◄إنّ القرآن الكريم يقسِّم البشر إلى قسمين: قسم يتحكم الفكر فيهم، وتقوم سائر شؤون حياتهم على أساس إيماني ثابت بحيث أنّ إيمانهم الراسخ والثابت يطغي على جميع شؤون حياتهم الأُخرى. وقد سمَّينا هؤلاء بالمنطقيين والعقليين، وقسم آخر لم يصلوا إلى حد البلوغ المنطقي والعقلي، ولا يستند إيمانهم إلى الاستدلال واليقين، وتنشأ أفكارهم من سلسلة من المبادئ والعلل التي تفتقر إلى الأُسس، ويشكل هؤلاء الأكثرية من بين أفراد البشر، وتكون أفكارهم العوبة لسائر شؤون حياتهم. ولذلك فإنّ القرآن الكريم يرفض النظرية القائلة بتبعية الفكر لشؤون الحياة الأُخرى بصورة مطلقة، كما يرفض النظرية القائلة بأصالة وتقدم الفكر على سائر شؤون الحياة بصورة مطلقة.
وقلنا أيضاً أنّ القرآن بيَّن أُسس الأفكار، كما بيَّن التصوُّرات التي تفتقر إلى الأُسس، وبذلك تقدَّم القرآن على جميع مفكري العالم.
إنّ أحد مبادئ التصوُّرات الخاطئة للإنسان "أي التصورات التي تفتقر إلى الأُسس وتتعرض إلى التغيير والتحول" هو استخدامه الظنَّ بدلاً من العلم واليقين! فيما يصر القرآن على اتباع العلم واليقين فقط.
كما يذكر القرآن مصادر أُخرى للأفكار التي تفتقر إلى الأُسس، ويشبهها بالشجرة التي لا جذور لها والتقليد هو من جملة هذه المصادر.
وبديهي أنّ القرآن لا يصف هذا المصدر بالتقليد، وانما يعبِّر عنه بـ"الطاعة العمياء للأسلاف" وهذا موضوع أكَّد عليه القرآن كثيراً، واعتبره منشأ إنحراف وخطأ البشر وانتقده بشدة. يقول القرآن بأنّ هؤلاء يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).
ويسمى ذلك بتعبير اليوم اتّباع التقاليد (سواء أكان هذا التعبير صحيحاً أم خطأ أو استطعنا أو لم نستطع إيجاد تعبير له لا شأن لنا في ذلك، لكن على أي حال فإنَّ هذه الكلمة شائعة).
والقرآن الكريم يدين اتباع السنن. وهذا لا يعني أنّه يؤيد الأفكار التي تقف ضد اتِّباع السنن، فهو يرفض هاتين الفكرتين. ولم يرفضهما؟ الجواب: لأنّه يؤيد اتباع العقل والمنطق فقط.
ولماذا يدين البشر الذين يتَّبعون السنن القديمة كما فعل أسلافهم؟ الجواب: لأنّ آباء وأجداد هؤلاء يمكن أن كانوا على خطأ ومفتقرين إلى العقل والشعور. والذين يقولون إنّ أجدادنا كانوا يفعلون كذا وكذا، وعلينا أن نتَّبع سننهم فهم على خطأ. يقول القرآن: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) (البقرة/ 170).
فإذا كان آباؤهم يفعلون هكذا وهم يرون أنّ هذا العمل ليس صحيحاً ودليل على حماقة أسلافهم، فلماذا يجددون هذه الحماقة؟ انّهم يرتكبون حماقة حين يسعون إلى إحياء هذه السنن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ القرآن لا يرفض جميع السنن. على سبيل المثال أنّ قسماً من الناس يميلون نحو التجديد، فهل أنّ الميل نحو التجديد يعتبر صحيحاً؟ كلا أنّ ذلك لا يعتبر صحيحاً، بمعنى أنّ كل شيء جديد لا يدل على النمو والتكامل والتقدم، لأنّ كل قديم كان جديداً في بداية أمره، وكل سُنَّة حمقاء كانت حديثة في يوم ما، فهل أنها كانت صحيحة عندما كانت حديثة حتى تكون سيئة الآن؟ كلا! أنها كانت خاطئة حتى عندما كانت حديثة.
ويحث القرآن على إحياء الحقيقة والعقل والمنطق لدى الإنسان، ثمّ تقييم السنن بمعيار العقل والحقيقة لمعرفة ما إذا كانت حسنة أو سيئة. فإذا كانت صحيحة أمكن اتباعها، وإذا كانت خاطئة فلابدّ من نبذها حتى لو كانت متبعة من قبل الأسلاف. لكن كيف الحال بالنسبة للأمور الحديثة؟
إنّ الأمور الحديثة شأنها شأن القديمة لابدّ وأن تقاس بالعقل والنقد والحقيقة (فكل جديد ليس دليلاً على الحقيقة) إذ من الواجب معرفة صحة أو خطأ الشيء الجديد؟ فإذا كانت ذلك الشيء الجديد صحيحاً، فمن الممكن اتباعه وإلا فلا.
إنّ بعض الناس يبحثون عن أحدث الأشياء الموجودة في أوربا مثلاً...، يبحثون عن أحدث الأحذية والملابس والقبعات الموجودة خلال السنة، فإذا سمعوا بأزياء حديثة سارعوا لشرائها، فهم بعملهم هذا يحكمون على أنفسهم بأنهم يفتقرون إلى الذوق والفكر، ويقولون إنّ أفكارنا وأذواقنا وعقولنا ليست مقاييس، لأنّ ما يبتكره المصممون الفرنسيون (على سبيل المثال) هو الصحيح!
وابتكار الموضة يعتبر من المكائد الشيطانية للعالم الرأسمالي في مجال زيادة الإستهلاك، فالعالم الرأسمالي في مجال زيادة الإستهلاك، فالعالم الرأسمالي يستخدم آلاف المكائد من أجل تقييد الشعوب المستهلكة. وتعتبر الموضة التي يأتي بها المصممون إحدى هذه المكائد، فهؤلاء المستغلون ينفذون برنامجاً استعمارياً لبيع منتجات مصانعهم (سواء أكانت من المنسوجات أم من غير المنسوجات) فإن لم تبع، توقفت مصانعهم. ومن هنا كان لابدّ من استمرار دوران عجلة مصانعهم. وهؤلاء يرون أنفسهم ملزمين على أن ينتجوا من جهة، وتُستهلك منتجاتهم من جهة أخرى ثمّ يقوموا بتهيئة المواد الخام من أجل الإنتاج مرة أخرى.
إنّ عجلة الإنتاج ليست كأرض زراعية يمكن الحفاظ عليها، أنها تشبه قصة الشخص الذي يسخِّر الجن، إذ لابدّ له أن يجعل المسخَّر منشغلاً وإلا مزَّقه الجن. فما دام الجنَّ منشغلاً فهو هادئ، ولو لم يكن هناك عمل فلابدّ من تشغيله كأن يؤمر بنقل تل رملي إلى مكان آخر (وبالطبع فإنّ هذه القصة تعتبر من الأساطير).
والجن في هذه القصة تبدَّل اليوم إلى ماكنة، أي أنّ الماكنة لابدّ لها أن تنتج ويُستهلك انتاجها. وإذا توقف الاستهلاك لمدة ستة أشهر في النظام الرأسمالي، لإنهار صرح هذا النظام على رأس صاحبه. ولذلك يستخدم هؤلاء أنواع المكائد والوسائل ومنها انتاج أنواع الأحذية والملابس بصورة مستمرة لكي نستهلكها نحن.
إننا إذا ابتعنا في هذه السنة ثوباً فانّها قد تسد حاجتنا لثلاثة أعوام. لكن هؤلاء المستغلين يصرون على أنّ موضة هذا الثوب أصبحت قديمة ولابدّ من استبدالها حتى وإنْ كانت جيِّدة وقابلة للاستفادة! انهم يريدوننا أن نكون خدماً نستهلك منتجاتهم. وهذا يعني أن نكدح ونتعب على أن تدخل نقودنا في جيوب هؤلاء الجشعين.
وهذه خدعة ناتجة عن العبادة اللامنطقية للأشياء الجديدة. فحب الإنسان للأشياء الجديدة يجب أن يكون ناتجاً عن أفضلية تلك الأشياء على مثيلاتها السابقة. ولكن يجب أن لا يكون حبه لها لمجرد أنها جديدة. لاحظوا الأقمشة مثلاً، ففي بعض الأحيان تكون الأقمشة المنتجة أقل جودة من سابقتها، فقد نلاحظ أنّ الأقمشة المنتجة خلال الفترة الأخيرة مثلاً أقل جودة من السنين السابقة، فهل يجب أن نقبل الشيء الرديء المنتج لكونه انتج حديثاً ونترك الشيء الجيِّد المنتج قبل ثلاث سنوات لكونه قديماً؟ كلا هذا ليس صحيحاً.
والتقليد الذي ينبذه القرآن معناه اتباع السنن بصورة غير منطقية ودون الإستناد إلى أي معيار. فالقرآن يؤكد بطلان هذا النوع من التقليد، ويعتبره أحد أسباب إنحراف البشر.
إنّ كل الأنبياء حاربوا اتِّباع السنن أو التقاليد الخاطئة... كانوا يرغبون في أن تكون للبشر حرية فكرية، لأنّ الإنسان الذي يتمتع بحرية فكرية لا يجعل من اتِّباع سُنن أسلافه ملاكاً لعمله.
ومن الأمور الأخرى التي يعتبرها القرآن أحد عوامل الإنحراف والخطايا والتصورات الخاطئة، هو اتباع الأكابر. وهناك فرق بين اتِّباع الأكابر واتباع القدماء، ذلك أنّ كل شيء تمر عليه فترة يتخذ طابع التقديس، وما أن يصبح سُنّةً حتى يتخذ طابعاً مقدساً، سواء أكان هؤلاء الأفراد أكابراً في نظرنا أو لم يكونوا.
وفي كل مجتمع يبرز أفراد، فمثلاً يبرز البعض منهم في المجال السياسي فيعتبرونهم أبطالاً سياسيين، أو يبرزون في المجال العلمي أو الرياضي، فيما يبرز قسم آخر في المجال الفني. فهؤلاء يعتبرون أبطالاً في مجتمعهم، وتتوجه إليهم الأنظار ويبدأ البعض بتقليدهم. وهذا النوع من التقليد لا يعتبر تقليداً للأسلاف، بل هو تقليد للأكابر. انّهم يتَّبعون أفكار وكلام الأكابر لأنّهم عظماء لا لكون عملهم أو كلامهم منطقياً. لكن طالب العلوم الدينية عندما يعيش في محيط يتواجد فيه على سبيل المثال روحاني عظيم كالمرحوم البروجردي، وقام الأخير بعملٍ ما وفق ما يقتضيه اجتهاده، فعلى طالب العلم الذي لم يصل إلى مرحلة الاجتهاد أن يتَّبع مثل هذا الشخص. ولكن لنفترض انّ المرحوم البروجردي كان ينتخب لوناً ما لملابسه أو كان يضع عباءته على كتفه بشكل معيّن. فإنّ تقليد طالب العلم لأُستاذه من هذه الناحية ليس صحيحاً.
ومن الملاحظ أنّ الكثير من الشباب يقلدون حركات بعض الأبطال الرياضيين، كما يقلدون الفنانين جهلاً.
والتقليد في الأمور الصغيرة ليس أمراً خطيراً، ولكن تقليد الكبراء في الأمور المهمة أمر خطير يدينه القرآن: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا...) (البقرة/ 166).
وعندما يحين يوم القيامة، يُسأل قسم من أفراد البشر عن سبب إنحرافهم عن الصراط السوي، فيجيبون قائلين: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67)، لكن هذا العذر غير مقبول عند الباري تعالى، لأنّ هؤلاء لم يحكموا منطقهم وعقولهم في اتّباعهم لأقوال وأفعال الكبراء.
ومن العوامل المهمة في زلل الإنسان، والتي ذكرت في القرآن مسألة اتباع هوى النفس، وهي مسألة مهمة جدّاً، ذلك أنّ الإنسان يتقبَّل الكثير من التصورات تبعاً لهواه لا تبعاً لمنطقة. ومن المستحسن أن نضرب مثلاً يتعلق باتِّباع الهوى في الشؤون السياسية والاجتماعية، فعندما رشَّح كندي نفسه لرئاسة الجمهورية في أميركا، كتبت إحدى الصحف الصادرة آنذاك أنّ أحد الناخبين وزوجته سُئلا عن سبب إنتخابهم لكندي، فأجاب الرجل بأنّ سبب إنتخابه لكندي يعود إلى إعجابه بجمال زوجة كندي! أما المرأة فأجابت أن سبب إنتخابها لكندي يعود إلى إعجابها بهندامه وجماله!
هذا المثال يعتبر أحد الأمثلة التي تتعلق بالشؤون السياسية، ولذلك فقد يحل هوى النفس محل المنطق في عمل ما. وهناك أمثلة كثيرة في اتِّباع الإنسان لهواه، ففي بعض الأحيان تكون هناك أمور تتلاءم مع هوى نفس الإنسان ولا تتلاءم مع منطقه وعقله ودينه، ونتيجة لتلاؤم هذه الأمور مع هواه فأنه يؤطرها بأطر دينية.
إنّ البروجردي الذي كان قد وصل إلى المرجعية بعد وفاة المرحوم الأصفهاني، دعا جميع مسؤولي المواكب الحسينية الموجودة في قم في اليوم السادس أو السابع من شهر محرم للحضور في منزله فسأله عن المرجع الذي يقلدونه فأجابوا بأنهم يقلدونه (البروجردي) فقال لهم: في رأيي أنّ الكثير من الأعمال التي تقومون بها في مواكب العزاء ليست صحيحة، فأطرق الجميع رؤوسهم (انّهم كانوا في الواقع يريدون أن يكون يوم عاشوراء يوم استعراض وتسلية ويوم عرض للفنون) وبعد هنيهة قال أحدهم للبروجردي: يا سيددنا اننا نقلدك في 353 يوماً من أيام السنة القمرية التي تتكون من 354 يوماً، ولا نقلدك في يوم واحد!! (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ...) (النجم/ 23).
وعندما يتَّبع الإنسان هواه، فإنّ عمله يصبح متناقضاً مع منطقه وحتى مع الشريعة ومع فتوى مرجع التقليد. بالإضافة إلى ذلك فإنّ اتباع الإنسان لهواه يوقعه لا محالة في آلاف الأخطاء التي قد تؤدي إلى إحداث ثورة فكرية. فعندما يذهب الطفل إلى المدرسة ويتعلم بعض الشيء، يبدأ بالإستهزاء في أفكار الوالدين وتصوراتهم إدراج الرياح، فينقلب المجتمع، فلا يأبه أفراده بالأفكار القديمة.
ولكن كيف تتغير مثل هذه الأفكار بتغير الأنظمة الاجتماعية؟ والجواب على ذلك هو أنّ هذه الأفكار ليست منطقية، ولابدّ أن تتغير. فلقد كانت خاطئة منذ ظهورها، كما أنّ إندثارها بعد ذلك يجري هو الآخر بشكل غير منطقي.
كما أنّ القرآن قسَّم الأفكار إلى متينة يمكن الإستناد إليها في جميع شؤون الحياة، وأخرى تفتقر إلى جذور ويذمها القرآن الكريم.
كما يضرب القرآن مثلاً آخر رغم أنّه لم يذكر ذلك على شكل مثال، إلا أنّ سياق الآية تدلُّ على ذلك، فقد جاء في سورة التوبة: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...) (التوبة/ 109).
في هذه الآية يذكر القرآن صنفين من البشر: صنف ترتكز أعمالهم على تقوى الله ورضاه (إنّ تعبير البنيان الشائع في هذه الأيام مأخوذ من القرآن).
إنّ اعجاز القرآن لعجيب... فلقد نزل قبل 1400 سنة، وكان يتحدث بشكل يتضح من خلاله انّه يعرف أي الأقوال ستطرح في المستقبل، ولذلك فإنّه يتكلم بمنطق هؤلاء البشر، إذ يقول لهم: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ...) (.. أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...).
نحن نلاحظ أنّ المياه أثناء الفيضانات ترتطم بجدران الأنهار بشدة بحيث تعمل على تآكل تلك الجدران، فينشأ في بعض الأحيان جدار بطول خمسة أو ستة أمتار وقد يكون أطول من ذلك، إلا أنّ القسم الأسفل من ذلك الجدار يصبح هشاً، غير أنّ الناظر يشاهد جداراً عظيماً، وإذا ما تحرَّك شخص أو شخصين أو ثلاثة أشخاص من فوقه، فلا يحدث شيئاً، ولكن إذا ما وضع فوقه حمل ثقيل أو مرّت عليه شاحنة فمن الممكن أن ينهار. ولنتصور حالة البناء الذي يبنى فوق ذلك الدار. إنّ مثل هذا البناء سينهار بأدنى هزة يتعرض لها، وما أعظم الخسائر التي تقع جراء إنهياره. ويشبِّه القرآن بعض أفراد البشر بالجدار المذكور، فهم يقيمون حياتهم على أساس هش بحيث انّهم يسقطون بسقوط الجدار.
يقال إنّ شخصاً كان ينكر يوم القيامة والسؤال في القبر، حتى جاء أجله. وبعد موته رآه شخص في المنام، فسأله قائلاً: أنك كنت تنكر السؤال في القبر بعد الموت، والآن وقد متَّ، فقل لي هل سُئلت في القبر؟ فأجاب الميّت: كلا لقد ذهبت إلى جهنم مباشرة.
إنّ الآيتين الآنفتين تذكران مرتكزين لشخصية الإنسان:
المرتكز الأول:
الأفكار والتصورات المنطقية ذات الدلالات والبراهين.
المرتكز الثاني:
الإرادة الإنسانية والأخلاقية. وليس المقصود هنا ميول الإنسان وشوقه وشهوته المتواجدة حتى في الحيوانات. فالإنسان يختلف عن الحيوان من حيث الشخصية، إذ له تصورات وإرادة. ولكن متى تترسخ هذه الإرادة؟
الجواب: عندما تلتحم مع التقوى الإلهي. والتقوى حسب المفهوم القرآني تعني السيطرة على النفس. فلو توجَّه الإنسان نحو الله لترسخت تقواه.
فكر الإنسان وتصوره يشكلان نصف شخصيته:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم/ 24).
إنّ الإيمان بالله يعتبر نقطة أساسية في مرحلة التصور عند الإنسان، كما تشكل الإرادة الإنسانية النصف الآخر من شخصيته. وهذه الإرادة لا تتخذ طابعها الحقيقي إلا بعد إتصافها بتقوى الله وطلب رضاه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...).
إذن ما المقصود من الله في حياة الإنسان؟
الجواب: إنّ الله يشكِّل حسب وجهة النظر القرآنية ركني الشخصية الإنسانية، وإذا ماتشكَّل هذين الركنين أو المرتكزين فإنّ جميع شؤون الحياة ستقوم على أساسها، كما أنّ القرآن يجعل هذين المرتكزين يستندان إلى مرتكز آخر هو الإيمان بالله فقط.
والقرآن يرى أنّ جميع شؤون الإنسان قائمة على أساس هذين المرتكزين، وهو لا يريد بذلك أن يقول أنّ كلَّ أفراد البشر هم كذلك. إنّه يريد أن يصنع من الإنسان موجوداً سامياً وكاملاً. ويقصد بالإنسان الكامل، الإنسان الذي يرتكز على أساس إلهي، وتتشكل شخصيته من ركنين هما: التصور والإرادة اللذان يستند إليهما في كل شؤون حياته.
والقرآن أيضاً يريد إنساناً يتصف بهذه الصفات وهذا ما نعنيه في عبارة الله في حياة الإنسان. انّه لا يريد أن يقول إنّ كلَّ أفراد البشر بنفس الصفات.
وعندما يريد البعض أن يبدي وجهة نظره حول الإنسان، فإنّه – عادةً – يأخذ الإنسان الموجودة بنظر الاعتبار، أي الإنسان الذي لا يتباين مع الحيوان، ولا يرى الإنسان الذي تصدق كلمة الإنسانية حوله.
والقرآن لا ينظر إلى الإنسان على أنّه حيوان يمتلك غرائز حيوانية، بل ينظر إليه كإنسان له استعدادات إنسانية... يريده إنساناً متكاملاً.
وخلاصة القول انّ رسالة الإسلام جاءت لبناء مثل هذا الإنسان.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 11 لسنة 1404هـ. ق
ارسال التعليق