• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التفاعل اللغوي والقص الحديث

د. عبدالمجيد زراقط*

التفاعل اللغوي والقص الحديث

ينبغي بداية أن نحدد المقصود بالتفاعل اللغوي هنا. وهذا يقتضي أن نذكِّر بوظائف اللغة، لنتبين في أي منها يتم التفاعل المؤثر في القصِّ. وظائف اللغة، كما هو معروف، هي: التّعبير، الإيصال، الاتصال، التفكير، إنتاج المعرفة وتقديمها للمتلقي وحفظها، بما في ذلك المعرفة الأدبية الجمالية.

التفاعل اللغوي، أي المشاركة في أداء الفعل اللغوي، إنما يتم في ميدان الإنتاج المعرفي، بعد أن يتم الاتصال اللغوي، وهذا إنما يتم عن طريق المعرفة المباشرة، أو غير المباشرة بوساطة الترجمة، فالاتصال شرط لازم لحدوث التفاعل، فمن دونه لا نستطيع القول: إنّ لغة ما شاركت لغة أخرى في أداء وظيفة إنتاج المعرفة، العلمية والأدبية. وإذا كان موضوع التفاعل اللغوي في هذه الدراسة هو القصِّ الحديث، فإننا سنقصر البحث عليه ونبحث في حدوثه بين اللغات المشرقية من نحو أوّل، وبين اللغة العربية واللغات الأوربية من نحو ثان.

والمقصود بالقصِّ الحديث الروايات والقصة القصيرة، تزعم هذه الدراسة أنّ التفاعل اللغوي/ الأدبي كان عاملاً مهماً من عوامل نشأة هذين النوعين، في طورين: أوّلهما كان الفاعلية فيه للأدب المشرقي/ العربي في الأدب الغربي، وثانيهما كان الفاعلية فيه للأدب الغربي في الآداب الأخرى، ومنها الأدب العربي، وهو ما سنتحدث عنه في هذه الدراسة، ويمكن أن نضيف إلى هذين النوعين نوعاً قصصياً حديثاً هو أدب الأطفال.

 

التفاعل اللغوي والقصِّ القديم:

من المعروف أنّ اتصالاً حدث قديماً بين إنتاج اللغتين الفارسية والهندية الأدبي، ومن ثمّ بين اللغة العربية وإنتاج هاتين اللغتين. فعلى سبيل المثال، تمت ترجمة "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" في العصر العباسي من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، وأضيفت إليهما نصوص كثيرة، وتأثر الأدباء بهما، فكان لهما تأثير في الإنتاج القصصي العربي، ما أسهم في تطور القصِّ العربي القديم. وفي سياق هذا التطور، تبلورت أنواع قصصية كثيرة، منها: الحكاية بمختلف أنواعها، والأسطورة، والخرافة، والخبر، والمقامة، والسيرة، والسيرة الشعبية، والرسائل القصصية، وحديث السمر...، وقد ترجمت نماذج من هذا القص إلى اللغات الأوربية، وكان لها تأثيرها في الإنتاج القصصي الأوربي، وبخاصة "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة". وإن تحدثنا عن كتاب "ألف ليلة وليلة"، على سبيل المثال، فالواقع يفيد بأنّ هذا الكتاب يعد من أهم كتب القصص العالمية، وقد ترجم في آونة مبكرة إلى معظم اللغات الحيّة، وتعود أهميته القصصية إلى عوامل عدة، منها: أوّلاً الخيال الواسع القوي الذي يخلق عوالم جديدة غريبة وعجيبة، وثانياً جمالية التصوير سواء في ذلك تصوير الشخصيات التي غدا كثير منها نماذج عالمية أو تصوير الفضاء القصصي الخالق للدلالة والناطق بها.

 

التفاعل اللغوي وبداية القصِّ الأوربي الحديث:

كان للتفاعل اللغوي الغربي مع القصِّ العربي تأثير واضح في القصِّ الأوربي الحديث، فمن المعروف أنّ الأدب الغربي تأثر بالأدب العربي، وخصوصاً بكتابي "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"، فأقاصيص "هانسن أندرسن" الدنماركي و"رحلات جلفر"، لسويفت الإنجليزي، و"سياحات جبل بلاس" لـ"لوساج الفرنسي"...، فهذه المؤلفات جميعها تحمل شيئاً من روح القصة العربية، ومن المعروف أيضاً أنّ دانييل ديفو الإنجليزي، مؤلف رواية "روبنسون كروزرو" التي تعد أحد النماذج الروائية الأولى، قد تأثر بقصة "حي بن يقظان" لابن طفيل.

