الفرد من الإنسان لا يمكنه أن يعيش وحده، حلقة منفصلة عن سواه من أفراد الإنسان. إنّ له لساناً، فيه القوة الكافية للتعبير عن أغراضه ومقاصده بألفاظ وعبارات، وهو لأجل إبراز ما يجول في نفسه من معانٍ محتاجٌ إلى التفاهم. والتفاهم لابدّ أن يكون بين اثنين أو أكثر، وذلك شاهد على مدى حاجة الفرد إلى الفرد، وأنّه لا غنى لأحدهما عن الآخر.
وكذلك عواطفك أنت بحاجة إلى إبرازها إلى غيرك، وهذا الرغيف من الخبز الذي تأكله كل يوم، أنت بحاجة ملحة إلى جماعات عديدة تعاونت على صنعه، وإلى أيد عاملة كثيرة بذلت جهوداً كبيرة في تحضيره حتى وصل إليك لقمة سائغة لذيذة. لقد تداولتْ رغيفك يدُ الخباز، وعناية العاجن والمنخّل، ومرّت عليه يد الطحّان والمنقّي له من الأجرام التي لا تصلح للأكل، كما بذل فيه جهده المذري والدرّاس والحصّاد والبذّار والفلاح. وهكذا شأن جميع ما تلبسه أو تستعمله.. وكلما كانت مطالبك أكثر وحياتك أوسع، كنت بحاجة إلى الأيدي العاملة. بل إن آراءك وأفكارك لا تكون إلا في جماعة – وهي نتاج مفكرين سواك – توالَت عليها بالتعديل والتصحيح والإضافات حتى وصلت إليك فكرة تتبناها، وتعمل لها، سواء أكانت أخلاقية أم اقتصادية أم اجتماعية أم قومية أم سواها. وبضرورة حاجة كل واحد من الإنسان إلى سواه، عاش الإنسان جماعات وكُتلاً وقبائل وغيرها، ليلبّي حاجته ويسدّ ما فيها من نقص. على ذلك تكوّنت المجتمعات البشرية صغيرة وكبيرة، على حسب الظرف والمكان الذي تعيش فيه. ومن المحتّم أن تنشأ بعد حدوث هذه المجتمعات علاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، وأن تكون لكل واحد منهم منافع خاصة، ومصالح شخصية، تتعارض مع منافع الآخرين وتتصادم الأغراض فيما بينهم، فتجعل التنافس والمنازعات في معاملاتهم وعقائدهم ومصالحهم. مثلاً: هذا بائع يرى فائدته في أن ينقص المكيال والميزان. وهذا مشترٍ يرى مصلحته في أخذ ما يزيد على حقه، وذاكَ مدين يرى نفعه في المماطلة أو السرقة، وذلك قوي يجد خيره في ظلم الضعفاء وسلب أموالهم وحقوقهم، وذلك مظلوم يجد خلاصة من الظلم والطغيان في الانتقام من ظالمه. وهذا يعبد الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب، وآخر يعبد النار أو الحيوان أو الأصنام على حسب تفكيره ومبلغ إدراكه. فلو ترك الإنسان وشأنه من غير إرشادٍ وتعليم، لبقي سادراً في ضلالته، متلذذاً في غوايته، ولأجل هذا كان بحاجة إلى المرشدين المعلمين. وتأبى حكمة الخالق العظيم الرؤوف الرحيم أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ويكرّمه على كثير ممن خلق تفضيلاً، بما منحه من العقل وقوة الإدراك. ثمّ يتركه هملاً، يأكل بعضه بعضاً، ويطغى بعضه على بعض. ويعيش في لجّة مظلمة من الحيرة والضلالة ومن الفوضى والطغيان. فكان من لطفه سبحانه أن أنقذ عباده من ذلك كله بأنّ أرسل إليهم مرسلين معلمين ومرشدين، وأنبياء مصلحين ينبئون عنه بالصدق، ويوجهونهم نحو خيرهم وسعادتهم وصلاحهم، ويضعون لهم – بوحي الله سبحانه – الشرائع والقوانين الكفيلة بإسعاد الفرد والجماعة وحفظ كرامتهم. - ضرورة المعجزة: إن كل من ادّعى أمراً عليه إثبات ما يدّعيه بينة وبرهان، يحمل الآخرين على تصديق ما يدعيه والتسليم له. ومجرد دعوى إنسانٍ بأنّه نبي ورسول من الله تعالى لعباده، دون أن يقدّم الحجة على دعواه والبرهان على رسالته، لا قيمة لها، وهي بالتالي نقض للغاية التي بعث من أجلها، وهي هداية البشر إلى الإيمان بالله، وإلى خيرهم وصلاحهم. ورسالة أي رسول من الباري تعالى، هي اتصال غير عادي بين الحقيقة المطلقة (الله) وبين مدّعي الرسالة عنه، الذي اختاره لتبليغ تعاليمه وشرائعه، بطريقة ما غير عادية وخفية، تتجاوز حواسنا ولا تدخل في نطاق مدركاتنا العادية. فهي من هذه الجهة دعوى لا يخضع إثباتها لبينة أو لشهادة بشرية عادية، ولا طريق لاثباتها واعتبارها صادقة إلا بأمر آخر، تنفعل به مشاعرنا وعقولنا يقيناً وتسليماً. والوسيلة لإثبات صحة دعوى النبي (ص) منحصرة بأن يُظهر الله تعالى المعجزة على يديه، وهو ما يتحدى طاقة البشر وقدراتهم، ويكون ذلك استثناءً من قانون الطبيعة وخرقاً لها. وهذا المعجز ضرورة تفرضه ضرورة الرسالة تأييداً لصدق دعوة الرسل، لتحقيق الغاية التي من أجلها بُعثوا، وهي هداية الله الخالق تعالى للبشر، ودلالتهم على ما فيه كمالهم النفسي والروحي والاجتماعي، ذلك لأن بعثة الأنبياء من دون أن تقترن بما يؤيدها من المعجز ستفقد نتيجتها المطلوبة، إذ سيظل احتمال تكذيبهم في دعواهم أو الشك في صدقهم قائماً، وستفشل حينئذ في تحقيق الغاية المتوخاة. أما إذا اقترنت دعوتهم بما يؤيدها من إظهار الله تعالى المعجز على أيديهم، حيث يكون سبحانه قد قدّم من قِبَله ما له تأثير في تنمية إيمان الناس بهذه الدعوة والتصديق بصحتها، فيصبح بذلك من الممكن تكوين الرؤية الواضحة لديهم حولها. وطبيعة المعجز ليس له صفة إلا التأييد للدعوة والتعزيز، وليسَ له قوة قاهرة، تفرض الإيمان على البشر فرضاً. والمعجز قد يكون مادياً محسوساً، وقد يكون غير محسوس. فالمحسوس كالكثير من معجزات الأنبياء السابقين، كصيرورة النار برداً وسلاماً على إبراهيم (ع) حينما قذفه فيها طاغية زمانه، وكانقلاب عصا موسى حيةً تسعى، تلقط كل ما قدّمه السحرة من أعمالهم السحرية، وغير ذلك ما قصّه القرآن العزيز من معجزات الأنبياء – عليهم السلام –. وإذا كانت الحاجة إلى إظهار المعجز هو إثبات صحة دعوة الرسالة وتأييدها، وكان المرسل إليهم متفاوتين إدراكاً ووعياً وفهماً وعلماً، كان لابدّ أن يكون المعجز الذي سيُظهره الله تعالى على أيدي أنبيائه مختلفاً، حسب اختلاف طبقات المرسَل إليهم من حيث الادراك والوعي والثقافة، وأن يكون منه ما هو معجز مادي محسوس، يكون في الأغلب متناسباً مع الطبقة الأغلب من البشر، التي لا تدرك إلا المحسوسات وما يقع تحت سمعها وبصرها، وينسجم مع فهمها ووعيها. وأن يكون منه ما هو غير محسوس، يتناسب مع الطبقة الواعية ذات الإدراك والثقافة، أي ثقافة كانت. وعموم الحاجة إلى إظهار المعجز يقتضي الأمرين معاً حسبما تقتضيه طبيعة طبقات المرسَل إليهم. وقد قال المتكلّمون: إنّ طبيعة المعجز، هو ما كان مقروناً بتحدّي البشر عن الإتيان بمثله. أمّا إذا لم يكن مقروناً بالتحدي، فلا يكون من باب الإعجاز، بل يكون من باب الكرامات الدالة على فضلِ مَن صدرت على يديه. وقد تكون هذه التفرقة بينهما – التي ذكروها – مأخوذةً من طبيعة مادة المعجز والكرامة. ولكن هذا القول على إطلاقه ليس بجيد، لأنّهم إن أرادوا بالتحدي أن يعلن الرسول حين إظهار المعجز على يديه، التحدي للمخاطبين، فهو ما لا دليل عليه، وإن أرادوا أن تكون طبيعته هي بذاتها تقتضي التحدي ولو لم يعلن الرسول ذلك، فهذا لا يفرق فيه بين المعجز والكرامة، لأن ظهور الكرامة تستلزم طبيعتها التحدي أيضاً وعدم استطاعة البشر أن يأتوا بمثلها. فإن كلا الأمرين خرق للطبيعة وقانونها. وقوانين الطبيعة ليس فيها ما يوجب اطرادها واستمرارها، ولا ما يحيل تخلّفها، أي أنّ اطّرادها واستمرارها واستحالة تخلّفها ليس من خواص الطبيعة ولا من شؤونها، وإنما ذلك من شؤون العقل وإدراكاته، والعقل هنا في باب قوانين الطبيعة لا يملك الحكم باستحالة تخلّف هذه القوانين أو خرقها، بل هو يجوّز ذلك. ولو كان تخلّف قوانين الطبيعة وخرقها مستحيلاً، لكانت هذه الاستحالة مطردة دون استثناء وفي جميع الظروف والأحوال، حتى يوم القيامة، ذلك لأنّ المستحيل لا يقبل التخصيص ولا الاستثناء. والله سبحانه أنبأنا في كتابه الكريم بتغيير كل القوانين الطبيعية وتبديلها في الأرض وفي السماء يوم القيامة، قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ...) (إبراهيم/ 48). فلو كان يستحيل تخلّف قوانين الطبيعة عقلاً، لكان ذلك مستحيلاً عقلاً يوم القيامة. لكن تخلّفها يوم القيامة غير مستحيل وممكن بل وواقع كما جاء في الخبر المعصوم. وهذا فرق بين قوانين الطبيعة التي يمكن تخلّفها ولا يستحيل خرقها، وبين طبيعة القوانين العقلية التي يستحيل تخلّفها، ويطرد دون استثناء مهما اختلفت الظروف والأحوال. فالوجود والعدم مثلاً يستحيل اجتماعهما في أي ظرف كان، فحكم العقل غير قابل للاستثناء. ومن هنا يسهل علينا فهم المعجز الذي هو خرق لقانون الطبيعة واستثناء من اطّراده، ما دام مبدع الكون والعالم هو الذي وضع قوانين الطبيعة وسنّ نظمها. وهو في الأثناء قادر – بحكم عمود قدرته – على أن يبدّل قانوناً بقانون، وأن يستثني زمناً معيّناً من اطّراد القانون. فكل ذلك من صنعه وواقع تحت سيطرته. وان كنا لا نعرف كيف يتم ذلك، ولكن يكفي أن نشاهد أثر هذا الاستثناء من عموم اطّراد هذه القوانين على يدي من اجتباه لرسالته ودينه. - معجزات نبينا (ص): إنّ المعجز الذي قدّمه نبي الهدى ورسول الإسلام نبينا محمد (ص) تأييداً لدعوته، قد كان من النوعَين معاً. أما المعجز غير المادي وهو المعنوي فهو القرآن العزيز الذي تحدّى الله به الناس جميعاً في عدة آيات، وقد أسهبْنا في الكلام على هذا النوع من الاعجاز القرآني في كتابنا (عقيدتنا) فليراجَع هناك. وأمّا المعجز المادي المحسوس فقد استفاض واشتهر كمعجزة انشقاق القمر، والشجرة وما إليهما، وهو الذي عليه معتقَد المسلمين جميعاً، عدا فئة من العلماء، أنكرت المعجزات المادية، انطلاقاً من غيرتهم على الإسلام، كي لا يكون ذلك سبباً لزيغ القلوب والشك في العقيدة، بدلاً من أن تزيدها إيماناً وتثبيتاً، وكي لا تكون مثاراً للطعن في العقيدة الإسلامية أو زحفاً للشك فيها من قِبَل كثيرين، ولأنّه لو كانت هناك معجزات من هذا النوع لذكرها الله سبحانه في القرآن الكريم، كما ذكر معجزات من سبقه من الأنبياء. وفي هذا الرأي حق وباطل، فيه حق حيث أن أكثر ما روي من المعجزات المادية ليس بقطعي الصدور ولا بمتواتر، بل طريق أكثرها أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن. وعلى هذا فإن ثبتت معجزة مادية بطريق قطعي فلابدّ من التصديق بها – تماماً – كمعجزات من سبقه من الأنبياء المذكورة في القرآن. وليس من شرط المعجزة ورود ذكرها في القرآن، بل الشرط ثبوتها الجازم، سواء أكان الطريق إلى ثبوتها القرآن أم السنة القطعية. وزحف الشك أو الزيغ إلى بعض القلوب بسببها لا يغيّر من حقيقة المعجز شيئاً بعد ثبوته بطريق جازم، وهو – تماماً – مزحف الشك أو الزيغ بالقرآن لبعض القلوب المتهاوية. وأما ما قالوه من عدم وجود مسلم واحد كان إسلامه وإيمانه بسبب معجزة مادية، فهو تجنّ على الواقع الذي يقرّه المؤرّخون وعلماء السيرة، وفي تاريخ الإسلام والرسالة شواهد عديدة على ذلك. ولو أنّ هؤلاء قالوا: إنّه لم يثبت عندهم من المعجزات المادية المحسوسة بطريق يفيد العلم والجزم، لكان قولهم هذا مقبولاً ومعقولاً. أما أنهم ينكرونها رأساً دون دليل مقبول، فهو ليس إلا استبعاداً ليس له أساس سوى الظهور بمظهر العقلانيين الجدد والتقرّب إليهم. وهذا ما نربأ بهم عن اختياره. والله سبحانه الهادي إلى الصواب. المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 13 و14 لسنة 1991ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق