• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الديموقراطية الناقصة

الديموقراطية الناقصة

◄إنّ العلاقة بين الديموقراطية والظاهرة الحزبية علاقة وجودية متبادلة: فلولا الأحزاب لامتنع وجود الديموقراطية، ولكن لولا الديموقراطية لامتنع وجود الحياة الحزبية. صحيح أنّ الأحزاب سابقة الوجود على الديموقراطية. وصحيح أنّ العديد من المجتمعات والحضارات القديمة عرفت الظاهرة الحزبية، ولكن كان لابدّ من انتظار الحداثة الديموقراطية حتى يتبدل النصاب الوجودي لهذه الظاهرة، وحتى تكفّ الأحزاب عن أن تكون لعنة انقسامية تهدد وحدة المجتمع أو الدولة أو الدين أو الحضارة لتصبح تعبيراً عن التعددية من حيث هي شرط الديموقراطية.

والحزب في اشتقاقه الدلالي بالذات، سواء بالعربية أو باللغات الأوروبية الحديثة المتحدرو من اللاتينية، يحيل إلى "الجزء"، إلى "الفئة"، إلى "الشطر" المتميز عن "الكلّ" الذي هو "الجماعة" أو "الأُمّة"، إن لم نقل المنفصل عنها والخارج عليها. وبالفعل، إنّ جميع المجتمعات القديمة السابقة على الحداثة الديموقراطية كانت تقوم على مقولة "الكلية"، على مبدأ "الوحدة" كمعطى مسبق الوجود، ليس من شأن "الأجزاء" أو "الأحزاب" إلّا أن تضعفه وتفت في عضده، هذا إن لم تعرض وجوده للخطر. وفي جميع تلك المجتمعات القديمة كانت "الحزبية" تعدّ ظاهرة مرضية. وحتى بعد إطلالة الحداثة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظلت الأحزاب تعتبر في نظر مؤسسي العلم السياسي الحديث من أمثال هوبز ولوك وروسو "شراً لابدّ منه"، وكانت الأولوية تُعطى بإطلاق لفكرة "الوحدة" المطلوب دوماً صونها من الانقسام - وهو التقليد الذي أرسى أُسسه الفلاسفة قبل سقراط وأدرك ذروته مع أفلوطين الممكن تعريفه بأنّه فيلسوف "الواحد". أمّا في الحضارات التي قامت على أساس لاهوتي كالحضارة اللاتينية المسيحية والحضارة العربية الإسلامية، فإنّ الأحزاب قد أخذت في الغالب شكل "فرق" و"شيع" و"هرطقات". ولئن يكن تاريخ المسيحية في القرون الثلاثة الأولى من وجودها هو تاريخ اضطهادها كـ"فِرقة" خارجة على المجتمع، فإنّ تاريخ المسيحية على امتداد العصر الوسيط هو تاريخ اضطهاد "الفِرق" التي انشقت عنها بدءاً بالآريوسيين والنسطوريين وانتهاء بالكاتاريين الذين جرد ضدهم البابا أينوشنسيوس الثالث الحملة الصليبية التاسعة والأخيرة. وتاريخ "الانشقاقات" في المسيحية يقابله في الحضارة العربية الإسلامية تاريخ "الخروج". وليس من قبيل الصدفة أن يكون الاسم الذي أعطى لأوّل فِرقة في الاسلام هو اسم "الخوارج". فعلى امتداد تاريخ "الأُمّة" في الإسلام كانت "الفِرق" تصوّر باستمرار، أياً ما تكن العصبية ينتمي إليها الحزب الحاكم ، على أنّها، كما يدل اشتقاقها، مظهر "التفرقة" وعاملها. فالأُمّة معطى كلي سابق الوجود على أجزائه، وكلّ وجود للجزء إنما هو بالضرورة ضد الكلّ وعلى حسابه. والحزب المستأثر بالسلطة هو كلّ الأُمّة، وكلّ حزب أخر هو وجوباً حزب خارج على السلطات وعلى الأُمّة وعلى الدين سواءاً بسواء. وقد تتغير عصبية الحزب الحاكم، كما في الانقلاب العباسي أو الفاطمي، ولكن الجدلية السالبة التي ترى في "الحزب" معارضة للأُمّة ونفياً لها ، وفي "الفِرقة" تفريقاً لها، لا تتغير. والواقع أنّ السوسيولوجيا نفسها ما رأت النور إلّا مع الحداثة الديموقراطية. فمن قبل كانت الفلسفة، ووريثها اللاهوت أو علم الكلام - في وقت لاحق الأيديولوجيا - تطرح نفسها على أنّها نظرية الوحدة وعلم الكلّ. وكان لابدّ من انتظار القرن التاسع عشر ليرى النور علم الاجتماع بوصفه علم الجزء. والحال أنّ رؤية العالم المباطنة للجزء هي النسبية والتعددية. فالجزء هو بالضرورة نسبي بالإضافة إلى الكلّ. والكلّ نفسه لا يعود مطلقاً بالنسبة إلى أجزائه بقدر ما يعود محصلة لمجموع أجزائه. فهو قابل للتعديل والتغيير بدالة تغير الأجزاء.

