ـ الأديان والمذاهب.. والدعوة:
إنّ انتشار الأديان والمذاهب متوقف أساساً على وجود دعاة أكفاء قد هضموا مفاهيم مذهبهم وفهموا مقاصد شريعتهم وبدون هؤلاء لا يمكن البتة لهذه الأديان وتلك المذاهب أن تغدو منهجاً تربوياً يقنن السلوك ويوضح الاختيارات اقتصادية كانت أو سياسية.
ـ منهجية المذاهب:
وقد قامت منهجية المذاهب في أغلب الأحيان على تخيلات فلسفية تحلم بالمدية الفاضلة وبالنعيم الأبدي سواء على أساس عرفي أو اقتصادي ولكن لا أحد منها على مر التاريخ حقق ما يصبو إليه الإنسان. فقد انتهى أغلبها إلى نتيجة سلبية تمثلت في زيادة بؤس الإنسان وشقائه.. وليس ذلك بغريب لأنّها نتاج عقول قاصرة وما يمكن للقاصر أن يحقق المثالية.
ـ الأديان.. ومنهجيتها:
والأديان جملة لا تفصيلاً، وكما أنزلت من الإله قد اعتمدت في منهجية دعوتها على الواقع الحياتي للإنسان ملتزمة في ذلك لين اللهجة في غير ضعف، هادفة إلى الاقناع في غير إكراه، فهذا موسى (ع) يؤمن بالذهاب إلى فرعون الطاغية بغرض هدايته إلى الصراط المستقيم. وقد ذكر القرآن ذلك في غاية الإيجاز والإعجاز حيث قال جل شأنه: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى...) (النازعات/17-18) وكذلك فعل عيسى (ع) لما جاء مجدداً للرسالة الموسوية فعلى الرغم من شدة معارضة اليهود له لم ييأس ولم يغضب بل قال فيما يروى عنه (إذا صفعك أحد على خدك الأيمن فقدم له خدك الأيسر) كل ذلك من أجل غرس الفضيلة في الأرض حتى يستطيع الإنسان الخليفة أن يؤدي المهام التي تحمل تبعاتها دون غيره من المخلوقات. أما الإسلام بحكم عالميته وشمول تربيته للمادة والروح فقد التزم منهجية واضحة المعالم بينة السبل فطرية النزعة سهلة المسالك يسيرة المفاهيم.
ـ منهجية الإسلام:
فإذا كانت الموسوية والمسيحية ديانتين خاصتين باليهود اقتضت الخصوصية وجود رجال قيمين على الدين فإنّ عمومية الإسلام وعالميته منعت أن يكون هناك رجال كهنوت بل اقتضت من المؤمن به قبل كل شيء الإيمان بالرب والرسول والرسالة ثم التطبيق العملي للتعاليم وفهم مقاصدها ومراميها ولهذا أوجب الله على رسوله (ص) قبل غيره الإيمان بالشريعة المنزلة عليه حيث قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (البقرة/ 285)، معنى ذلك أنّ الإسلام يشذب عمل كل من جعل من الدعوة سبيلاً للظهور أو للربح المادي. لأنّه عندئذ يصبح داعية لنفسه لا للدين الذي تسربل بمسوحه، لذا فالدعوة إلى غرس تربية إسلامية متزنة وشاملة تقتضي:
أ ـ ليناً من الداعي في غير ضعف وشدة في غير تزمت وتحجر، ويتم ذلك عن طريق تعميق جذور الأنمطة السلوكية الطيبة من مثل قول الرسول (ص): (الكلمة الطيبة صدقة) وفي هذا اليسر تحريك لدوافع الخير في النفس الإنسانية الباحثة دائماً عن الجزاء مهما كانت نوعية العمل الذي قدمته ويظهر هذا المسلك التربوي في منهج القرآن عندما تحدث عن الجنة وما فيها من جزاء من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا *وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا *وَكَأْسًا دِهَاقًا *لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) (النبأ/31-35) والدارس للقرآن يجد آيات الجزاء أكثر من آيات العقاب والردع. كل ذلك من أجل القضاء على نزعة الترهيب والخوف في نفس الإنسان حتى يقبل على أعماله وأمل الجزاء يحدو نفسه.
ب ـ صدقاً من الداعي ويظهر ذلك في التزام الداعي قبل غيره تطبيق التعاليم حتى لا يكون من قبيل قول الشاعر:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مُثْلَهُ
ج ـ معرفة بالظروف الاجتماعية والمستويات الفكرية في الوسط الذي تولى فيه مهمة التربية الإسلامية، حتى يكون لعمله مردود طيب ولا مردوداً طيباً إلا إذا عرف طريقة مخاطبة المستمعين فإذا أثر على الوجدان استطاع هذا أن يؤثر على الأنظمة السلوكية، فهل طبقنا نحن هذا في مساجد وشوارعنا وفي وسائل معاهدنا ودور ثقافتنا؟
ـ دور المساجد في غرس تربية إسلامية متزنة وشاملة:
لقد قام المسجد في الإسلام بدور طلائعي في تركيز الحضارة الإسلامية على دعائم ثابتة حيث كان مكاناً لدعم الجوانب الروحية كموطن للعبادة كما كان مكاناً لدعم الجوانب المادية كموطن للتربية والتعليم أما في وقتنا الحاضر فلا شيء من ذلك ألبتة وإذا أردت أخي أن تتحقق مما أقول فما عليك إلا أن ترتاد مساجد متعددة لتظهر لك الحقيقة جلية وواضحة. فخذ مثلاً يوم الجمعة الذي تكتظ فيه المساجد بالمصلين وأرهف السمع إلى خطبة الإمام فإنّك لن تجد واحداً من أئمتنا الفضلاء يحادث المصلين عن واقعهم الحياتي ومشاغل أسبوعهم وما يجب عليهم فعله من أجل إصلاح وضعهم وتنمية ثروة وطنهم وتقوية وحدة قومهم استمداداً من تعاليم الإسلام السمحة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الجاعلة الإنسان خليفة في الأرض من أجل تعميرها وتحقيق السعادة لساكنيها. بل تجد أغلبيتهم يتلون على مسامع المصلين خطباً قيلت منذ عدة قرون ولا تتعجب إن سمعت أحدهم يدعو قائلاً: (اللهم انصر جيوش الموحدين يا رب العالمين)، والآخر مردداً: (اللهم نصر جيوش السلاطين من آل عثمان)، والآخر مترنماً: (اللهم أهلك الكفار والصهيونيين وانصر عليهم جيوش أمير المؤمنين) إلى آخر ما هو معروف حتى أصبح محفوظاً لدى أغلب المصلين. إنّ منصب الإمامة من أدق المناصب في الدولة الإسلامية إذ ان هذا المكان لا يتولاه بعد الرسول (ص) إلا الخليفة أو مَن يعينه الخليفة من أهل العلم والمقدرة والصلاح والذكاء. فكيف يعقل أن يكون أئمتنا يعيشون في عصر غير عصرنا فيدعون لحكام قد كانت لهم الكفاية في دعوات أئمة عصرهم.
إنّ الإمامة أصبحت في مساجدنا وقفاً على المسمنين من المتقاعدين أو من غيرهم والذين لا يمتون بصلة إلى ميدان التربية والتوجيه ذلك أنّ الإمامة مهمة تربوية تقتضي العمق الثقافي والقدرة على الإقناع والاقتناع لا وظيفة تشريفية تسند هكذا بدون اعتبارات علمية.
إنّ عدم أداء الإمام لوظيفته يترتب عنه إعراض من طرف الشباب خاصة عن المساجد وفي إعراضهم يكمن فشلنا في عدم خلق شباب عامل بالقيم الإسلامية. فكم يسعد مجتمعنا بالطبيب المتدين العالم، وبالمهندس المسلم ذي الكفاءة العالية المبدعة في كل ما اتصل بحياتنا الصناعية.
ـ وسائل الإعلام ودور الثقافة:
بالإضافة إلى المسجد هناك وسائل الإعلام ودور الثقافة اللتان لهما دخل كبير في تبسيط المفاهيم الإسلامية والترغيب فيها. ولئن كانت إذاعتنا وتلفزتنا تقومان بدور يذكر فيشكر إلا أنّه لا يزال في طفولته سواء من ناحية المحتوى أو الإخراج. أما قضية ربط الدعوة الدينية بليلة الجمعة وبيومها فليس ذلك من الإسلام في شيء إذ أنّ الإسلام هو دين الحياة اليومية وليس بدين يوم واحد في الأسبوع أو بشهر واحد في السنة أو بيوم واحد في العام بل يجب أن تعمد وسائل إعلامنا ودور ثقافتنا إلى الإكثار من البرامج والمحاضرات التي تدعم قوى الخير في الإنسان وليست هناك وسيلة أنجع من ميدان التربية الإسلامية ذات التأثير الوجداني الإيجابي على الإنسان عامة وعلى النشء خاصة.
ـ ضرورة المراجعة:
ثم نأتي إلى بيت القصيد إلى الميدان الذي له تأثير أكثر من غيره ألا وهو ميدان التربية والتعليم فإلى سنوات قليلة ماضية كانت التربية الإسلامية تعتبر مادة ثانوية حتى نجدها تلغى من الامتحانات القومية إلا أنّه بفضل المخلصين من المربين عادت للتربية مكانتها من حيث مراجعة برامجها وضواربها أو من حيث بعث شعبة اختصاص كغيرها من العلوم الأخرى وهذا العمل يعتبر دعماً لأصالتنا وحفاظاً على انتمائنا ومقاومة لموجة التفسخ والفوضى التي عمت العالم بسبب رفض شبابه للقيم والمبادئ التي جعلت من المخلوق إنساناً.
ـ إقلاعنا الحضاري:
إنّ الحل الذي فيه خير ديننا ودنيانا يكمن في مزيد العناية بالتربية الإسلامية من أجل ربط النشء بواقع أمته حتى يكون ملتزماً بقيمها مدافعاً عن إنجازاتها مستمداً أفكاره من تراثها الحضاري. ولن تكون هذه العناية ذات مردود طيب إلا إذا اعتنت الدولة بالهياكل المشرفة على غرس هذه المبادئ السمحة في نفوس أطفالنا وطلابنا، نسائنا ورجالنا فبالنسبة للأئمة لابد من وضعهم تحت إشراف نظر ذوي الاختصاص ممن لهم نظرة شمولية للشريعة وأحكامها ومقاصدها. وبالنسبة لميدان التعليم فلابد من تطبيق الوسائل السمعية والبصرية حتى يكون درس التربية درساً جذاباً كغيره من العلوم الصحيحة. وبالنسبة لدور الإعلام فلابد من دراسة البرامج قبل بثها ونشرها بين الناس سعياً وراء إقبال الناس عليها. وبالنسبة لدور الثقافة والنشر فلابد من مراقبة المنشورات وخاصة المستوردة منها من الشرق أو من الغرب.
بهذا العمل المخلص نستطيع أن نخلق شباباً عقائدياً متزن السلوك واقعي النظرة يعمل جاهداً من أجل رفعة أمته وتقدمها.
المصدر: كتاب العقد الحضاري في شريعة القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق