• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حقوق الإنسان.. ثقافة أم أيديولوجيا؟

حقوق الإنسان.. ثقافة أم أيديولوجيا؟

راجت في العقدين الأخيرين على سطح الخطاب العربي عبارات جديدة، مثل "ثقافة حقوق الإنسان" و"ثقافة التسامح" وما أشبه: عبارات "دخيلة"، لا أساس يسندها ولا تاريخ يؤسسها في الوعي العربي، شأنها شأن كثير من المفاهيم الاجتماعية التي راجت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والتي كان الحديث يجري عنها بتوظيف مفهوم "الأيديولوجيا"، مثل مفهوم "الطبقة"، "والوعي الطبقي"، و"الوعي المزيّف"، "البروليتاريا"... إلخ.

لقد حلّت اليوم كلمة "ثقافة" محل كلمة "أيديولوجيا"، على الأقل في مجال تأطير مثل هذه المفاهيم، فأصبحنا نقول: "ثقافة التسامح" و"ثقافة حقوق الإنسان".... إلخ، بدل "أيديولوجيا التسامح" و"أيديولوجيا حقوق الإنسان"... إلخ. فما الفرق بين العبارتين: "ثقافة كذا" و"أيديولوجيا كذا"؟ وما الذي جعل الكتّاب والمثقفين وجميع "المتكلمين" اليوم يعرضون عن لفظ "أيديولوجيا"، ويقبلون هذا الإقبال المنقطع النظير، عندنا على الأقل، على لفظ "ثقافة"؟ لن نستفيد كثيراً من القواميس الحالية (أقصد قواميس اللغات الأوروبية لأنها التي التي تسجل في الغالب تاريخ استعمال الكلمات وتاريخ الانتقال بها من معنى إلى آخر، أما القواميس العربية فلم تدخلها الحياة بعد، فالكلمات فيها بلا زمان!). أقول: لن نستفيد كثيراً من القواميس المعاصرة الحيّة في ما نحن بصدده، فلفظ "الثقافة" ولفظ "أيديولوجيا" فيها ما زالا مؤطرين بالمعطيات نفسها التي بقيت تحددهما منذ عقود. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالرواج الكبير جدّاً، و"الزائد عن اللزوم" الذي تعرفه العبارات التي نحن بصددها، كعبارة "ثقافة حقوق الإنسان" مثلاً، إنما يختص به، أو يكاد، خطابنا العربي الراهن. بعبارة أخرى، إنك لا تجد في اللغات الأخرى هذا الإسراف – أو قل هذا الكرم – في استعمال لفظ "ثقافة" الذي تجده في الخطاب العربي الراهن. ليس ثمّة شك في أن تراجع الماركسية وسقوط الاتحاد السوفياتي كان له الدور الأكبر في تراجع مفهوم "الأيديولوجيا" الذي ظل طوال تاريخه مصطلحاً ماركسياً في الدرجة الأولى، خصوصاً عندما يستعمل في الخطاب اليومي الأوروبي الذي كانت تؤطره المفاهيم الماركسية. أما لفظ "ثقافة" في هذا الخطاب، فما زال يحتفظ بمواقعه وبمجالاته الخاصة. ومع أنّه اليوم أكثر استعمالاً وبروزاً، فهو لا يقوم مقام لفظ "الأيديولوجيا"، كما هو الشأن في خطابنا العربي الراهن، وإنما يعبّر في الغالب عن شيء يمتّ إلى تصنيف غير التصنيف الطبقي، مثل الطائفية والسلالية (الإثنية)، مما يدخل فعلاً في مفهوم "الثقافة" في اللغات الأوروبية، وبكيفية خاصة بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة. أمّا وضع كلمة "ثقافة مكان لفظ "أيديولوجيا" في العبارات التي تناسبها هذه الأخيرة، فهذا ما ليس شائعاً في الخطاب الأوروبي شيوعه عندنا. وأحسب أنّ الأذان الأوروبية ما زالت تستسيغ عبارة "أيديولوجيا التسامح" مثلاً، أكثر مما ترتاح لعبارة "ثقافة التسامح"، عكس ما عليه الأمر عندنا! كيف نفسر هذه الظاهرة؟ لا شكّ في أن ثمة دوراً يجب أن يعزى إلى ما يتميز به الوضع الثقافي في الغرب من ارتفاع في المستوى ومن انتشار للنظرة النقدية التي تمنع صاحبها من الاستسلام بسهولة لما يطفو على السطح في مجال الفكر واللغة. ويجب أن نعترف أنّ النخبة العصرية عندنا ليست كلها متمكنة من وسائل عصرنا الثقافية، بل كثيراً ما تجد الواحد منها يطفو على السطح، سطح ما نسميه بـ"الثقافة المعاصرة"، فتتقاذفه أبسط الرياح يمنة ويسرة، فيمسك بما يطفو على السطح معه وبجواره من قشور، أعني من كل ما خفّ وزنه مما تتقاذفه الأمواج. وهكذا يقفز من اليسار إلى اليمين، ومن أمام إلى وراء، أو العكس! ولكي لا نسترسل في تشخيص الأمور هذا النوع من التشخيص الجارح – ربما – الذي ليس ها هنا مجاله، نطرح المسألة من خلال الكلام في "الكلمات" بدل الكلام في "المتكلمين"! لنقل إذاً: الكلمات لها تاريخ، ومن لا يختزن في وعيه تاريخها نوعاً من الاختزان يسهل عليه القفز فيها وبينها وإحلال الواحدة منها محل الأخريات. وتاريخ الكلمات ليس هو فقط ذلك الذي تسجله القواميس الحديثة، بل إنّ للكلمات عندما تتحول إلى مفاهيم تصبح تاريخاً آخر أوسع وأغنى. إنّ المفاهيم كائنات فكرية تولد بفعل ظروف معيّنة ترتبط بها وتحيل إليها وتكتسي منها مضمونها التصوري وقوتها المفهومية التي تنقلها من مجال الاصلاح اللغوي المجرد، البارد الميت، إلى مجال "الواقع الحي"، العلمي أو الأيديولوجي. المفهوم المركزي لـ "حقوق الإنسان"، أقصد مفهوم "حالة الطبيعة". مفهومٌ يؤسس مفهوماً آخر! نعم، المفاهيم هكذا كلها تقريباً، بعضها يؤسس بعضها الآخر، وغالباً ما يتعذر شرح مفهوم من دون استعمال مفاهيم أخرى. خذ مثلاً مفهوم "الأيديولوجيا"! هناك ما لا يحصى من التعريفات لهذا اللفظ، غير أن معظمها يبدأ بالقول: "الأيديولوجيا: منظومة من التمثلات..." إلخ. التعريف هنا يبدأ بذكر مفهومين يحتاجان إلى سابق معرفة بهما، هما: "منظومة" و"تمثلات"! فإذا كان الواحد منا لا يختزن في ذهنه المعنى الإصطلاحي لكل من "المنظومة" و"التمثلات" – وهناك مفاهيم مماثلة أخرى تتلو هذين في تعريف الأيديولوجيا – فإنّه لن يتمكن من الإمساك بمدلول هذا المفهوم. والأمر نفسه يصدق على مفهوم "الثقافة" وغيره من المفاهيم. المفاهيم لها تاريخ. وإذاً فالإمساك بمضمون أو بمضامين مفهوم ما يتطلب المعرفة بتاريخه. وليس المقصود هنا بـ"المعرفة" الإطلاع الواسع المنظّم الذي تتميز به المعرفة لدى الباحث المتخصص، وإنما المقصود أساساً هو نوع من الألفة شبيهة بتلك الألفة التي تربطك بطريقك إلى منزلك مثلاً. كلنا يقطع الشوارع والأزقة وهو في طريقه إلى بيته، وفي الغالب نمشي في الاتجاه المطلوب دون شعور: نمرّ في الشوارع وقد "لا نراها": فأذهاننا غالباً ما تقع بعيداً عنها، ومع ذلك فنحن لا نضل سبيلنا، لا نفقد الاتجاه، ولا نخطئ في التعرف على باب بيتنا! كذلك الشأن في المعرفة بالمفاهيم، فليس المطلوب التعرف عليها بالطريقة التي يسلكها الغريب الذي يحمل في يده ورقة ويسأل الناس عن عنوان منزل معيّن. هذا يجب فعله مرة واحدة أو مرتين، أما عندما يألف الشخص "المكان"، فلا يحتاج لا إلى ورقة ولا إلى سؤال أو دليل. ولكن ما القول إذا كان هذا الشخص لا يحمل العنوان على ورقة ولا يعرف كيف يسأل؟ المثقفون العرب – أو معظمهم على الأقل – لا يخلطون بين "أبي نواس" و"أبي العلاء المعري"! غير أنّ هذين الشاعرين قد لا يعنيان للمثقف الأوروبي شيئاً على الإطلاق! مثل المثقف الأوروبي في ذلك مثل كثير من مثقفينا العرب إزاء مفهوم "العقد الاجتماعي" ومفهوم "حقوق الإنسان"... إلخ. لنقل استطراداً إن ما نريده من هذا المقال هو الانتقال بوضعية كثير من القراء العرب إزاء المفاهوم الذي نتناوله هنا من وضعية الأوروبي إزاء "أبي نواس" إلى وضعية العربي إزاءه! نعم، قد يجهل العرب "أبا نواس" الشاعر، ومع ذلك فعبارة "أبو نواس" تربطها به علاقة ألفة ما – ولتكن لغوية محض – قد يفتقد مثلها عندما يسمع عبارة "حقوق الإنسان" أو "التسامح" أو "العقد الاجتماعي"! المفاهيم لها تاريخ، ومنها مفهوما: "أيديولوجيا" و"ثقافة". فما الفرق إذاً بين قولنا "أيديولوجيا حقوق الإنسان" وقولنا "ثقافة حقوق الإنسان"؟   المصدر: كتاب في نقد الحاجة إلى الإصلاح   

ارسال التعليق

Top