المخيخ عضو صغير نسبياً، لا يزيد وزنه عن 145 غراماً، وهو شديد التلافيف والتضاريس، ويستقر في تجويف القحف تحت الدماغ. وهو على الرغم من حجمه الصغير، إلا أنّه يحتوي على 30 مليون مركز عصبي. لقد جعلت منه هذه المراكز الدقيقة عضواً من أسمى وأنشط وأنبل أعضاء الجسم البشري.
يبرز دور المخيخ من خلال علاقته الوثيقة بالقشرة الدماغية وبمراكزها العصبية، الحركية منها والحسّية، وبعلاقته الحميمة بالجذع الدماغي وبالخلايا القاعدية.
وعلى الرغم من تطوّر وبهاء الدماغ البشري وسيطرته على أعضاء الجسم كافة، إلا أنّه عاجز كل العجز عن تنفيذ أي عمل أو إنجاز أي مهمّة أو حركة من دون تدخل المخيخ الحكيم، الذي يبدو ويتصرَّف وكأنّه شيخ وقور خبير ملمٌ بكافة الأمور والذي لابدّ من الرجوع إليه والتقيُّد بآرائه وبتعليماته وتوجيهاته في كل آن وكل حين وعلى مدار الساعة وحتى قيام الساعة.
يُنسِّق المخيخ كافّة الحركات والأعمال، خصوصاً منها السريعة والمتتالية والتي تحتاج مهارات يدوية ورياضية وفكرية كالرسم والنحت ولعب كرة التنس والطاولة والقدم والسلة والضرب على الآلات الموسيقية البسيطة منها والمعقّدة كالبيانو والطبلة والقانون وغيرها، وكذلك الضرب على الآلة الكاتبة والعمل على الكمبيوتر وغير ذلك.
يتطلَّب الضرب على الآلات الموسيقية تناسقاً كبيراً بين النغم المحفوظ في الذاكرة وبين المخيخ الذي سيحوِّله إلى حركات وضربات على الآلات التي ستصدر الألحان.
وبالأسلوب نفسه سيترجم المخيخ الأحرف المحفورة في الذاكرة إلى حركات متناسقة تضرب ما يقابلها على الآلة، فهو صلة الوصل بين الذاكرة والآلة. كما ينسِّق المخيخ بين العمل الذي يجري الآن وبين ما يليه من أعمال وحركات فيربطها ببعضها بعضاً لتبدو متتالية بشكل سلس ومنسجم ولو تغيَّرت الحركات ونبرات الكلام أو الخطاب أو سرعة الجري وما سيرافقه من انعطاف أو قفز أو دوران أو غير ذلك.
كما يحافظ المخيخ على توازن الجسم ويحول دون سقوط الإنسان أثناء تأديته لعمله اليومي ولنشاطاته الرياضية المختلفة البسيطة منها والمعقَّدة كالجمباز والحركات البهلوانية وتسلُّق الجبال والعوم والقفز وغير ذلك.
يُخطِّط المخيخ للحركة التالية أثناء تأدية الحركة الحالية. ولينجز ذلك يدرس وضع القدم الحالي والوضع الذي يجب أن يتخذه في الخطوة التالية أو الحركة القادمة المراد تنفيذها.
ليس هذا وحسب، بل يُنظِّم المخيخ الأوضاع المتتالية للجسم اللازمة للحركات المتتالية دون أدنى خلل في التوازن ولا اضطراب، وهو المسؤول الأوّل والأخير عن إنجاح الأعمال والنشاطات كافة. وفوق هذا وذاك، يحفظ المخيخ إنجازاته ونجاحاته التي استقاها من خلال ممارساته اليومية في ذاكرته لتبقى خبرة محفوظة يستفيد منها في المستقبل.
من الأمثلة العملية على هذه الوظيفة الجميلة للمخيخ رمي كرة السلة؛ فإذا كنت من الذين لا يمارسون هذه اللعبة ورميت الكرة بإتِّجاه السلة من مكان بعيد نسبياً، فإنّك لن تفلح في المحاولة الأولى ولا الثانية، لا لضعف فيك، ولكن بسبب دراية المخيخ المحدودة وخبرته المعدومة في هذا المجال. سيدرس المخيخ الرمية التي قمت بها وسيُحلِّل نقاط الضعف فيها، ومن ثمّ سيُحدِّد القوّة العضلية اللازمة لهذه الرمية لتتناسب هذه القوّة مع وزن الكرة وحجمها والمسافة التي تفصلك عن الهدف. تذهب الأوامر والتعليمات من المخيخ الحكيم إلى المراكز الحركية في القشرة الدماغية لتزيد أو لتخفِّف من قوّة الرمي بما يتناسب والخلل الذي لازم محاولاتك. ما إن ينضبط الأمر وينجح المخيخ في مهمته حتى يصبح هذا الموضوع من خبراته التي ستعينه في مستقبله في هذه الرياضة، وبذلك يصبح هذا المبتدئ بارعاً.
ولكي ينجز المخيخ هذا كلّه، كان لزاماً عليه جمع المعلومات من جميع الأعضاء المتخصصة بالحركة والتوازن، وهذه تشمل كافة عضلات وأوتار الجسم ومفاصله، ومن الأذن الداخلية ومن العينين ومن الخلايا القاعدية الدماغية ومن المراكز العصبية الحسّية والحركية في القشرة الدماغية.
يجمع المخيخ المعلومات بواسطة ألياف عصبية غزيرة تصله بهذه المراكز كافّة، فيحلِّلها ويدرس كل جوانبها، ومن ثمّ يُكوِّن لنفسه فكرة متكاملة عن وضع أعضاء الجسم كلّها والأوضاع التي يجب أن تتخذها في الأعمال والحركات التالية والمتتالية، بعد ذلك يرسل آراءه وتعليماته الفذَّة إلى القشرة الدماغية المتخصِّصة بإصدار الأوامر الحركية للأطراف والعضلات لتنفِّذ اقتراحات وأوامر المخيخ بدقّة وإحكام تامين.
يقوم المخيخ بهذه النشاطات خلال 15 ميلي ثانية، وهذا يعني أنّه يعمل بشكل دائم ودؤوب من دون راحة ولا تذمّر ومن دون أن يصاب بالكلل أو الملل أو النصب.
وإذا علمنا أنّ الميلي ثانية يعادل جزءاً من ألف جزء من الثانية، سيتبيَّن لنا مدى الجهد الكبير والدور العظيم والنشاطات المذهلة التي يقوم بها هذا الشيخ الحكيم القابع بخشوع وسكينة في ظلمة القحف بين قاعدة الدماغ وقاع الجمجمة.
كما سيتجلّى لنا دور المخيخ المذهل في الجسم البشري عندما نشاهد مريضاً أصيب لديه هذا العضو بمرض من الأمراض فأخلَّ بوظائفه وشوَّه أداءه.
سيعجز هذا المريض عن الإتيان بأيِّ عمل مهما كان بسيطاً، وإذا قام وقع، وإذا تمكَّن من الوقوف بعد تكرار المحاولة وحاول أن يمشي فإنّه سيترنَّح ترنُّح السكارى، وستدور به الأرض، وسيسقط بعد أن يختل توازنه وبعد أن يستسلم للدوار والدوخة.
وإذا طلبنا من هذا المريض أن ينفِّذ عملاً بسيطاً فإنّه سيفشل، وإذا حاول أن يضع قمَّة سبابته على قمة أنفه فإنّ يده سترتعش أثناء المحاولة وستذهب إلى فمه أو عينه أو إلى مكان آخر في وجهه غير الأنف.
يشكو هذا المريض من الرأرأة (حركات سريعة متتالية لكرة العين) وسيتعذَّر عليه النطق، لأنّ النطق بحاجة إلى حركات سريعة متتالية ومتناسقة ومتناغمة.
تقوم بالنطق عضلات كثيرة تحرِّك حبال الصوت والحنجرة والبلعوم والشفتين والفكين واللسان. ولو علمت أنّ في اللسان وحده 17 عضلة تقوم بتحريكه في الإتجاهات كلّها ليتمكّن من ضبط الألفاظ ومخارج الأصوات والحروف، لتبيَّن لك أنّ النطق الذي نمارسه في كل آن وكل حين حتى يبدو لنا وكأنّه عمل آليٌ رويتينيٌ وبسيط تقوم بأدائه عشرات العضلات وآلاف المراكز العصبية ومن جملتها مركز اللغات والمخيخ والخلايا القاعدية في الدماغ والمراكز الحسِّية والحركية في القشرة الدماغية. فالنطق إذاً عملية في غاية الدقّة والتعقيد، ولكنها تتم بشكل فوري ومتزامن مع ما نفكِّر في قوله ونريد التعبير عنه، فسبحان الله.
تأمّلوا في هذا الخلق المذهل وهذا التناسق الجميل في عمل المراكز العصبية والعضلات، وتأمّلوا السرعة المذهلة لتأليف الكلمات واختيارها، ومن ثمّ تشكيل وصياغة الجمل والعبارات والخُطب والمحاضرات، خصوصاً التي تلقيها ارتجالياً من دون سابق تحضير؟! ... تأمّلوا تيار الكلمات وهي تنساب من دون عوائق ولا تكليف انسياب الماء في الجداول والأنهار!!..
تأمّلوا هذه النعم الجليلة والمعجزات الباهرات التي كرَّمنا بها الله على كثير ممّن خلق تكريماً!
لقد لفت نظرنا سبحانه وتعالى إلى نعمة النطق، فقال: (ألَم نَجعَل لَهُ عَينَين * ولِسَاناً وشَفَتَين * وهَدَينَاهُ النَّجدَين) (البلد/ 8-10)، والنجدين هما طريقا الخير والشر.
يقول الطبيعيون وأتباع داروين: إنّ الخلق بدأ تلقائياً في اجتماع كائنات دقيقة دنيا كالفيروسات والجراثيم والفطريات. لقد التقت بحسب نظرياتهم الهزيلة فأعطت مخلوقاً بدائياً صغيراً يتألّف من العديد من الخلايا، ولم يكن له عينين ولا لساناً ولا شفتين، وكان دون دماغ، ودون أذنين، وبلا يدين ولا رجلين، ثمّ راحت هذه الكتلة الخلوية الصغيرة تتطوّر وتُغيِّر من حجمها وشكلها بالتدريج عبر ملايين السنين، فأنجبت أنواع وأجناس الحيوانات والنباتات والأسماك والطيور، وفي النهاية تمخَّضت عن ظهور الإنسان، ذلك الخلق البديع المذهل المتكامل.
هل يُصدِّق عقل رشيد أن ينشأ النطق وهو حصيلة عمليات حيويّة بالغة الدِّقّة والتعقيد بشكل تلقائي من دون إبداعٍ حكيم؟
فالنطق آية عظيمة من آيات الله التي تثبت وجوده، وتؤكِّد قدرته وقدره، وهي نعمة كبيرة من نعمه الكثيرة التي أنعم بها علينا لنشكره ونحمده ونعظِّمه: (مَا خَلَقَ اللهُ ذلكَ إلا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلَمُون) (يونس/ 5).
ولكن الملحدين بآيات الله يكفرون وبنعمائه يجحدون: (وَما تَأتِيهِم مِن آيَةٍ مِن آيَاتِ رَبِّهِم إلا كانُوا عَنهَا مُعرِضِين) (الأنعام/ 4).
وفهيم قال ربّ الأرباب: (يَعرِفُونَ نِعمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وأكثَرُهُمُ الكافِرُون) (النحل/ 83).
وقال جلَّ جلاله: (أفَبِالبَاطِلِ يُؤمِنُونَ وبِنِعمَةِ اللهِ يَكفُرُون) (العنكبوت/ 67).
والذي ينكره العقل والعلم أن يظهر الإنسان والحيوان والنبات من كائنات مُمرضة تفتك بهذه الكائنات كما فتكت فيروسات الإيدز والإيبولا وجراثيم الخنّاق (الدفتيريا) والكزاز والتهاب السحايا وغيرها بالإنسان والحيوان!! كيف تظهر كائنات حيَّة من كائنات أخرى قاتلة وفتَّاكة؟ وكيف بقيت الكائنات البدائية على قيد الحياة في مجتمع سادت فيه الجراثيم والفطريات والفيروسات؟ في مجتمع لم يكن فيه للطب وللمضادات الحيوية وجود ولا خبر؟!
هل يمكن لعاقل على وجه الأرض أن يُصدِّق هذا التهريف والتهريج؟ وإذا كان هذا ممكناً، يصبح حتماً على الملحدين أن يؤمنوا بكل تهريف مماثل. فإذا قلت لهم: إنّ الماء الذي أوجده العلي القدير ليطفئ النار صار كالبنزين يزيدها اشتعالاً وضراوة، فعليهم أن يُصدِّقوا ذلك.
لقد أسبغ علينا العليّ القدير نعماً كثيرة ظاهرة وباطنة، ووهبنا السمع والبصر والفؤاد، ومَنَّ علينا بالنطق والعقل، وكرَّمنا بانتصاب أجسامنا، وسخَّر لنا ما في الأرض جميعاً، وجعلنا خلفاء فيها، ووهبنا نعمة التفكُّر والتأمُّل لنتأمَّل ملكوته العظيم، ولندرك آياته الأخَّاذة، فنؤمن به إيماناً يقينياً راسخاً لا تتقاذفه وساوس الشياطين ولا فلسفات الملحدين والماديين.
ولتقريب الأمر على القارئ الذي تعذَّر عليه الوصول إلى حقيقة الحقِّ جلّ جلاله من نفسه، رأيت أن أنقل له بعض أقوال علماء العصر البارزين ردّاً على نظريات المارقين الجاحدين والملحدين:
يقول العالم (ويندل) المتخصِّص في العلوم الطبيعية والأستاذ في الجامعات الأمريكية: "لا تستطيع العلوم أن تُفسِّر لنا كيف نشأت الدقائق الصغيرة التي لا يحصيها عدٌّ، والتي تتكوّن منها المواد الحيويّة الموجودة في جسم الإنسان كلّها، كما لا تستطيع العلوم أن تُفسِّر لنا بالإعتماد على فكرة المصادفة والطفرات كيف تكوَّنت الحياة من لا شيء، وكيف تطوَّرت حتى أضحت على ما هي عليه من الرقيِّ والروعة والكمال.
إنّ الأخذ بنظرية المصادفة في نشأة كلِّ المخلوقات لا يقوم على أساسٍ منطقي مقنع، بل على التسليم بهذه الفكرة من دون دلائل علمية ولا براهين منطقية تؤكِّدها".
أمّا العالم (توماس ميللر)، فقال: "إنّني أؤمن بوجود الله، كما أؤمن أنّه الخالق لكل ما في الكون، لأنِّي لا أستطيع أن أتصوَّر أنّ المصادفة وحدها تستطيع أن تُفسِّر لنا ظهور الإلكترونات والبروتونات الأولى ولا الذرّات الأولى ولا الأحماض الأمينية الأولى ولا الأحماض النووية الريبية الأولى التي تحمل على متنها شيفرة الخلق ووظائف الأعضاء، ولا البروتوبلازم الأوّل ولا البذرة الأولى ولا الشتلة الأولى ولا الشجرة الأولى من كلِّ صنف من أصناف الثمار التي يزيد عددها عن خمسين ألف صنف.
إنّني أعتقد بوجود الله لأن وجوده القدسي هو التفسير المنطقي الوحيد لكل ما يحيط بنا من ظواهر هذا الكون التي حيَّرتنا وبهرت عيوننا وألبابنا".
ثمّ يردف العالم ميللر قائلاً: "فكما أنّ الآلة والسيارة والعمارة وكلّ جهاز، بسيطاً كان أم معقّداً بحاجة إلى أيد تبدعه، فالإنسان والحيوان والنبات والكون بحاجة هي الأخرى إلى خالق عظيم يُنظِّم أمورها ويحفظ مجراتها ونجومها وكواكبها من الزوال ومن الإرتطام ببعضها، ويضع نواميسها التي ستتقيَّد بها، وهذا لن يكون إلا الله".
وبما أنّ هذه الصفات لا تجتمع في أحدٍ غير الله جلّ جلاله، صار لزاماً علينا أن نؤمن به وأن نسعى ونكدَّ في عبادته لبلوغ رضاه، وأن نتطهَّر من أدران العصر المادية، وأن نتبرَّأ من إنتماءاتنا الضالّة، ثمّ نقف خاشعين في محراب الإيمان نسأله سبحانه الرَّحمة والغفران: (وَلا تَتَّبِع الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إنّ الذينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَاب) (ص/ 26).
المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان وتفنيد نظرية داروين
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق