أساس أن تبقى عاشوراء لله ولرسول الله (ص) وللإسلام، وأن تَبْقى عاشوراء في كلِّ الأجيال صرخة الحرية والعدالة، عندما ينطلق الذين يستعبدون الناس ليفرضوا عليهم العبودية، أو الذين يظلمون الناس ليفرضوا عليهم الظلم. فإنّ هذا هو طريق عاشوراء.
المصدر: كتاب من وحي عاشوراء
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق