• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البُعد الروحي في الإنسان.. موقعاً وموقفاً

البُعد الروحي في الإنسان.. موقعاً وموقفاً
إنسجاماً مع الإتجاه الواقعي الذي يلتزمه الإسلام الحنيف في تعامله مع الأشياء والحقائق والأحداث، فقد تبنّى الإسلام نهجاً متميزاً في تلبية المطالب الروحية لدى الإنسان، يحرص هذا المنهج على تلبية مطالب الأشواق الروحية لدى الإنسان من خلال أفضل السُّبُل وأقومها، مع المحافظة على خطة التوازن بينها وبين المطالب المادّية في كيان الإنسان، وقد كان المنهاج التربوي الذي سلكه الإسلام الحنيف وفق هذين المحورين فريداً متميزاً يجعل الإنسان المسلم دائم التسبيح، دائم الإتصال ودائم الذِّكر لله ربّ العالمين، فصحيح أنّ الصلوات والصيام والدعاء وقراءة القرآن الكريم والإستغفار والأوراد وما إليها ينابيع روحيّة تمدّ جسور الصلة بالله الواحد الأحد، فتسبح فيها الأشواق الروحية مسبِّحة ذاكرة، فينقلب الإنسان ريّاً رويّاً راضياً، إلا أنّها ليست نهاية المطاف. فالإسلام الحنيف يعطي العبادة مفهوماً شاملاً عميقاً، إذ كل عمل يعمله الإنسان تلبية وطاعة لله عزّوجل فهو عبادة، وكل أمر ينأى ابن آدم عنه تقرُّباً وطلباً للثواب فهو عبادة، وكل سبيل يسلكه المؤمن وقد ندب الباري عزّوجل إليه، فهو عبادة. وهكذا يكون المسلم الذي هذا نهجه وكأنّه في خشوع دائم وتطلُّع دائم إلى الله عزّوجل تجسيداً لقوله تعالى: (قُل إنّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومَماتي لله ربّ العالمين) (الأنعام/ 162). إنّه في عبادة وهو في محرابه، كما هو في عبادة وهو في مكتبه، وهو في عبادة عندما يكون في متجره وعيادته أو قاعة درسه أو ساحة جهاده، إنّه الإتصال الدائم بالله جلّ وعلا، واستشعار وجوده، وعظمته في كل آن. على أنّ الإسلام الحنيف قد وضع محطات دائمة أخرى على طريق المسيرة الإنسانية هي غير الصلاة والصيام وما إليها، فهناك: -        إستشعار وجود الله تعالى فيما حول الإنسان من حقائق وأشياء ومخلوقات تملأ ساحات النفس والآفاق، في السماء والأرض والحيوان والنبات والجماد، وكل دقيق وجليل فضلاً عن الإنسان هذا المخلوق العجيب. -        المراقبة الدائمة الواعية لله تعالى، واستشعار مخافته والشعور بهيمنته في كل حقل وفكرة ونشاط. -        التوكل على الله تعالى في الأُمور كلّها. -        اللجوء إلى الله والتسليم له جلّ شأنه وعلا. -        التقوى والعمل الصالح كما شاء الله ربّ العالمين. إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات الموقظة الموحية التي تُعمِّق تلك المبادئ الهادية. ففي حقل الشعور بعظمة الله عزّوجل من خلال مخلوقاته، نقرأ هذا النموذج: (واللهُ خَلَقَكُم مِن تُرابٍ ثمّ مِن نُطفَةٍ ثمّ جعلكم أزواجاً وما تحمِلُ مِن أُنثى ولا تضعُ إلا بعلمه وما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّر ولا يُنقَصُ مِن عُمره إلا في كتاب إنّ ذلك على الله يسير وما يستوي البحرانِ هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كلٍّ تأكلون لحماً طريّاً وتستخرجون حليةً تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولجُ النهار في الليل وسخَّر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجلٍ مسمّى ذلك الله ربُّكُم له المُلكُ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) (فاطر/ 11-13). وفي حقل مراقبة الله تعالى الدائمة للعباد، يقول عزّوجل: (ألَم تَرَ أنّ الله يعلمُ ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعُهُم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينبِّئُهُم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلِّ شيءٍ عليم) (المجادلة/ 7). ويسلِّط القرآن الضوء على قيمة الخشوع والتقوى لله تعالى وآثارها العظيمة في مسيرة المؤمنين، فيقول تبارك وتعالى: (قَد أفلَحَ المؤمنونَ الذين هُم في صَلاتِهِم خاشعون والذين هُم عن اللغو مُعرِضُونَ والذين هُم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانُهُم فإنّهم غيرُ ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (المؤمنون/ 1-11). وفي القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تحثُّ على التوكل والصبر والتسليم لله ربّ العالمين. وحول المحاور التي أشرنا إليها، يتحدّث أمير المؤمنين علي (ع) حديث العبرة والتدبير والتعليم. فحول حقيقة التقوى وأبعادها، يقول علي (ع): "فاتّقوا الله تقية مَنْ سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، وعبر فاعتبر، وحُذِّر فحذر، وزُحِر فازدجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، واقتدى فاحتذى، وأُري فرأى، فأسرع طالباً ونجا هارباً، فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة، وعَمَّر معاداً، واستظهر زاداً، ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، وقدَّم أمامه لدار مقامه، فاتّقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له، واحذروا منه كنه ما حذَركم من نفسه، واستحقُّوا منه ما أعدّ لكم بالتجنُّز لصدق ميعاده، والحذر من هول معاده"[1]. وحول محاسبة النفس وإشعارها بحقيقة وجودها وهدفها، يقول الإمام (ع): "عباد الله، زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا، وتنفَّسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق، واعلموا أنّه من لم يعِن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ"[2]. وفي أهميّة أركان الإسلام وذكر الله عزّوجل، يتحدّث الإمام علي (ع)، فيقول: "إنّ أفضل ما توسَّل به المتسلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنّه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقام الصلاة فإنّها الملّة، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنّه جُنّة من العقاب، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال ومنسأة في الأجل، وصدقة السرّ فإنّها تُكفِّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف إنّها تقي مصارع الهوان. أفيضوا في ذكر الله فإنّها أحسن الذكر وارغبوا فيها وعد المتقين فإنّ وعده أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدي، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن"[3]. وحول الموت، يقول أمير المؤمنين (ع): "أوَليس لكم في آثار الأوّلين مزدجر، وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر، إن كنتم تعقلون، أوَلم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، وإلى الخلف الباقين لا يبقون، أوَلستم ترون أهل الدنيا يُصبحون ويُمسون على أحوال شتى، فميتٌ يُبكى، وآخر يعزّى، وصريع مبتلى وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي يمضي الباقي. ألا فاذكروا هادم اللذّات، ومنغِّص الشهوات، وقاطع الأُمنيات، عند المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا الله على أداء واجب حقّه ولا يُحصى من أعداد نعمه وإحسانه"[4]. وهكذا شَرَّع الإسلام الحنيف من سبيل معرفة الله عزّوجل، ووسائل الإنشداد إليه عزّوجل، وطرق الإرتباط به الشيء الكثير "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
وهنا تتجلّى العلامة الفارقة بين شريعة الله الخاتمة والنصرانية الحالية التي تعطي للعبادة لوناً باهتاً محصوراً في إطار طقوس كنسية خاوية لا تستجيب لطموحات الروح ولا تروي ظمأها، ولا تشبع جوعتها، إضافة إلى أنّ النصرانية المعاصرة تعطي للعبادة مفهوماً ضيِّقاً لا تتعدّى إطار الطقوس التي يؤدِّيها النصارى في أيام الآحاد. وبناءً على ذلك، يكون أتباع الكنيسة قد اختطّوا اليوم منهجاً غريباً يقضي بـ(تقسيم الحقوق) بين الإنسان وبين الله تعالى، فللّه يصلّون في الكنيسة ويقرؤون الأناجيل مثلاً، بينما يمكِّنون الإنسان من رسم طريقه في الحياة وفقاً لمشيئته، فيُشرِّع حسب مقتضيات مصالحه، ويُقنِّن وفقاً لما تملي عليه رغباته وأهواؤه. وقد كشف القرآن الكريم عن أخطاء التصوّر النصراني الكنسي، وأنحى باللائمة على النصارى الذين حصروا عبادة الله في زاوية محدودة، في حين أعطوا منظِّريهم وقادة الرأي فيهم حق التشريع والتقنين، قال تعالى: (اتّخذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون) (التوبة/ 31). ولقد أوضح الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) المفهوم الذي طرحته الآية الكريمة الآنفة الذكر، حيث قال (ع): "أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلُّوا لهم حراماً وحرَّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون"[5]. غير أنّ إنسان الإسلام يرسم شوطه في الحياة بإجراء التوافق بين مصالحه، ومراد الله عزّوجل، فالله هو الخالق، والله هو المدبِّر لشؤون البشر وحياتهم. (ألا لهُ الخلقُ والأمرُ تباركَ الله ربُّ العالمين) (الأعراف/ 54). (إنّ الحُكمُ إلا للهِ أمَرَ ألا تعبدوا إلا إيّاه ذلك الدينُ القيِّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف/ 40). والمسلم في المنطق الإسلامي عابد يتلقّى ما يأمره ربّه تعالى بالتسليم والطاعة، فليس له أن يخالف منهج الله، وليس له أن يُشرِّع قبال شرعه الكريم: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرةُ من أمرهم ومَن يعصِ اللهَ ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً) (الأحزاب/ 36). على أنّ المُشرِّع الأعلى عزّوجل قد ضمن للإنسان من جانبه تلبية شريعته الغرّاء لكل متطلِّبات الإنسان وطموحاته ومستجيبة لكل حاجاته الفطرية ومشاكله المستجدة لتضمن الشريعة الإلهية للمسلم – من خلال ذلك – . وهذا الموقف من الرسالة – موقف التغطية لكل الحاجات الأساسية للإنسان – موقف واقعي بالصميم، فقد علم الله سبحانه وتعالى أنّ حياة الإنسان من شأنها التحوُّل والتغيُّر والتطوُّر.

ومن أجل ذلك، فقد وضع برنامجاً يحفظ أصالة الرسالة الإلهية، ويستوعب المستجدات الطارئة في حياة الإنسان.

 الهوامش:

[1] - نهج البلاغة، خطبة رقم 83، ص109-110. [2] - نفس المصدر، خطبة رقم 90، ص123. [3] - نفس المصدر، خطبة رقم 110، ص163. [4] - نفس المصدر، خطبة رقم 99، ص145. [5] - الميزان، ج9، البحث الروائي، ص254، ط2، بيروت، الأعلمي.

ارسال التعليق

Top