• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تجديد الروح في شخصيتنا

تجديد الروح في شخصيتنا

الروح ذلك البُعد الفذ (اللامرئي) في شخصيتنا، الذي يُشكّل الجانب الأهم في حياة الفرد والجماعة.. وهذا الكائن العجيب (الإنسان) إن هو إلّا مزيج من نفخة الروح وقبضة الطين، وهو أبداً متردد بين الاستجابة لمطالبهما التي لا تنتهي.

وحين انبعثت أُمّة الإسلام في بناء عالم جديد على هدي جديد كانت روحها طليقة بصورة لم تعهدها البشرية من قبل؛ فلا قيود ولا رسوم ولا أشكال، وإنّما التدفق بالعطاء والتضحية والإيثار والبذل والتفاني والتجاوز لكلّ محددات المكان وإرث الزمان ومحدودية العقل، على نحو مؤثر ومثير، مازلنا نتنسم عبيره كلما طالعناه، أو تذكرناه.

لم تكن القوانين والنُّظم والأُطر واضحة في زمان النبيّ (ص)، زمان الانطلاقة الكبرى، حيث استغنى الناس بإيمانهم وثقتهم ورغبتهم فيما عند الله – تعالى – عن ملاحقة الحقوق واقتناص الفرص للكسب الشخصي، وإنّما كان الهمُّ الأكبر هو الحصول على فرصة للتقرُّب إلى الله – تعالى – ونيل رضوانه، على نحو ما نجده في حياة الصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم.

لم يكن العطاء والأداء متوقفاً على درجة الإلزام الشرعي لما يقومون به، بل إنّ كثيراً من الصحابة لم يتأصّل في وعيهم الفرق بين الواجب والمندوب؛ فالمسارعة إلى كلّ منهما حاصلة. كما لم يكن هناك حاجة إلى التدقيق في الفصل بين المحرَّم والمكروه؛ فكلّ منهما موضع توقٍ واحتراز! وذلك مجسَّد فيما نشاهده في العلاقة الأسرية؛ فالابن البارّ لا يخطر في خلده شيء من التفريق بين ما يجب تنفيذه من أمر والديه وما يُستحب؛ فمحبوبات الأبوين كلّها أوامر لا تحتمل التأخير!

وكان تقسيم الأصوليين الحكم التكليفي إلى واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم، وبلورة الحدود بينها – فيما بعد – أمراً لابدّ منه؛ لكنّه كان يومئ من بعيد إلى أنّ شيئاً ما في تدفق الروح الإسلامي قد حدث.

وحين تعمد الأُمّة إلى تجسيد روحها في رسوم وشكليات ونُظم ولوائح، إنّها تقوم في الحقيقة بتنظيم الوعي المدني لديها. وذلك أمر لابدّ منه. لكن المشكلة التي تواجهها الأُمم أنّ روح المدنية حين تضعف وتبدأ بالانسحاب من الأشكال الحضارية، تكون تلك الأشكال هي البديل الجاهز عن ذلك الروح، بل ربّما أغرت بإضعافه والاستهانة به، من خداعها وإيهامها بالإغناء عنه!

وحين تنسحب الروح تصبح الأشكال والنُّظم واللوائح، عبارة عن قيود لا قيمة لها؛ فهي لا تحقق خيراً، ولا تردع عن شر، بل ربّما صارت أدوات ظالمة يستفيد منها الأقوياء، وتستخدم ضد الضعفاء! ولا تخلو دولة في الدنيا من نظام قضائي ولوائح تحدد الحقوق والواجبات، لكن كلّ ذلك لا يجدي شيئاً إذا ماتت روح المدنية، وسيطر الهم الخاص، والمتأمِّل في تاريخ هذه الأُمّة يجد صدق ما نقول.

وممّا لا يحتاج إلى بيان أنّ التوتر الروحي يظل ملموساً لدى أفراد كثيرين في الأُمّة، لكن أولئك الأفراد لا يشكّلون الكتلة الحرجة الكافية لصبغ الأُمّة بصباغ ذلك التوتر. ومن ثمّ فإنّه في حال أفول فاعلية الروح لدى السواد الأعظم من الناس، يصبح أولئك الأفراد غرباء، وتكون مواقفهم موضع دهشة واستغراب، حيث يتعوّد المجتمع عدم القيام بأي جهد دون مقابل. وحيث تصبح الشجاعة تهوراً، والكرم تبذيراً، والاهتمام بالشأن العام مضيعة للعمر!.

 

- استعمار الروح:

دخلت أُمّة الإسلام العصور الحديثة وقد خبت فيها روح الانطلاقة الأولى، كما فقدت مبادئها الفاعلية في توجيه سلوك كثير من أبنائها. وكان ذلك سبباً جوهرياً في إمكانية وقوعها تحت تأثير ضغوط الحضارة الغربية. تلك الحضارة التي خاضت ضدّ الروح الإنسانية حرباً لا هوادة فيها، إلى أن انتهت إلى الاعتقاد بأنّ المعرفة العلمية وحدها قادرة على خلاص البشرية من الشقاء والتعاسة والظلم والظلام.. كما انتهت في الوقت ذاته إلى أنّ فكرة وجود جوهر إنساني ثابت تجب الصيرورة إليه وتحقيقه ليست فكرة لا تقبل الجدل، بل إنّ التوكيد المستمر على وجوب تحقيق الذات الفردية المبدعة التي تنشئ عالمها الخاص، إلى جانب إضفاء أهمية خاصّة على المتمردين على الأعراف والفنانين الأحرار والمنبوذين والعدميين والوجوديين، كلّ ذلك يوحي بأنّه لا يوجد شيء ثابت ولا إطار إنساني يُحتكم إليه عند الخلاف! وهكذا صارت شفافية الروح والاستعلاء على المادة والغرائز والشهوات أمراً غير مفهوم لدى الكثيرين من المواطنين الغربيين.

وحين جرى احتكاك حضاري بيننا وبينهم، تمكّنوا من خلال تفوقهم المادي الكبير أن يحتلوا وعي المسلم، وأن يستعمروا روحه! وهكذا حلَّت الرغبة في حيازة الأشياء محل الغبطة والبهجة والسعادة العميقة والتذوق الأدبي الرفيع، وساد نمط الاستهلاك الغربي، وارتقى العلم – عند كثيرين – إلى مرتبة الإيمان، وحلَّ محلّه.

ومن خلال امتلاك الغرب لمصادر المعلومات وروح المبادرة الحضارية، صار المسلم عاجزاً عن فهم ذاته وشروط وجوده وأهداف نشاطه إلّا من خلال مقولات الغرب عنه. وهناك من إخواننا مَن يزعم أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، وهم عندي لا يختلفون عمّن يترنّم في المقابر!!

 

- روح جديدة:

لم يشهد العالم الإسلامي منذ قرون يقظة للروح الإسلامية على نحو ما نراه اليوم على مستوى العمق، وعلى صعيد الشمول. وذلك كلّه من الوعد الصادق بتجديد هذا الدين كلّما كادت شعلته أن تنطفئ، وكادت معاهده أن تندرس.

فالصحوة المباركة – على الرغم من كلّ ما ينقصها – بعثت روحاً جديداً في الكيان الإسلامي الكبير. هذا الروح تستمد ماءها ورواءها وقوّة اندفاعها من مبادئ الإسلام الخالدة، ومن الروح التي سكنت النهضة المباركة التي فجّر شرارتها الأولى النبيّ (ص)، حيث يشهد جيلنا تياراً هادراً من التضحيات والعطاءات السخية التي نعدها امتداداً لتضحيات الأجيال السابقة في نشر أعلام هذا الدين.

هذه الأوبة الراقية فرصة نادرة للمدنية الإسلامية، كيما تعيد تأسيس ذاتها وصقل جوهرها وبعث الحياة في أوصالها.. وما يقع من أخطاء وتجاوزات من بعض الشباب لا ينبغي أن يصرف الأُمّة عن أن تقبس من رمزية هذه الصحوة ما تصحح به مسار حياتها، وتحرر به وجدانها، وما تتعلّم منه كيفية بناء قيم التضامن والتكافل والتضحية والبذل المجاني، وقيم الألفة والمودة والتسامح.

إنّ الصحوة لم تعم كلّ المسلمين؛ فمازال كثير من شريحة النخب الثقافية لدينا بعيدين عنها؛ كما أنّ روح كثير من العامّة فقدت الكثير من شفافيتها وانحسر مجال إبداعها الحيوي. ولابدّ من جهاد لا يعرف الكلل في سبيل تحرير روحهم من ربقة المادّة وعبودية الشهوات والغرائز والأنانية الفردية والجماعية.

ولن نحرز الكثير ممّا نريد ما لم تتجسّد المعاني التي نتطلّع إليها في سلوك نسبة من أبناء الأُمّة تبلغ النقطة الحرجة، وتشكل حربة التغيير والتجديد، وتعلّمنا بسلوكها كيف يتم انتصار نفخة الروح على قبضة الطين.!

 

المصدر: كتاب من أجل انطلاقة حضارية شاملة

ارسال التعليق

Top