لم ترقَ أيٍّ من الحضارات بفن الكتابة وتجويده مثلما ارتقت به حضارة الإسلام، حتى يمكن تصنيفها باقتدار من الحضارات المكتوبة، أو من الحضارات التي اعتنت وسمت بهذا الضرب من الثقافة، وهذا الوسيط التواصلي بين البشر إلى الذروة، بما يخدم الدعوة، ويحفظ النصوص التي كان قد أدى التمادي في إهمالها أو تدوينها إلى تحريف الرسائل التي أتى بها أنبياء الله الذين سبقوا الرسالة المحمدية الخاتمة. حيث مازال الخط العربي فناً تشكيلياً مستقلاً على الإبداع والتنوع، بينما استمرت باقي الخطوط في العالم تزويقاً للنص اللغوي، تحكمت في صياغته الفرشاة في الكتابة الصينية، أو الريشة في الكتابة اللاتينية. بينما استمرت القصبة أداة يصنعها الخطاط، مواتية لرفع الكتابة إلى مستوى الخط الفني، وبخاصة قط القصبة الذي يحتفظ الخطاط في تجاويفها أدق أسراره. كما إنّ الاستئناس بتذوق لوحات الخط العربي ومختلف أنماط التعبير الحروفي ينطلق أساساً من جماليات العمارة العربية الإسلاميّة، باعتبار أنّ فن العمارة هو الفن الذي يستجيب أكثر لمسألة خروج الفن إلى الشارع بغية تهذيب الذائقة الجمالية البصرية لدى الجمهور الواسع، وتهذيب مختلف الفضاءات المدنية والخارجية، فالعمارة وعاء حضاري، وهي شكل الحضارة المرئي والمجسد، وهوية مدنية ما، أو مجتمع ما، تتضح من خلال شكل العمارة، فالمدينة القديمة التي توثق التاريخ لا تزال على رغم هرمها وفقرها المادي، أقوى وأصدق تعبيراً عن الشخصية الحضارية لساكنيها .إنّ فلسفة الجمال العربي هي فلسفة روحانية وليست رياضية وتقوم على مقاييس مطلقة وليست نسبية، وتسعى للتعبير عن المثل، سواء في التشكيل أو العمارة، والفن العربي بعد كل هذا هو فن الحياة، ففي كل الأشياء والأدوات والأزياء فن، السجادة والمصباح والسيف والمنمنمة والخط هي فنون إبداعية رفيعة، ومن ثم فإنّ العمل الفني وكذلك التذوق يقوم على الحدس وليس على الإدراك العقلي. والعالم ينظر إلينا من خلال فنوننا وإبداعاتنا فبالفنون والإبداع تقوم الحضارات أو تبيد، والأمّة التي لا تحتضن الثقافات والفنون ولا تؤسس مراكز للإبداع لا يمكن أن تعتبر في المفهوم الحضاري أمة ذات وجود. والحديث عن الخط العربي يشعر بحالة من الانسياق والخضوع في استحضار معاني وأبعاداً تتعدى مجرد الخط وفنونه الظاهرية نحو سماوات أخرى بعيدة المنال! فالخط وثبة بلون الشفق يعبر عن أفكارنا وأحاسيسنا ويفتح أمامنا المغاليق المبهمة ليمنحنا الطاقة اللازمة نحو المعرفة المقدسة. يقول لويس ماسينيون Louis Masignon لدى بحثه عن الفنون: (أنّ المسلم يبتعد عن الوقوع في فخ الفنون، فهو ينسخ من خيوط الله، ولذلك لن تجد في الفنون الإسلامية أية مأساة أو فاجعة ولا توجد فيها نواحٍ وحشيّ) .ويسجل آرثر أفام بوب Arthur upham pope ) في فن الخط قوله: (لقد جسّد الخط منذ القرون الوسطى للنقاشين والرسامين والمعماريين أهدافاً عليا ونظاماً لا يمكن الاستغناء عنه ، وقد وجد الجانب الإبداعي خلال تأثيره العميق في التزيينات المعمارية، ولعب دور المراقب والمشرف على بقية الفنون. (والخط والرسم توأمان لا ينفصلان، وقد أصبح الخط في كثير من الأحيان سيد الرسم، فقد تميّز بعض الفنانين في الرسم والخط، بنفس الدرجة، لكن البداية في تعلمهم كانت في الخط، وفن الخط بالنسبة للمسلم المثقف أهم وأعمق من فن الرسم، وبالنسبة للمتصوف، تغدو الأحداث الموضوعية التي يضطر الرسام إلى استخدامها ترجمة لتجليات الجمالات الإلهية. فالموضوع الجمالي ينبثق من ديناميكية التفاعل بين النص والمتلقي، فالنص الإبداعي هو من صنيع الفنان الذي يحاول بتراكيبه المتزنة تحويل الكلام المقدس من آية أو حديث أو قول مأثور إلى إنجازه بإحساس فني تهب نفسها للوصف والإدراك، فهو استجابة جمالية متصلة بالوعي والتفاعل، ينجزها مبدع عكف على تنويع مشاهد المتعة في الوقوف على مشهد متميز تكون علامة فارقة لفصل الخطاب. فاستثمار الخبرة الجمالية هو إيقاظ للنصوص من سباتها قصد اكتشاف وميض وقعها، والإصغاء لصمتها، ورؤية غناها المتنوع والمتعدد والذي يحوله الفنان الخطاط من عناصر التخييل إلى جسر تنقش عليه آثار العبور، كونه يحوّل الصلة بين الخفي والمرئي نحو أفق من المعرفة الغائبة في مكنونات النص. حيث يذهب الفنان والخطاط مثنى العبيدي في مغامرة خطية كلاسيكية صارمة تحكمها وتحميها رؤية مسبقة ومتماسكة تجاه الوجود