• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بذكر الله.. تطمئن القلوب

بذكر الله.. تطمئن القلوب

قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).

إنّ الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون، والله بلطفه وعنايته حذر المؤمنين من الخسران وبيّن أسبابه في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).

فذِكرُ الله إذاً سبب لاطمئنان القلوب، واللهو والغفلة عنه سبب لخسارة فادحة حذرت منها الآية الكريمة...

فعلى كلِّ مؤمن أن يكون من الذاكرين لهذين السببين ولقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف/ 205)، ولقوله سبحانه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152).

فالعبد المحب حقاً من كان يذكر معبوده ومعشوقة ومحبوبه دوماً، فلا يغفل عن ذكره طرفة عين أبداً ليصبح من أهل الذكر والتذكر، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201)، فالتذكر هو الحد الوسط مقدماته التقوى، ونتيجته البصيرة والإبصار، والمتقي من أهل الذكر صاحب بصيرة يقف على حقائق الأشياء كما هي بحسب الطاقة البشرية.

فما هي الصفات الأخرى لأهل الذكر؟

 

من صفات أهل الذكر:

بالإضافة إلى الإيمان والتقوى نستطيع استكشاف الصفات التالية سلباً وإيجاباً لأهل الذكر... فهم:

-         أولو الألباب والفكر والدعاء: (.. لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191).

-         وهم أهل الصلاة: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ...) (النساء/ 103)، (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 14).

-         وهم أعداء الشيطان الذي يصدّ عن ذكر الله: (الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19).

-         وليسوا كالأعمى الذي أعرض عن ذكر الله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 124-126).

-         وليسوا كالمنافقين وأقران الشياطين الذين: (إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا) (النساء/ 142)، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 36-37).

ويمكن بأدنى تأمل معرفة الكثير عن صفات أهل الذكر الثابتة لهم، ونفي وسلب صفات أخرى ثابتة لمن غفل عن ذكر الله...

وزبدة المخاض: أهل الذكر هم: أولياء الله العلماء البررة الكرام، وهم أهل القرآن إذ من أسماء القرآن "الذكر" قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).

 

أهل الذكر وأهل البيت (عليهم السلام):

إذا افترضنا انّ أهل الذكر هم أهل القرآن، وأنّ أهل بيت النبي (ص) هم ورثة الأنبياء (عليهم السلام) خصوصاً النبيّ محمداً (ص)، فيكون علم القرآن مكنوزاً عند أهل البيت (ع) وفي صدورهم، وبالتالي تنطبق صفة أهل الذكر على أئمة الهدى من أهل بيت النبيّ (ص) وإن شملت غيرهم ممن تعلّم ونهل من علمهم واهتدى بهديهم.

فأهل الذكر هم الأئمة الأطهار الاثنا عشر عترة النبيّ المختار (ص)، ومن كان منهم كسلمان المحمدي الذي هو "سلمان منا أهل البيت" وذلك لقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ...) (النور/ 35-36)، ولقول النبي (ص): "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"... والحديث متواتر عند المسلمين، وكلّ ما في القرآن من العلوم والمعارف هو عند أهل البيت العترة الطاهرة (عليهم السلام)"، إذ هما لن يفترقا حتى يردا الحوض على النبيّ (ص).

وقد أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله (ص) هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ...) (النور/ 36)، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله: قال (ص): بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها (بيت علي وفاطمة)؟ قال: نعم من أفاضلها[1].

"فليست البيوت بيوت حجارة أو طين، وانما بيوت العلم والتقى والهدى، وبيوت أصحاب الإيمان والتوحيد والبكاء والخشوع والخشية والإخلاص".

 

حلقات الذكر:

لقد أمر الله سبحانه الناس بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون... وسؤال أهل الذكر قد يكون بحضور حلقات الذكر فما هي حلقات الذكر؟

عن رسول الله (ص): "إذا مررتم في رياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر، فإنّ لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفّوا بهم"[2].

وحلق الذكر مجالس الحلال والحرام، و"العلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه"[3] كما عن علي (ع).

وعنه (ع): "لمجلسٌ أجْلِسُه إلى مَن أثقُ به أوثق في نفسي من عمل سنة"[4].

وروي قول لقمان لابنه "يا بني اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن تكن عالماً ينفعك علمك وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله تعالى ان يظلّهم برحمة فتعمّك معهم..."[5].

وعن النبي (ص): "لا تجلسوا عند كلّ داع مدّع يدعوكم من اليقين إلى الشك، ومن الإخلاص إلى الرياء، ومن التواضع إلى الكبر، ومن النصيحة إلى العداوة، ومن الزهد إلى الرغبة، وتقربوا إلى عالم يدعوكم من الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الشك إلى اليقين، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن العداوة إلى النصيحة"[6].

فحلقات الذكر إذاً لها هدف واضح تربية النفس وتزكيتها وتهذيبها لتطمئن القلوب وتحيى بذكر الله، فلابدّ من الدقة في اختيار الجلساء من العلماء وغيرهم.

 

العلماء.. وأهل الذكر:

عن الإمام الصادق (ع): "إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فانّ كّل محبّ للشيء يحوط ما أحبّ"[7].

وعن النبيّ (ص): "الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"[8].

وعن الصادق (ع): "أوحى الله إلى داوود (ع) لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإنّ أولئك قطاع طرق عبادي المريدين، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم – من باب العقوبة – أن أنزع مناجاتي عن قلوبهم"[9].

فمن طلب العلم لله دعي في السماوات عظيماً وقد يصبح من أهل الذكر... وطالب العلم كلما ازداد علماً ازدادت مسؤولياته الفردية والاجتماعية، وألحت عليه مسؤولية العمل بعلمه قبل أي مسؤولية أخرى.

فعن الصادق (ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى داوود (ع): انّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة باطنية، أن أخرج من قلبه حلاوة ذكري".

فكأنّ العمل بما يُعلم مدعاة وسبب لتحقق الذكر وسعادته وحلاوته في قلب المؤمن العامل العالم العابد لله سبحانه.

وفي مصباح الشريعة عن الصادق (ع) أيضاً: "العالم حقاً هو الذي ينطق عنه أعماله الصالحة وأوراده الزاكية وصدقه وتقواه، لا لسانه وتطاوله ودعواه، ولقد كان يطلب هذا العلم في غير هذا الزمان من كان فيه عقل ونسك وحكمة وحياء وخشية.. والعالم يحتاج إلى عقل ورفق وشفقة ونصح وحلم وصبر وبذل...".

وعليه فعلماء الآخرة والإصلاح والخير... علماء الأخلاق التي ورد بها القرآن هم أهل الذكر والتقوى... وإليك عزيزي القارئ خمساً من الأخلاق هي من علامات الآخرة وقد ذكرها القرآن الكريم وهي الخشية والخشوع والتواضع وحسن الخلق والزهد...

-         أما الخشية ففي قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).

-         وأما الخشوع ففي قوله تعالى: (خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا...) (آل عمران/ 199).

وأما التواضع ففي قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 215).

وأما حسن الخلق ففي قوله عزّ من قائل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159).

وأما الزهد ففي قول رب العزة: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ...) (القصص/ 80).

وروي عن رسول الله (ص) أنّه قيل له: "يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال: اجتناب المحارم، ولا يزال فوك رطباً من ذكر الله تعالى، قيل فأيّ الأصحاب خير؟ قال: صاحب إن ذكرت الله أعانك وإن نسيته ذكّرك، قيل: فأيّ الأصحاب شر؟ قال: صاحب إن نسيت لم يذكّرك وإن ذكرت لم يعنك، قيل: فأيّ الناس أعلم؟ قال: أشدّهم لله خشية..."[10].

فزبدة المخاض أنّ للذكر أهلاً اختارهم الله لحسن حالهم وصلاح سريرتهم وصالح أعمالهم، وشدة إخلاصهم وتقربهم لله سبحانه. وقد أمرنا الله باللجوء للعلماء أهل الذكر، فلا علم نافعاً بدون الأخلاق والتقوى.. وأمرنا سبحانه بطلب العلم النافع، فعلينا أن نسأل أهل الذكر، أهل القرآن، وهم علماء الآخرة، علماء الخير والصلاح، العاملون المخلصون، الزاهدون الخاشعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً.

الهوامش:

[1] - ميزان الحكمة، محمد الري شهري، ج3، ص436.

[2] - المحجة البيضاء، ج1، ص23.

[3] - الكافي، ج1، ص30.

[4] - الكافي، ج1، ص39.

[5] - المحجة البيضاء، ج1، ص33.

[6] - المصدر نفسه، ج1، ص69.

[7] - م.ن، ص127.

[8] - م.ن، ص128.

[9] - م.ن

[10] - م.ن، ص158.

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 31 و32 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top