والحال أنّ العضادتين اللتين تنهض عليهما الديموقراطية هما النسبية والتعددية. فلا مطلق في الديموقراطية سوى النسبي وحده. وما كان مطلقاً بالأمس هو نسبي اليوم أو الغد. وحمولة النسبي من العقلانية هي التي تقترب أو تبتعد به عن عتبة المطلق المتنقلة باستمرار. والديموقراطية هي علاقة بين أطراف متعددة. ومتى غاب التعدد والصراع بين الأطراف غابت الديموقراطية نفسها. وبديهي أنّ الديموقراطية تعرف هي أيضا نوعاً من الوحدة. ولكن هذه الوحدة غير ثابتة وغير معطاة لا أزلاً ولا أبداً، بل هي قيد الفرط وإعادة التشكيل الدائم. إنّها وحدة نسبية ومؤقتة ومتحركة.

ولكن كما أنّ الحزب لا يعود يعتبر في الديموقراطية نفياً للكلّ، كذلك فليس من حقّه أن يماهي بين نفسه وبين الكلّ. فالحزب الذي ينزل نفسه منزلة الكلّ يعيد آليا إنتاج الدكتاتورية من حيث إنّ الدكتاتورية هي بالتعريف الجزء الذي يحسب نفسه كلاً، والنسبي الذي يفرض نفسه مطلقاً. وحتى لا يقع الحزب السياسي في هذا المطب فلا خيار له غير أن يكون حزباً سياسياً صرفاً. فتداخل الحيز الاجتماعي والسياسي، أو الحيز الديني والسياسي معاً هو ما يفسد اللعبة الديموقراطية من أساسها.

ولكن حتى لو تقيد الحزب السياسي بقواعد اللعبة الديموقراطية والتزم بحدود دوره كأداة جزئية ونسبية للتوسط بين الفرد والمجتمع ولم يتبيّن أيديولوجيا شمولية ولم يدعُ احتكار الحقيقة ووحدانيتها ووحدانية تمثيلها، فإنّه يظل في بنيته الداخلية بالذات، كما يرى مؤلفا كتاب الديموقراطية الناقصة، مصدراً للاستلاب الديموقراطي. فالبنية الداخلية لأي حزب هي بالضرورة بنية سلطوية تقوم على الانفصال وتقسيم العمل ما بين القاعدة والقيادة. ومهما يكن من درجة ليبراليتها، فإنّها تطالب العضو المنتسب إليها بالتخلي عن آرائه الشخصية وبالالتزام بالخط العام للحزب وبالتقيد بانضباطيته التي لا خيار لها إلّا في أن تكون مركزية. والباب الوحيد الذي تتركه الأحزاب للحرّية الشخصية هو باب الانشقاق أو الفصل أو التجريد من العضوية.

وصحيح أنّ الديموقراطية لا تقوم لها قائمة إلّا إذا أباحت للأفراد حرّية التجمع لتأسيس أحزاب تدافع عن مبادئ ومصالح سياسية محددة، ولكن بقدر ما أنّ الديموقراطية قابلة للتعريف بأنّها "دولة أحزاب" فإنّها قابلة للتوصيف استتباعاً بأنّها "ديموقراطية ناقصة". فلا مجتمع ديموقراطي بدون الاعتراف المتبادل بالفروق وبسؤدد الآخر. والحال أنّ الحزب ينزع في بنيته وفي طريقة اشتغاله بالذات، إن لم يكن في أيديولوجيته أصلاً، إلى نفي الآخر وإلى تنميط الأعضاء المنتسبين إليه في قالب واحد وإلى إنكار الحقّ في الاختلاف عليهم. وهو إذا لم يفعل، يكف عن أن يكون حزباً. ونظام التفكير الواحد هذا، الذي هو جوهر الحزبية، هو أيضاً طاعون الديموقراطية. ومع ذلك فإنّ الديموقراطية لا خيار لها إلّا في ركوب هذه المجازفة، فهي مع الأحزاب، تبقى ديموقراطية ناقصة، ولكنها، بدونها، تكف عن أن تكون هي كذلك.►

ارسال التعليق

Top