• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق والقانون والنظام

أسرة البلاغ

الأخلاق والقانون والنظام

◄إذا كانت الأخلاق تشكل أحد الأسس والأبعاد في بناء العقيدة والعبادة، وباعثاً أساسياً في الواجبات الكفائية فإنها الأساس في تطبيق القانون والنظام في مجالاتهما الاقتصادية والسياسية.

فإنّ صفة الكرم والإيثار والإحساس الوجداني بآلام الآخرين (الرحمة والشفقة) والقناعة لها الأثر الكبير في تنفيذ القوانين ذات الطبيعة المالية، كالزكاة والخمس والحج والاستجابة لدعوة المشاركة في مجالات البر والإحسان، وإنقاذ المحرومين. فإنّ البخل والشح والقسوة، كما تحدث القرآن، وحب المال هي الدوافع الكامنة وراء تعطيل القوانين والأنظمة ذات الطبيعة المالية والاقتصادية، ومقارفة الربا والاحتكار وحرمان الآخرين ومنع الحقوق المالية والنفقة في سبيل الله.

وإنّ الكذب والنفاق والظلم الذي يمارسه السياسي المنحرف إنما يندفع بدوافع أخلاقية منحرفة. في حين تكون النوازع الأخلاقية الخيّرة هي وراء السياسة المستقيمة. فالعدل في الحكم والصدق والاستقامة في التعامل مع الآخرين عند ممارسة المهام السياسية، والالتزام بالعهود والمواثيق، إنّما تنطلق من دوافع أخلاقية سليمة، وإحساس وجداني مستنير.

وكما تساهم الأخلاق في مجالها الإيجابي في بناء المجتمع وتطويره من خلال العديد من الممارسات والأعمال الأخلاقية إلى جانب التشريعات والأحكام القانونية. فإنّها تساهم أيضاً في علاج المشاكل وحلها.

فالقرآن يدعو، وفي العديد من توجيهاته التربوية إلى تكوين الروح الأخلاقية التي تساهم في حل المشاكل والانتصار عليها أخلاقياً، دون اللجوء إلى القانون والعقاب، وعندما تسود هذه النزعة الأخلاقية نزعة التسامح والعفو، يتم القضاء على الكثير من مناشىء النزاع والخلافات، وحالات الاضطراب الأمني في المجتمع.

وللاستنارة بهذا الهدي القرآني العظيم ننقل بعض النصوص القرآنية المتحدثة عن هذا المجال الأخلاقي الفذ.

قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).

وقال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37).

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).

وهكذا يتعالى الموقف الأخلاقي على الموقف القانوني، فالقانون بمعالجته الأولى للمشكلة، كمشكلة القتل والجرح والاعتداء يرتب العقاب والقصاص على أساس الحقِّ والعدل، غير أنّ الشريعة الإسلامية تدعو صاحب الحقِّ إلى التسامي الأخلاقي لإفشاء روح الحب والتسامح والعفو في المجتمع والحيلولة دون حصول الانتقام والكراهية، وتطلب منه العفو، وتوضح أنّ العفو أقرب للتقوى، فهو تسامي، ورقي أخلاقي كبير.

وقد خوطب الرسول الكريم (ص) بهذه الآية: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).

خوطب بها كما ذكر المفسرون في أسباب نزولها، بعد شهادة حمزة بن عبدالمطلب، عمّ النبيّ الكريم محمد (ص) في معركة أحد. فمثَّلت به قريش على يد هند زوجة أبي سفيان بوحشية وفضاضة فهدد النبيّ (ص) أولئك المجرمين القتلة بالعقاب والانتقام. فأنزل الله سبحانه هذه الآية توضح أنّ صاحب الحقِّ من حقه أن يعاقب، ولكن بمثل ما وقع عليه من عدوان، وأنّ العفو، وترك العقاب هو درجة أسمى.

لذا قال الرسول بعد نزول هذه الآية الكريمة: "اعفو" فعفى عن القتلة والمعتدين. وضرب أعلى مثل أخلاقي في تاريخ الحروب والسلم.

ارسال التعليق

Top