وإن عدنا إلى المرحلة التاريخية التي عرفت تأسيس القصِّ الحديث، وجدنا أنّ المؤرخين الأدبيين يرون قصص "الرومانس" (الفروسية) و"البكارسك" (الشطار)، والديكاميرون (الحكايات العشر) تمثل البداية الحقيقية لهذا القصِّ، وأنّ هذه الأشكال الثلاثة كانت وليدة التفاعل الأدبي بين القصِّ العربي المترجم إلى اللغات الأوربية وبين الحركة الأدبية الغربية الحديثة التي اتجهت، نتيجة للتحولات الحياتية التي عرفتها المجتمعات الغربية، إلى إبداع أشكال أدبية جديدة لم تكن تعرفها من قبل.

يقول فؤاد حسنين، في كتابه "قصصنا الشعبي": "حتى عهد قريب كانت القصة، في أوربا، كماً مهملاً لم يعن به أي أديب، ولم يلتفت إليها مؤرخ. لذلك ظلت الآداب الأوربية قروناً عديدة محرومة من القصة، بعيدة عنها في الوقت الذي كان الشرق قد سما بها، وأوجد المجاميع الكثيرة كألف ليلة وليلة".

ويضيف، فيقول: إنّ أوربا كانت محرومة من القصة في الوقت الذي كانت فيه "شعوب الجزيرة العربية وبعض أجزاء إفريقيا تستعين بالقصة في أغراضها الأدبية، كما اتخذتها كتبها الدينية وسيلة من وسائل الإقناع والدعاية".

ويلاحظ فاروق خورشيد أنّ هذا الرأي "يوافق، إلى حد كبير، اللمحة الذكية التي كتبها أحمد عباس صالح حين قال: إنّ الغرب عرف الملحمة والدراما، ولكنه لم يعرف، من الفنون القولية، فن القصة، بينما عرف العرب هذا الفن، ولم يعرفوا الملحمة والدراما".

 

التأسيس لنوع أدبي جديد:

الرواية:

من هذه الأشكال قصص "الرومانس" (قصص الفروسية).

ويتحدث جيريمي هارثون عن دورها في نشأة الرواية، فيرى "أنّ تقليد البيكارسك هو إسهام مهم في تطور الرواية، حيث قدم أنموذجاً للطرق التي يمكن بوساطتها تقديم التنوع والتشويق في الرواية، وأكّد أنّه لا توجد تجارب اجتماعية تستعصي على المعالجة الروائية".

يرى المؤرخون أنّ قصص الفروسية وقصص الشطار تمثل البداية الحقيقية للنوع الروائي، وقد مثلت "دون كيخوته" التي صدر الجزء الأوّل منها في مدريد عام 1605 دوراً رائداً على هذا الصعيد، إذ إنّ مؤرخي الأدب يعيدون إليها ظهور الرواية، بوصفها شكلاً قصصياً أعلن ظهور نوع قصصي جديد، يمثل تطوراً صارت إليه قصص الفروسية (الرومانس)، فهي تروي، من نحو أوّل، قصة فارس مازال يحيا في عالم الفروسية، وتكشف من نحو ثانٍ أنّ هذا الفارس يعيش في عالم من وحي خياله، ويطلب مجد الفرسان وعظمتهم في عالم جديد لم يعد لهم مكان فيه.

وإذ يتحدث جيمس ت. مونرو عن مقامات بديع الزمان الهمذاني وقصص "البيكارسك"، يقرر ما ذهب إليه بالنثيا، وهو: "وإنّه يستلفت الذهن، ويدعو إلى الدهشة ذلك الشبه العظيم بين هذا الأثر الأدبي للمقامات وذلك الطراز المعروف في أدبنا الإسباني باسم القصة البيكارسكية (La Nouvelapi Careesca) وقصة الشطار".

ويبدو أنّ هذا النوع الأدبي بقي، في البداية، نوعاً ثانوياً، ومن الإشارات الدالة على ذلك القصة القصيرة.

 

القصة القصيرة:

عرفنا، آنفاً، أنّ القصِّ الجديد تبلور في نوعين، أولهما الرواية وثانيهما القصة القصيرة. والمتداول، لدى كثير من مؤرخي الأدب، أنّ القصة القصيرة تبلورت، بوصفها نوعاً أدبياً متميزاً، في بداية القرن التاسع عشر، في أوربا وأمريكا، وتمثلت في أعمال قصاصين كبار مثل الأمريكي إدجار ألن بو (1809-1849)، والروسيين جوجول (1809-1852) وتشيخوف (1860-1905)، والفرنسي جي دي موباسان (1850-1893).

ويرى غير باحث أنّ للقصة القصيرة أصولاً بعيدة تتمثل في تراث قصصي غني نذكر منه، على سبيل المثال، الحكايات التي كانت تحكى في ما سمي "مصنع الأكاذيب" إيطاليا والتي جمعها يوتشيو ودونها وأعطاها شكلاً أدبياً سماه "الفاشيتيا"، و"الحكايات العشر" (الديكاميرون Decameron)، لجيوفاني بوكاشيو Boccaccio (1313-1375).

وهي مجموعة حكايات ظهرت خلال العامين 1349 و1351م. ويتمثل إطارها في أنّ الطاعون أصاب مدينة فلورنسا في إيطاليا عام 1348م، وغادر المدينة سبع سيدات وثلاثة رجال، وتوجهوا سويا إلى قرى مجاورة. ويمضي هؤلاء عشرة أيام يحكي خلالها كلّ واحد منهم حكاية على سبيل التسلية... و"الحكايات السبع لمارجريت دي نافار" (1492-1549م)، وهي مجموعة حكايات حب يتمثل إطارها في أنّ بعض المسافرين يُحتجزون مدة سبعة أيام في فندق بسبب الطوفان، فيحكي كلّ منهم حكاية.

ومن المعروف أنّ هذا التراث تشكل، مثله في ذلك مثل قص الرومانس والبيكارسك، في مناخ التأثر بالقصص الشرقي بعامة والعربي بخاصة، الذي ترجم إلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، ولا يخفى هذا التأثر على أي قارئ للتراثين القصصيين: الشرقي والغربي.

وعلاوة على هذا التأثر بالتراث العربي، نلاحظ أنّ هذه المجموعات القصصية تأثرت من حيث البنية الكلية بالتراث القصصي العربي، أي بالبنية المعروفة بالقصة الإطار التي تتضمن قصصاً كثيرة، يتخذ كلّ منها موقعه في بنيته الكلية الذي يؤدي منه دوراً، في الوقت نفسه الذي يستقل في بنيته الخاصة.

 

قصص الأطفال:

وإن رأينا قصص الأطفال، للاحظنا أنّ التفاعل اللغوي الأدبي كان له تأثير كبير فيه، وفي ما يأتي سنشير إلى نشأته، ونشير إلى نصوص تؤكد صحة ما نذهب إليه.

من الحقائق المعروفة، في تاريخ الأدب، أنّ الأدب المصنف أدب أطفال، استناداً إلى مفهومه الحديث، حديث النشأة في العالم، وليس في الأدب العربي وحده.

ويبدو واضحاً أنّ كتاب الأطفال الأوربيين استفادوا من التراث العربي الغني بالحكايات، فالثقافة الشعبية الآتية من الشرق، وقصصها كانت رائجة ومستحبة، وقد اقتبس كثير من كتّاب الغرب، في تلك الأيام، من هذه القصص مادة خصبة لقصصهم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما أحدثته ترجمة "ألف ليلة وليلة"، من "أثر كبير في ذيوع قصص الحكايات والخرافات المستجدة منها". ونشير إلى أنموذجين متطابقين هما: "البطة والقمر" لتولستوي، و"خطأ البطة" لابن المقفع.

 

التفاعل اللغوي/ الأدبي بداية القصِّ العربي الحديث:

وإذ ركدت حركة الإبداع الأدبي العربي طوال ركود الحياة، بمختلف نواحيها، في العهد العثماني، لم يؤت بجديد في مجال القصِّ، في الأدب العربي، ثمّ كان ما سمي بـ"حركة النهضة" على مختلف المستويات، ومنها المستوى الأدبي بعامة والقصصي بخاصة، وتتالت الدعوة التي رفعها ميخائيل نعيمة: "فلنترجم"، وكانت هذه الدعوة تعبيراً عن إرادة التفاعل اللغوي/ الأدبي/ الثقافي.

ويرى القاص وكاتب المقالة المصري يحيى حقي (1905-1992) أنّ "العطر الخفي الذي يجعل من القصة فناً لم يفز به سوى المتصلين بالثقافة الغربية..."، ولا يلبث أن يقرر: ولما كانت فنية القصة تعود إلى الاتصال بالثقافة الغربية "فلا ضير في أن نعترف بأنّ القصة جاءتنا من الغرب، وأنّ أول من أقام قواعدها عندنا هم أفراد تأثروا بالأدب الأوربي، والأدب الفرنسي خاصة"، ويخلص إلى التأكيد "أنّ الأدب الفرنسي كان منبع القصة عندنا".

نحتاج هنا، إلى أن نكون أكثر دقة، فالصحيح، أوّلاً، هو حدوث التفاعل اللغوي/ الأدبي الذي أثمر القصِّ العربي الحديث، والصحيح ثانياً أنّ هذا القصِّ مرّ بمراحل ثلاث هي: الترجمة والمحاكاة والابتداع، لكن الصحيح أيضاً، وبالمقدار نفسه من الصحة، أوّلاً، أنّ عوامل أخرى أسهمت في تفتح زهرات هذا القص ونضج ثمراته، ومنها: التحولات الحياتية، والاتصال بالتراث، وثانياً، أنّ التراث العربي، كما مرّ بنا، عرف أنواعاً من القصِّ، أسهمت في نشأة القصِّ الحديث في أوربا، وثانياً، وهذا أمر شديد الأهمية، أنّ العطر الخفي للقصِّ، أو الخصائص الأدبية التي تجعل النص قصة فنية لا تقتصر على خصائص نماذج القصِّ الحديث، وإنما تشمل خصائص أي نوع قصصي يتصف بجمالية أدبية مهيمنة، وهذا يعني أنّ لكلِّ نوع قصصي جماليته، ولا تنحصر الجمالية القصصية في خصائص نوع معين، تتخذ مقياساً تحاكم الأنواع القصصية الأخرى وفاقاً لها.

إننا، إذ ندرك أنّ الخصائص التي يعنيها يحيى حقي، ويسميها بـ"العطر الخفي"، ليست سوى خصائص مستقاة من نماذج أنتجتها مرحلة تاريخية معينة، وإذ ندرك أيضاً أنها تميز أشكالاً غير ثابتة، فقد سبقتها أشكال وتلتها أشكال أخرى، وسوف تستمر الأشكال في الانبثاق ما استمرت الحياة في التحول. إننا إذ ندرك هذا نسأل: أليست تلك الأشكال السالفة والتالية قصصاً فنية ذات عطر خفي، وإن لم تتمثل فيها الخصائص المعينة المعنية؟!

إنّ هناك فرقاً بين خصائص فنية تتصف بها أشكال قصصية أنتجت في مرحلة معينة من التاريخ وبين "العطر الخفي" الذي يجعل القصة أدباً. إنّ هذا العنصر/ العطر الخفي، أي الخصائص الأدبية، يستخرج من النص، ولا يفرض من خارجه، ولا يمكن قصره على أشكال معيّنة مهما بلغت من الرقي، وأيا يكن إحساسنا بتفوق منتجها.

 

التفاعل اللغوي/ الأدبي تأصيل القصِّ العربي الحديث، والتجريب:

مرّ التفاعل اللغوي الأدبي الذي كان يتم في مسار التحول الحياتي، كما مرّ بنا، بمراحل ثلاث (الترجمة، المحاكاة والابتداع) أدت إلى تأصيل القصِّ العربي الحديث، ومن ثمّ إلى التجريب المختلف عن القصِّ الغربي الحديث، ويمكن أن نقدم شاهدين يؤيدان ما نذهب إليه، يمثل أوّلهما المرحلة الأولى من مراحل هذا القصِّ، ويمثل ثانيهما المرحلة الأخيرة من مراحله، وفي كلِّ مرحلة كان هناك تفاعل أثمر تأثراً واختلافاً في آن.

في الشاهد الأوّل يقرر روجر آلن، وهو يراجع ما كان قد ذهب إليه، أنّ التعريفات الأوربية الضيقة للجنس الروائي ليست المقياس الوحيد للأدبية الروائية، فيقول: "... ففي كتابي Apivod of Time أشرت إلى أنّ حديث عيسى بن هشام ليس رواية، ولكن تبيّن، وأنا أنظر إلى الوراء من مسافة زمنية أطول، أنّه من الأفضل القول: إنّه ليس رواية تطابق التعريفات الغربية الضيقة لهذا الجنس الأدبي".

وفي الشاهد الثاني يأسف جون إبديك، في مقالته النقدية عن النص المترجم لرواية عبدالرحمن منيف: "مدن الملح – التيه"، لأنّ هذه الرواية لا تتبع الأنموذج الغربي، فيقول: "إنّه لمن المؤسف حقا أنّ السيد منيف، كما يبدو، ليس من المستغربين إلى حد الكفاية، حتى ينتج سرداً يشابه ما نسميه رواية، فصوته صوت مفسِّر في مخيَّم قبيلة، ولا يوجد في كتابه أي أثر لحس المغامرة الخلقية للفرد الذي يميز جنس الرواية، من دون كيخوته وروبنسون كروز، عن الأسطورة والخبر التاريخي".

إن كان جون أبديك يأسف، فإننا نغتبط ونقول: "إنّه لمن دواعي الغبطة أنّ منيف ليس من المستغربين إلى حد الكفاية"، وأنّ أمثاله كثيرون ويكثرون، ذلك أنّ هذا النوع من التفاعل هو الذي يؤتي الإبداع الحقيقي، المتجاوز للنقل إلى التفاعل الخلّاق. وهذا التفاعل إنما يتم بين عوامل عديدة تشكل التحول الحياتي المتجسد في التحول الأدبي، ومن هذه العامل الاتصال بالآخر وبنتاجه اللغوي الأدبي.

وهكذا يبدو واضحاً أنّ ما سبق يفيد بأنّ التفاعل اللغوي/ الأدبي في طوريه كان عاملاً مهما في نشأة القصِّ الحديث وتطويره في الأدبين الغربي والعربي على السواء.

 

منحى آخر... إلغاء الآخر:

لكن يبقى أن نشير إلى منحى آخر من مناحي هذا التفاعل اللغوي/ الأدبي، ففي هذه الآونة من الزمن، يحدث الآتي: عندما تترجم الرواية العربية إلى اللغة العربية، ويرى المترجم أنّ رؤيتها تخالف رؤيته إلى قضية مهمة من قضايا العصر، ولتكن قضية العرب المركزية، أي قضية الصراع العربي/ الإسرائيلي مثالا، نلحظ أنّ المترجم، في حالات كثيرة، يتصرف بالنص تصرفاً يغير الدلالة، ويفرغه من رؤيته، أي يجعله "مخصياً"، لا يقول ولا يفعل ويفقد الفاعلية.

وهذا ما حدث لرواية "غاندي الصغير" لإلياس خوري، على سبيل المثال، إذ إنّ هذه الرواية تحكي أنّ الإسرائيليين قتلوا المواطن العادي الصغير، عبدالكريم الملقب بغاندي الصغير، وعرف هذا أنّ الرصاصات لم تكن موجهة له فحسب، بل كانت موجهة له ولقلب المدينة بيروت في آن.

لكن الرواية المترجمة تغير النص، وتنسب فعل القتل إلى مجهول. جاء في النص العربي على الإسرائيليين: "ولكنهم أطلقوا النار، تركوه يسقط فوق الصندوق". وجاء في النص المترجم: "sue la caisseen tout cas, on avait tire, et il etait tombee".

والسؤال الذي يطرح، هنا، هو: هل المطلوب إلغاء "نا"، منا كي يقبل الآخر الغربي كتابتنا ويترجمها إلى لغته؟ هل يريد لكتابتنا أن تنطق برؤيته إلى قضايانا ليقبلها ويضع كُتّابها نجوماً؟! هل هذا هو ثمن الترجمة؟ وإذ تلغى "نا" منّا، ومن تجربتنا الممثِّلة خصوصيتنا وهويتنا، فماذا يبقى ليتم التفاعل معه في هذا العصر؟ هل يعني هذا أن ليس لنا من محل إلا إذا تخلينا عن ذواتنا وخصوصيتنا؟ ولكن إذا تم هذا التخلي، فهل يكون ذلك المحل محلاً لنا فعلا، أم محلاً يخصصه الآخر لنا بوصفه موقعاً نؤدي منه دوراً في خدمة مشروعه؟

وهذا يضع التفاعل، في هذه المرحلة من التاريخ، في وضع جديد، يقتضي منا أن نسعى إلى إبداع تجربتنا الخاصة، بوصفها وليدة تفاعل مختلف العوامل، وبهذا نؤكد حضورنا المبدع الممتلك فاعلية جعل الآخر يسعى إلى معرفته والتفاعل معه.

 

* أكاديمي من لبنان

المصدر: مجلة العربي/ العدد 670 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top