• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثقافة والدولة

مرسي الأسيوطي

الثقافة والدولة

◄الثقافات في الواقع الحياتي، هي: جماعات أو مجتمعات بشرية. فالثقافة، سواء كان مصدرها سماوياً أو بشرياً، تبدأ كرؤية أو تصوّر لتفسير الحياة أو الوجود أو الكون. وعندما يكون مصدرها سماوياً يطرحها رسولاً أو نبيّاً مكلفاً من السماء، وعندما يكون مصدرها بشرياً يطرحها فيلسوف أو مفكِّر.

وفي كلتا الحالتين، تتضمّن إجابات عن الأسئلة المركزية التي انشغل بها الإنسان منذ بدء وجوده في الأرض عن أصل الوجود.. ولماذا وجد الإنسان؟ وكيف وجد؟ وما هو مصيره بعد الموت؟ وما هي غاية وجوده؟ ومن ثمّ وظيفته أو المنهج الذي يضمن سعادته وفي كلتا الحالتين تستهدف تحقيق سعادة الإنسان وتكوين المجتمع الفاضل من خلال تفسير علة وجود الإنسان وطبيعته ومن ثمّ وظيفته، وتقديم الآلية أو الوسيلة التي تضمن له تحقيق السعادة وهي منهج افعل هذا لأنّه يتفق مع علة وجودك وطبيعتك ويحقق وظيفتك.

ولا تفعل هذا لأنّه يتعارض أو يناقض علة وجودك أو طبيعتك أو فطرتك.. وهذا أي المنهج هو ما نُسمِّيه بالثوابت في كلّ ثقافة التي تبلّور جملة الأصول المكنة للثقافة.. أي إجابتها على الأسئلة المركزية المتعلّقة بحقائق الوجود الثلاثة: (أصل أو ربّ الوجود، الكون، الإنسان).

وناتج هذه العلاقة الاعتقادية هو ما يُسمّى الأصول العقائدية أو الإيديولوجية للثقافة أو الدِّين أو الفلسفة. وفي كلتا الحالتين تظلّ الثقافة رؤية أو تصوّر تسبح في عالم المثل والأفكار ولا تهبط إلى الأرض أو عالم الواقع، إلّا إذا وجدت جماعة بشرية تعتنقها أو تعتقد في صحّتها. وعندئذ تصبح لها عقيدة أي تنعقد في قلوبها وتصبح على استعداد أن تموت في سبيلها.. ولأنّها تصبح بالنسبة لها الحقّ الأزلي الأبدي السرمدي الذي ليس له بديل فإنّها تجتهد في نشرها وعولمتها لتسود العالم، وذلك من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى أو ما تعتبره آخر بالنسبة لها.

ويتوقف اختيار المنهج بالنسبة لكلّ ثقافة على نقاء رؤيتها ومدى تدخل الإدارة البشرية فيها، ويتبلّور هذا من خلال الإجابة على السؤال المركزي هل الموت إلى فناء أم إلى بعث وحساب وخلود في النعيم أو الجحيم..

وفي كلّ حالة تؤمن فيها الثقافة بأنّ الموت إلى فناء ستكون رؤيتها تجعل المقدّس الأوّل فيها الاقتصاد ولذلك ستعتمد منهج الصراع مع الآخر لأنّ الحياة فرصة واحدة تتعاظم فيها السعادة بقدر تعاظم حيازة الموارد الاقتصادية.

إذن كلّ رؤية أو تصوّر للحياة أو الوجود يتوقّف تحوّلها إلى ثقافة على وجود جماعة بشرية تعتنقها ومدى حجم هذه الجماعة. وقد عرف التاريخ الإنساني العديد والعديد من الرؤى الصحيحة التي أنزلت من السماء لسعادة الإنسان وطرحها أنبياء، ولكن لم تتحوّل أيّاً منها إلى ثقافة لأنّها افتقدت وجود جماعة بشرية تعتنقها. فكان يؤمن بها مع الرسول أو النبيّ الرجل أو الرجلين أو نفر قليل، فتظلّ طريقة حياة سرّية لهؤلاء الأبرار، يطاردهم المجتمع، فلا تنتج أثر حضارياً في حياة القوم (أي لا تنتج ما نُسمِّيه اليوم بالدورة الحضارية).

ومن الطبيعي أن تسعى كلّ جماعة بشرية إلى تطبيق ثقافتها. أي إنزال جملة الأصول والثوابت المكوّنة لها على واقع حياتها، أي تطبيق منهج ثقافتها في الفعل هذا، أي تحويل البناء الفكري إلى واقع حياتي أو إطار مادّي حضاري بترجمة الثوابت كقواعد أساسية لتنظيم حياة الجماعة سواء في الاقتصاد وبتحديد ماذا ينتج في المجتمع من سلع وخدمات؟ وكيف ينتج؟ (ولا نقصد بذلك تحديد الفن الإنتاجي أو التكنولوجيا التي تستخدم)، وإنّما نقصد الآلية بمعنى تحديد المنهاج أو المنهجية هل يسند ذلك للحرّية الفردية والملكية الخاصّة أم سيتقرّر من خلال السلطة السياسية وآليتها الملكية العامّة أم بمنهجية تجمع الطريقتين؟ ولمَن ينتج؟ أي هل لمن يملك القوّة الشرائية فقط أم سيتم هذا وفقاً لقرارات السلطة؟ أم ينتج لمن يملك القوّة الشرائية مع وجود حقّ لمن لا يملك في الحصول على احتايجاته كحقّ له يلتزم به المجتمع والدولة؟ ثمّ كيف يتم تحديد أسعار ما ينتج؟ هل يسند هذا للتفاعل بين العرض أي المنتجون وبين الطلب أي المشرتون فقط؟ أم يتقرر من خلال قرارات السلطة؟ أم من خلالهما معاً بوجود دور للملكية الخاصّة والملكية العامّة؟ ثمّ أخيراً طريقة التوزيع في الجماعة.. ونعرف أنّ الإجابة على أسئلة الاقتصاد السابقة تختلف من ثقافة إلى أخرى وهو ليس اختلافاً عارضاً أو طارئاً وإنّما اختلافاً جوهرياً يرجع إلى اختلاف الثوابت الثقافية والتي تتقرر في كلّ ثقافة على نحو حتمياً استناداً إلى اعتقادها في طبيعة الإنسان أي إلى رؤية كلّ ثقافة في تفسير الحياة أو الوجود، والتي يجسّدها بشكل مباشر رؤية أو اعتقاد كلّ ثقافة بالنسبة لطبيعة الإنسان كأصل لا يتغير ومن ثمّ يأتي منهجها في تنظيم الحياة ثابت لا يتغير، ولذا نُسمِّيه بالثوابت.

وكما قلنا من قبل إنّ طبيعة الإنسان منذ بدء الوجود في الأرض وإلى أن يرث الله الأرض والسماء، كان الاعتقاد بالنسبة لجميع الثقافات يندرج في نموذج من ثلاثة لا رابع لهم:

1- أن تعتقد الثقافة أنّ الإنسان بطبيعته رشيداً وحُرّاً على نحو مطلق.

ومن ثمّ تقرر وبشكل حتمياً أن يقوم تنظيم الاقتصاد على قدّسية الحرّية الفردية والملكية الخاصّة، فتسند للفرد سلطة الإجابة على أسئلة ماذا ينتج؟ وكيف ينتج؟ ولمَن ينتج؟ وتحديد سعر ما أنتج؟ وطريقة توزيع ما ينتج؟ وسيكون منهجه في كلّ ذلك هو ما يعظم ربحيته أو منفعته الاقتصادية فهي وحدها التي تحقق سعادته. وكان يسري هذا في الماضي على الثقافة البابلية واليهودية والأرسطية ويسري في الحاضر على الثقافة الليبرالية أو الرأسمالية وسيسري في المستقبل على كلّ ثقافة تعتنق نفس العقيدة في طبيعة الإنسان بشكل تلقائياً وحتمياً.

2- أن تعتقد الثقافة أنّ الإنسان بطبيعته غير رشيداً وغير حُرّاً وغير عارفاً على نحو مطلق.

ومن ثمّ تقرر بشكل تلقائياً وحتمياً أن يقوم تنظيم الاقتصاد أي تقوم ثوابته على إنكار الحرّية الفردية وبالتبعية الملكية الخاصّة. ومن ثمّ تسند تحديداً ماذا ينتج؟ ومتى ينتج؟ وكيف ينتج؟ وطريقة تسعير ما أنتج وتحديد أجر مَن شارك في الإنتاج أو طريقة التوزيع للسلطة السياسية في الجماعة أي من خلال الملكية العامّة، حيث سيتم إهدار واستبعاد أي دور للفرد أو المبادرة الفردية. وكان يسري هذا في الماضي على الثقافات البوذية والأفلاطونية والمسيحية الكاثوليكية في غرب أوروبا قبل وقوع ثورة مارتن لوثر التي تُسمّى الإصلاح الديني المسيحي. وكذلك بالنسبة للثقافة المسيحية الأرثوزكسية التي كانت في شرق أوروبا، ثمّ في الثقافة الاشتراكية التي ظهرت بعد ثورة روسيا سنة 1917م. كما تبنّتها بعض الدول العربية الإسلامية في زمن تبعيتها للنفوذ السوفيتي من خلال الصفوة الفكرية الاشتراكية، كما توجد حالياً في جمهورية الصين الشعبية (مع وجود استثناءات شديدة الخصوصية لاستكمال تحقيق الوحدة السياسية كما هو الحال بالنسبة لهونج كونج، جزيرة ماكاو، وتهيئة المناخ لعودة جزيرة تايوان إلى الصين) وستكون ثوابت تنظيم الاقتصاد على هذا النحو مستقبلاً في أيّة ثقافة تعتقد أنّ الإنسان بطبيعته غير رشيداً.

وكما ترى ليس تنظيم الاقتصاد في كلّ الثقافات السابقة مجرد إجراءات أو حقائق مادّية أو حضارية أو حياتية على نحو مجرد، وإنّما إجراءات وحقائق حياتية لبلورة أو تستمد شرعيتها من ثوابت ثقافية لتطبيق أصول عقائدية تمثل رؤية أو تصوّر كلّ ثقافة.

3- وأخيراً، يبقى النموذج الثالث في الاعتقاد لطبيعة الإنسان وهو النموذج الأوسط بين النموذجين المتناقضين السابقين، حيث يقوم الاعتقاد بالنسبة لطبيعة الإنسان في هذا النموذج على أنّ الإنسان بطبيعته رشيداً وحُرّاً ومختاراً وعارفاً وهو في ذلك متفق مع النموذج الأوّل ولكن تبدو وسطية فإنّه يقرر أنّ الإنسان حُرّاً ولكنّه ليس مطلق في ذلك، وأنّه رشيداً مختاراً ولكنّه مسؤولاً عن اختياره، فالمسؤولية فرعاً ونتيجة طبيعية لتقرير الحرّية وأنّه ميت، ولكنّه مبعوثاً ومحاسباً من أصل أو ربّ الوجود.

وكلّ ثقافة ستعتنق هذا النموذج ستقرر تنظيم الاقتصاد أي تحديد ماذا ينتج؟ ومتى ينتج؟ ولمَن ينتج؟ وكيف ينتج؟ وطريقة تسعيره؟ وطريقة توزيع العائد بين عناصر الإنتاج بإسناد ذلك للفرد أي الملكية الخاصّة والدولة أي الملكية العامّة بشكل متكامل، بحيث تتوافر الحرّية والحماية أي القدسية للملكية الخاصّة والحرّية الفردية، ولكن في إطار تحقيق الوظيفة الاجتماعية. ومن ثمّ رفض قاعدة أنّ الملكية الخاصّة لا تخطأ لأنّها ليست مسؤولة أو مطالبة بالتزام، بل هي هنا مطالبة بالتزام أن تعمل وتكسب دون حدود في إطار عدم الإضرار بالمصلحة العامّة. كما أنّ الملكية العامّة لها الحقّ والحرّية في أن تعمل وتنافس الملكية الخاصّة ولكن بنفس الشروط بما يضمن احترام شرعية الملكية الخاصّة أي أنّ الملكية العامّة لا توجد في الاقتصاد كسلطة سياسية سيادية وإنّما كمشروع اقتصادي يعمل في نفس ظروف المشروع الخاص.. وهذا النموذج لم تعتنقه من كلّ الثقافات إلّا الثقافة الإسلامية.

وما يسري في تنظيم الاقتصاد، يسري في تنظيم الاجتماع وكذلك السياسة، لأنّه في كلّ جماعة ثقافية توجد ثوابت واحدة تحكم تنظيم الحياة وتظهر في تحديد القواعد الأساسية لتنظيم الاقتصاد والاجتماع والسياسة.. فالنظام الثقافي في كلّ جماعة أو مجتمع هو كلّ متكامل له ثوابت واحدة تكون طريقة الحياة الخاصّة لكلّ جماعة ثقافية.

وقلنا إنّ كلّ جماعة ثقافية ستحرص على تطبيق أو إنزال جملة الأصول التي تكوّن ثقافتها على تنظيم حياتها وتحوّلها إلى واقع مادّي أو حياتي أو حضاري ولكن هذا يتوقف بالنسبة لكلّ جماعة ثقافية على تمتعها بوجود كيان سياسي له سيادة والذي استقر شكله منذ زمن على ما يُسمّى بالدولة.. فقدرة كلّ ثقافة على إنتاج حضارة أو مساهمتها الحضارية يتوقّف على وجود الدولة.

إذن، الثقافة تبدأ كرؤية لتفسير الوجود أو الحياة أو الكون سواء كانت أصولها سماوية أي رسالة دينية منزلة من السماء أو بشرية عبارة عن فلسفة أو رؤية يقدمها العقل البشري، ثمّ تهبط من عالم المثل والأفكار إلى واقع الحياة إذا اعتنقتها مجموعة بشرية.. وتظل هذه الجماعة مجرد جماعة ثقافية حتى تتمتع بالكيان السياسي الذي يملك السيادة، حيث يقوم تطبيق هذه الرؤية أو التصوّر أو الأيديولوجيا على واقع الحياة بتنظيم حياة الجماعة بقطاعاتها الرئيسية: الاقتصاد، الاجتماع والسياسة. وذلك على نحو مستقر، فتتحوّل الجماعة الثقافية إلى جماعة من الحضر أي الاستقرار فتظهر الحضارة، أي تبدأ الدورة الحضارية لهذه الثقافة.

وإذا كانت الثقافة تتوقّف قدرتها على إنتاج حضارة أي تنظيم الحياة الاجتماعية للحياة البشرية التي تعتنقها، بمعنى أن تستطيع هذه الجماعة إنزال الأصول والثوابت الثقافية كقواعد أساسية في تنظيم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على تمتع الثقافة بالدولة.

وأنّه إذا فقدت الثقافة الدولة، استبعد تنظيم المجتمع وفقاً لثوابتها وعندئذ تنحصر الثقافة في الجانب الفكري أي تتحوّل إلى اعتقادات شخصية لا علاقة لها بتنظيم المجتمع الذي يخضع لثوابت ثقافة الحضارة الغالبة، سواء تم ذلك بفعل الاستعمار أو من خلال تبنّي الصفوة السياسية الحاكمة ما تطرحه الصفوة المفكرة والمنظرة والمروجة قيم هذه الحضارة الغالبة.

وعندما ينفصل الجانب الفكري (الثقافي) عن الجانب المادّي (الحضاري) في المجتمع، فإنّه غالباً ما يستتبع ذلك حلول القيم الثقافية للحضارة الغالبة وتتراجع أصول الثقافة التي كانت. وغالباً ينتهي الأمر بزوالها تماماً ويتم دمج المجتمع ثقافياً. ولذلك تجد المجتمعات التي تمّ استعمارها بخلاف المجتمعات الإسلامية أصبحت جزءاً من ثقافة المستعمر بعد الاستقلال.

ولكن السؤال هل لو استمرت الثقافة تتمتع باعتناقها الأغلبية العظمى في مجتمعاتها ثمّ استردت الدولة التي تستند في شرعية وجودها إلى ثوابت هذه الثقافة أي القبول الاجتماعي؟ هل تستطيع هذه الثقافة أن تنتج حضارة خاصّة بها أي تبدأ دورة حضارية جديدة؟

والسؤال يتعلق تحديداً بالثقافة الإسلامية، فقد استمرت أثناء الاستعمار واستردت الدولة بعد الاستقلال. لكن يقال من فلاسفة التاريخ إنّه لا يمكن لها أن تنتج دورة حضارية جديدة، لأنّ لكلّ ثقافة دورة حضارية واحدة وقد كانت للثقافة الإسلامية دورتها طوال الفترة من القرن الثامن الميلادي حتى القرن السادس عشر؟

فهل هذه قاعدة علمية أو موضوعية صحيحة أم مجرد مقولة استشراقية تستند إلى واقع الثقافات الأخرى خلاف الثقافة الإسلامية والأمر مختلف بينهم وبين الثقافة الإسلامية لأنّ هذه الثقافات لم تسترد الدولة أبداً بعد فقدها. ومن ثمّ لم تنتج حضارة لغياب المقدمة الضرورية لها وهو تمتع الثقافة بدولة تملك سيادة.

وقبل أن نناقش القضية علينا أن نتذكّر حقيقتين:

أوّلاً: إنّنا ميّزنا بين الثقافة والحضارة وأوضحنا أنّ الثقافة هي جملة الأصول والأفكار والمعتقدات التي تقدّم تصوّر أو رؤية لتفسير الوجود. في حين أنّ الحضارة هي تطبيق هذه الأصول على واقع الحياة المادّية وتستطيع أن تستوعب هذا التمييز باستدعاء حقيقتي العقيدة والشريعة، بحيث أنّه إذا استطاعت الجماعة الثقافية أن تطبّق ثقافتها على تنظيم حياتها.

يمكن القول إنّ الثقافة هي الحضارة أو إنّ الحضارة هي الثقافة، لأنّ الحضارة ستكون تطبيق الثقافة أو تكون هي الثقافة حياتياً أو مادّياً، وتكون الثقافة هي البناء الفكري أو الفوقي أو الفلسفي أو الأيديولوجي أو العقائدي لهذه الحضارة (ولذلك نعتقد أنّ مفهوم تطبيق الشريعة الذي يقال في المجتمعات الإسلامية مفهوماً غير دقيقاً والصحيح يقال تطبيق العقيدة، لأنّ كلّ تطبيق هو شريعة ولكن تتحدد طبيعتها بتحديد العقيدة التي تثمل المصدر الفكري أو الأصول لها).

ولذلك نجد أنّ المبادرات التي يقدّمها العالم الغربي للعالم العربي أو المجتمعات الإسلامية تكون واضحة ودقيقة في تحديد أغراضها بحكم أنّها نتاج الفكر الاستشراقي، لذا لا تتحدّث أو تطالب بتحقيق تغييرات حضارية وإنّما تطالب بتغييرات ثقافية.

ثانياً: ثبت لنا عدم صحّة مقولة إنّ الاقتصاد لا علاقة له بالدِّين، وكذا عدم صحّة مقولة إنّ الدِّين أو الثقافة لا علاقة له بالسياسة أو الدولة، بل أنّ كلّ ثقافة أو دين أو فلسفة تتوقّف مساهمته الحضارية أو الحياتية على امتلاكه الدولة. وما في ثقافة إلّا وتسعى جاهدة لامتلاك الدولة، بل أنّها تدخل مرحلة الاحتضار وعادة الموت بمجرد افتقاد الدولة.. فالثقافة تبدأ كجماعة ثقافية ثمّ تصبح جماعة حضارية أو سياسية بامتلاك الدولة.. فمثلاً لم نسمع عن الحضارة اليهودية لأنّ الجماعة اليهودية ظلت جماعة ثقافية على امتداد تاريخها ولم تمتلك دولة إلّا خلال فترة تقل عن مائة سنة هي فترة حكم (طالوت ثمّ داود ثمّ سليمان)، رغم أنّ عمر هذه الثقافة يتجاوز ثلاثة آلاف سنة.

كما ظلت الجماعة المسيحية على امتداد أربعة قرون مجرد جماعة ثقافية ولم تنتج حضارة حتى اعتنقها (قسطنتين) وأصبحت الثقافة الرسمية للإمبراطورية الرومانية.

وكذلك الأمر بالنسبة للجماعة الإسلامية طوال الفترة المكّية كانت مجرد جماعة ثقافية عاجزة عن تطبيق جملة أصولها ومعتقداتها الثقافية ولم تنتج حضارة إلّا بعد الهجرة وتحولها إلى كيان سياسي ودولة في المدينة لتبدأ الحضارة الإسلامية.

ولم تتحوّل فلسفة أفلاطون أوثقافته إلى حضارة بشكل رسمي لأنّها لم تجد دولة تعتنقها وتستمد منها ثوابت تنظيم حياتها. وعلى الرغم من تأثيرها الشديد في الثقافة الكاثوليكية المسيحية في غرب أوروبا ومن ثمّ حضارتها، لكن هذه الحضارة ظلت تعبيراً مستقلاً لثقافتها أو رؤيتها العقائدية التي قدّمت مفهومها لحقيقة الألوهية على نحو مختلف، ومن ثمّ ظلت حضارة مستقلة لثقافة مستقلة تكون في أصولها ورؤيتها رؤية عقائدية لتفسير الوجود وطبيعة الإنسان ووظيفته، وفقاً للأصول العقائدية المسيحية.

وفي حين وجدت فلسفة أرسطو أو ثقافته طريقها للتطبيق خلال فترة محددة من الزمن هي عمر الإمبراطورية اليونانية زمن الإسكندر الأكبر بحكم أنّ أرسطو كان أستاذ ومعلم الإسكندر.

كما لم تتحوّل فلسفة ماركس أو رؤيته في تفسير الوجود إلى حضارة إلّا بعد أن امتلكت الدولة بعد الثورة الروسية سنة 1917م، ثمّ تمّ تعميمها في أنحاء شرق أوروبا كلّها وبذلك تحوّلت الثقافة الماركسية إلى حضارة أي استمدّ منها قواعد أو ثوابت تنظيم الحياة لهذه المجتمعات. وبحكم أنّها ثقافة تعتقد أنّ الإنسان بطبيعته غير رشيداً وغير حرّاً وغير عارفاً، أصبحت ثوابت تنظيم الحياة تنطلق من رفض شرعية الحرّية الفردية والملكية الخاصّة. ولذا جاء تنظيم الاقتصاد يعتمد شرعية الملكية العامّة وحدها ورفض شرعية التعدّدية الاقتصادية. وجاء تنظيم الاجتماع يعتمد شرعية الطبقة الاجتماعية التي تضمّ المجتمع أو العمّال وحدها ورفض شرعية التعدّدية الاجتماعية. ويستكمل هذا سريان نفس الثوابت على التنظيم السياسي، فحيث تقرّر عدم شرعية التعدّدية الاقتصادية، وعدم شرعية التعدّدية الاجتماعية، فقد قام التنظيم السياسي على عدم شرعية التعدّدية السياسية، لأنّ الأحزاب السياسية هي في النهاية كما يقولون تنظيمات جماهيرية تستهدف استيعاب الشرائح والطبقات الاجتماعية والدفاع عن مصالحه الاقتصادية من خلال امتلاك السلطة السياسية أو في مواجهة السلطة السياسية القائمة.

فطالما تقرّر عدم شرعية التعدّدية الاقتصادية، وعدم شرعية التعدّدية الاجتماعية، فإنّ التعدّدية السياسية قد فقدت علة وجودها.

وهكذا ترى مرّة أخرى أنّ التنظيم الثقافي في أيّة ثقافة هو كلّ متكامل له ثوابت واحدة يطبقها في تنظيم الحياة.. وأنّ الاقتصاد والاجتماع والسياسة ليست مجرد حقائق حياتية مجردة، وإنّما حقائق حياتية تبلّور وتطبّق حقائق ثقافية أو دينية حتى في الثقافة الماركسية التي تقوم على رفض وجود الله.. فهي كثقافة أو فلسفة، تُقدِّم رؤية أو تصوّر لتفسير الوجود أو الحياة أو الكون وهي تبدأ بتقرير أنّ أصل الوجود هو المادّة فتجعله أصل أصولها الاعتقادية فتجعله المطلق الأزلي، الأبدي، السرمدي، ثمّ تضيف الأصل الاعتقادي الثاني في رؤيتها فتقرّر اعتقادها في طبيعة الإنسان بأنّه بطبيعته غير رشيداً أو غير حرّاً أو غير عارفاً فتجعله نسبي، حادث، فاني.

وبناءً على هذه الأصول الاعتقادية، تقرّر ثوابتها في تنظيم حياة إنسانها بما يتفق مع طبيعة وعلة وجوده فتقوم ثوابت تنظيم الحياة لإنسانها ومجتمعاتها الثقافية بإنكار شرعية الحرّية الفردية، ومن ثمّ الملكية الخاصّة في تنظيم الاقتصاد والاجتماع والسياسة.

وهكذا يتضح لنا أنّ كلّ ثقافة أو فلسفة أو دين هو رؤية أو تصوّر لتفسير الوجود، وأنّها تبدأ بتحديد اعتقادها في أصل الوجود وسواء اسمته الله الواحد، الأحد، البسيط كما قالت الثقافة اليونانية، أو أسمته الواحد، الأحد، الصمد كما قالت الثقافة الإسلامية أو أسمته المادّة أو الطبيعة الخالقة، أو فكرة التوليد كما قالت الثقافة الاشتراكية، فإنّها أي كلّ ثقافة جعلته أصل أصولها الاعتقادية أي المطلق، الأزلي، الأبدي، السرمدي، أي أصل أو ربّ الوجود، ثمّ انطلقت منه تحدد اعتقادها في طبيعة الإنسان من خلال اعتقادها في تحديد علاقة أصل الوجود بهذا الوجود خلقاً وتدبيراً وعنايةً وحساباً.

وبناءً على ذلك، حددت إجابتها بالنسبة لعلة وجود الإنسان وغايته في الوجود ومن ثمّ وظيفته، وقدّمت له ميزان أو مقياس ما يجوز وما لا يجوز أو منهج افعل هذا ولا تفعل هذا من خلال تقرير جملة الثوابت التي تبلّور هذه الأصول الاعتقادية وتمثّل القواعد الأساسية في تنظيم الحياة أي الاقتصاد والاجتماع والسياسة بما يتفق مع طبيعته أو فطريته وفقاً لرؤيتها ومن ثمّ تضمن له تحقيق السعادة.

أنّ مقولة إنّ الاقتصاد لا علاقة له بالدِّين، وإنّ السياسة لا علاقة لها بالدِّين، وأنّ تنظيم المجتمع - أي حياة الناس - لا علاقة لها بالدِّين، في الحقيقة هي مقولات استشراقية ظهرت في أوروبا بعد نجاح ثورة مارتن لوثر تحت مسميات فلسفات الإصلاح والتنوير والحداثة بهدف إعادة إنتاج أصول الثقافة اليهودية وترسيخها في المجتمعات الغربية بعد استبعاد السلطة السياسية المسيحية والسلطة المسيحية الكنيسة حتى تضمن ترسيخ الثوابت الثقافية اليهودية بشكل هادئ لا يواجه مقاومة من المجتمعات الأوروبية المسيحية.

ثمّ في زمن الاستعمار الأوروبي للشرق المسلم تمّ ترويج هذه المقولات من خلال تأسيس وصناعة وشراء صفوات فكرية في هذه المجتمعات ومنحها سلطات واسعة لتأسيس الوعي الاجتماعي على هذا النحو، على أمل أنّه بعد ترسيخ ذلك البناء الحضاري في هذه المجتمعات، يتمّ تلقائياً تسرّب البناء الثقافي أو النسق القيمي في هذه المجتمعات، فيتم استبعاد الثقافة الإسلامية وإحلال القيم الثقافية البروتسيانية أو اليهودية، كما حدث في غرب أوروبا، ثمّ ترويج هذا تحت مسميات نظرية، وحدة الثقافة والحضارة بمعنى أنّ استيراد الحضارة الغربية يستلزم استيراد نظرياتها الفكرية حتى يمكن الاستفادة منها وتبنّي هذا الجيل الحداثي الأوّل بزعامة لطفي السيِّد، سلامة موسى، طه حسين، وقاسم أمين.►

 

المصدر: كتاب دراسة مقارنة في أصول وثوابت الثقافة الليبرالية

ارسال التعليق

Top