والإبداع كفعل جمالي يوازيه ويتشابك معه واقعاً وقيمة ومثالاً. إنّ نظرة فاحصة متأنية على لوحات وإبداعات هذا الفنان يوحي لنا كم من الوقت صرفه وكم من الجهد بذله حتى خرج لنا بهذه المقدرة المبدعة والأحرف المنمقة والتركيب الجميل الذي يشبه بناءاً معمارياً ارتكزت أساساته في قاع الأرض بكل ثبات مما نتج عن بعض الحروف لتنطلق إلى الأعلى عبر حرية فضاء موزون. كما إنّ البناء المعرفي للموضوع الجمالي في لوحات مثنى العبيدي يستدعي استثمار القيم الجمالية التي ترسخت بقيم عقائدية لبعث الروح في كافة مستويات اللوحة. إنّ الخطاط أو الفنان محكوم عليه بضرورة تعميق كفاية التلقي، إذ لا تكفيه المعرفة الحدسية المتفاعلة مع النص بصورة حرة وعفوية، وعليه مجانبة المعرفة الإيديولوجية المغرضة التي تستعمل النصوص قصد تكريس أهواء ومصالح المذاهب الجامدة والمؤسسات المعادية للتحرر والاختلاف. فلابد من الارتقاء نحو معرفة تحليلية متطورة تحدد نماذج الإبداعات الملائمة جمالياً، أي المهيأة والحافزة لوظيفة التواصل الفني مع الآخرين . والخط العربي هو عالم من الجمال الخلاب ومشهد من الجلال والسمو يتجاوز العوالم المادية إلى رحابة الصفاء والعرفان لترتسم في مخيلتنا أبجديات الإسراء والمعراج حتى هضبات سدرة المنتهى. والخطاط والفنان مثنى عبد الحميد العبيدي يؤسس لتكوين ذاكرة جديدة يستلهم مفرداتها من الموروث الحضاري الإسلامي مع تطوير واضح لأدوات التعبير التي يتعامل معها من خلال العمل المتواصل بالبحث والتجريب المدرك والمنفتح على كل التجارب الإنسانية. فالخطاط الذي يتحقق في حروفه الاتزان والضبط تكون مليئة بالأحاسيس الجياشة التي تعبر عن راحة في النفس، وهذا ما نشاهده في لوحات الخطاط العبيدي، ذلك أنّ الاتجاه نحو تحقيق التوازن بين الحروف يؤدي بدوره في انضباط الحروف واتزانها وتنظيم عملها وكأنها كتلة متجانسة لا يمكن فصل أي جزء من أجزائها . وقد لعب فن الخط دوراً حاسماً وكبيراً عند الخطاط مثنى العبيدي، وصلت إلى درجة الإتقان، كما إنّ التركيب في لوحاته لا يعني التركيب الميكانيكي البسيط للأحرف، وإنما يعني ظهور تناسق جديد بنسب ومقاييس جديدة عند توصيل الحروف، والتركيب في فن الخط إبداع جديد وليس عملية جمعية وحسب، كما إنّ فكرة التركيب في خط جميل مرادفة لفكرة التشكيل . ولهذا فإنّ فن الخط والعناصر والأشكال الهندسية والزخرفة النباتية، تمزج طبقاً لقواعد رياضية دقيقة، تفضي إلى إنجاز تناسق مبني على الترتيب المحكم والتغيير المضبوط، ومن ثم وضع الأشياء بجانب بعضها وهي العملية التي تفضي على فن الزخرفة في آخر المطاف سمة من الحركية والفعالية، وتؤدي المعرفة الجيدة بطرق وأسلوب خلط ومزج الألوان في الوصول إلى تناغم لوني يسهم في إغناء وتجميل العمل الزخرفي من جهة وإلى إضفاء رونق آخر للوحة من جهة أخرى. كما إنّه يجعل من شكل الدائرة مركز اهتمامه فأحال بعض النصوص الخطية إلى دوائر جميلة، تحيل على ما للدائرة من دلالة وعمق في التراث الصوفي بوصفها رمزاً للكون وللكمال وأصل كل الأشكال. والخطاط مثنى العبيدي من مواليد الرمادي سنة 1972 أخذ أصول الخط عن الخطاط الكبير عباس البغدادي، وهو حاصل على البكالوريوس في علوم الكيمياء، وقد نفّذ خلال عمله في ديوان الرئاسة في العراق العديد من الخطوط الكبيرة في المساجد والقصور والمباني الحكومية، وحصل خلال مسيرته الخطية على العديد من الجوائز، والذي يعاين أعماله سيدرك لا محالة أنّ اللوحة الخطية العربية الكلاسيكية ما زال لديها ما تقوله وتضيفه، فهو وإن كان دائراً في فلك الكلاسيكية العربية إلا أنّه دائماً يبحث عن مغايرة وإضافة من خلال محاولاته العديدة التي يربط ما بين الدلالات البعيدة للجملة المكتوبة وإضفاء أشكال خطية جديدة للجملة تضيف لها معنى، "فالخط ليس مجرد شكل جامد بل هو قدرة على إضافة معنى للجملة وإعطائها بعداً دلالياً أكثر مما يظهر"، وذلك هو دأب العبيدي منذ أن أمسكت أصابعه المبدعة قامة القصب. فهو ذو شخصية مميزة، مثلما هو أيضاً صاحب مدرسة متميزة في الحرف العربي، ومن السمات المعروفة في شخصيته، الصدق والجرأة والصراحة والتواضع وحسن الخلق .إضافة إلى أنه ينهج في لوحاته منهج أستاذه الخطاط عباس البغدادي، اللذان يتبعان طريقة الخطاط العراقي محمد شوقي منطلقاً وفناً وإبداعاً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق