إنّ تفسير الآية يعتمد على تحديد معاني مفرداتها القرآنية، بعبارة أُخرى أنّ تصوراً عاماً لمفردات الآية يجعل من السهل بمكان بيان هذه الآية المباركة، وتفسير الجملة العربية بحاجة إلى هذا البيان اللُغوي أو التوضيح الاصطلاحي لهذه المفردات.
والبلاغي وإنْ كان وفيّاً لطريقته في الاختصار، لكن ذلك لم يمنعه من عرض البيانات اللغوية والتوضيحية للمفردات. وقد كانت للمفسر طريقة واضحة في مثل هذا التناول يمكن بيانها على نقاط:
1- كان للبلاغي اهتمام واضح بالألفاظ، وله عناية كبيرة بالتركيب العام للآية، لكنه لم يعرّف بألفاظ الآية جميعها حين تكون واضحة ولا حاجة لبيانها، فقد يعرض للمفردة من الناحية اللغوية، وأحياناً لمفردات أُخرى يعرض لمعانيها الاصطلاحية، ففي معنى (تَحسُّونهم) من قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ...) (آل عمران/152).
أي تقتلونهم بنصر الله ومشيئته. وفي التبيان، الحسن: هو القتل على وجه الاستئصال. وفي النهاية، حسوهم بالسيف حساً استأصلوهم قتلاً، وفي الكشاف، تقتلونهم قتلاً ذريعاً. وعلى هذا يدور كلام اللُغويين في كتبهم. قال صلاءة بن عمرو:
نفسي لهم عند انكسارِ القَنا وقد تَردَّى كلُّ قِرنٍ حَسيس1
كذلك ي معنى (الكلالة) يقول البلاغي: عن الفراء، الكلالة، ما خلا الوالد والولد سموا كلالة لاستدارتهم بنسب الميت الأقرب فالأقرب، من تكلله الشيء إذا استدار به، فكل وارث ليس بوالد للميت ولا ولد فهو كلالة مُورَثة. كما نقل معناها أيضاً عن التبيان والصحاح والكشاف2. فضمن ما يستند عليه من مصادر هي كُتب أهل اللُغة والتفاسير التي تهتم بالجوانب اللغوية للمفردات كالتبيان والكشاف ومجمع البيان3.
ومن جهة أُخرى يُبين المفسّر هذه المفردات من غير المصادر اللغوية، فهو يعرض لمعانيها غير اللغوية، وبالتالي تُعينه على بيان الآية المراد تفسيرها4.
2- يهتم المفسّر ببيان معاني هذه المفردات حين تكون غريبة، أو تسبب غموضاً أو توهماً أو اختلافاً، من جهة أُخرى فهو يدقق ويمعن في التمييز في اللفظة لبيان مؤداها القريب والظاهر المتبادر منها، ففي معنى (فتيلاً) من قوله تعالى (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا) (النساء/77) ذكر البلاغي مقدار الفتيل وهو في تفسير القُمي: القشر على النواة، وفي التبيان الذي في شق النواة، وكذا في المصباح والنهاية، وذكر في الدرر أنّه الذي في شق النواة. وعن ابن عباس ما فرج بين الإصبعين أي من الوسخ والغرض من ذكر الفتيل هو قلته وحقارته5. كذلك حين تكون المفردة فيها من الاستغلاق ما يدعو لبيانها كما في معنى (يستحيون) من قوله تعالى (..يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) (البقرة/49). فكأنهم بتركهن طلبوا حياتهن.
كذلك اللفظة حين تكون غريبة كقولهم (راعنا) في (..لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) (البقرة/104). فقد تتبعها البلاغي في كتبهم، أي كُتب أهل الكتاب. فوجدها تعني الشرّ والقبيح، وتسمى عندهم (قامص) كما في العهد القديم العبراني، وفي الفصل الثاني والثالث من السفر الأول من التوراة، وفي الفصل الأول من السفر الخامس وغيرها، وراعنا في العربية فسّرها في التبيان (استمع منا ونستمع منك) وقد نُهي المؤمنون عن قول ذلك لرسول الله (ص) لئلا يتخذها اليهود في خطابهم لرسول الله (ص)وسيلة لسبه والطعن في الدين6.
من جهة أُخرى فهو يميز ويمعن في التمييز بين بعض الألفاظ حين تدعو الحاجة لذلك، كما في (العدل والقسط)، يتتبع البلاغي موارد استعمالها ليحدد الفرق بينهما7، كذلك في الريب والشك والجحود8.
3- اهتم البلاغي بمعالجة التوهم الظاهري الذي يعترض نصّ الآية، ويأتي هذا الاهتمام والحرص على حفظ ظاهر النصّ باعتباره حجة لدى المفسر، ويؤكد أن صريح الكتاب المنزل ومحكمه وبيناته لا تبقي مجالاً للتوهم، فلم يختلفوا لخفاء دلالته وإشكالها، بل وقع الاختلاف بغياً حاصلاً بينهم، وانحرافاً من بعضهم عن الحق، وزيغاً إلى البغي ليموّه الباغون أمرهم بالتشبث بالمتشابهات. وهناك الكثير من الأمثلة على هذا النوع من الاهتمام، نسوق منها للتوضيح:
في قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (البقرة/61)، فهل هناك قتل للنبيين بحق؟ يقول البلاغي:
والصفة اللازمة لقتل النبيين كونه بغير حق كقوله تعالى: (لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) (المؤمنون/117) في قوله جلّ شأنه (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (المؤمنون/117). وكذلك في نسبة الشقاء لآدم في قوله تعالى: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه/117). وذكر البلاغي: أي تقع في الشقاء العيش ومشقته، وتؤكد دلالة السياق على ذلك أنّه نسب الشقاء إلى آدم دون زوجته نظراً لما جرت به العادة في الأرض للرجل9.
4- ويهتم ببيان معاني بعض الألفاظ حين يتوقف عليها المعنى في الآية، ويكشف عنها بمقدار ما يعين على المعنى، لكن قد يفصّل في هذا البيان لمفردة معينة حين يكون ثمة خلاف أو حاجة تدعو لمثل هذا التفصيل حتى ولو على سبيل ذكر أقوال عديدة في المفردة10.
فهو يوجز في بيان المفردات فيكتفي في معنى (التلقي) من قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...) (البقرة/37).
أنّه أخذ آدم للكلمات من الله باستقبال وقبول وتعلم وعمل وفي معنى (الهدى) من قوله تعالى: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/38). ذكر أنّها الرسالة والآيات ودلائل الحق11.
5- ويستعين أحياناً في بيان المفردة القرآنية ـ إضافة إلى كتب اللغة والتفاسير والآيات القرآنية المباركة ـ بالروايات مؤيداً إياها بما ورد من الشعر العربي القديم.
ولم يكتف البلاغي بذكر المعاني والأقوال في المفردة بل غالباً ما يرجح بين هذه الأقوال حين تدعو الحاجة لمثل هذا الترجيح.
ففي معنى (الفتنة) من قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة/193). قال البلاغي: في التبيان، الفتنة: الشرك وهو المروي عن أبي جعفر ثم علق على ذلك: ولعلّه باعتبار أنّه بسبب الافتتان إذ يسبب الضلال ويصرف عن الحق كقوله تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة/49).
كما يستفاد من الآيات الست التي ذكرها، والروايات عن الرسول (ص) وأئمة أهل البيت: في تحديد معنى (حق تقاته) من قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران/102). فبيّن أنّ معنى حق: هو ما يحق ويليق بجلاله من تقاته، ثم يذكر لذلك المعنى الروايات لينتهي إلى: حق تقاة العبد لله أن يتقيه في جميع ما ألزمهُ به12.
وفي معنى (ذات) من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (لقمان/23) أيّد ما اعتمدهُ من معنى بالشعر العربي القديم.
6-وفي ترجيحه للأقوال في معاني المفردات ذكر في معنى (الفاحشة) من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران/135). معناه عن المصباح والقاموس والنهاية ثم علق عليها بقوله: والأظهر في الآية استعمال الفاحشة في مطلق المعصية الفاحشة في قبحها13.
وفي قوله تعالى: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) (آل عمران/127).
وفي معنى (يكبتهم) عرض أقوالا من المصباح والنهاية والقاموس والتبيان والكشاف وعن الفراهيدي، ثم مال إلى معنى أقرب ما يكون مما قاله الخليل14.
تجدر الإشارة هنا أنّ موقفه من آحاد اللغويين لم يكن مستعبداً بهم ولا مقلداً لآرائهم، فالقرآن الذي أُنزل على أفصح لغات العرب، وأكثرها تداولاً لم تخف معاني مفرداته على العرب إلاّ نادراً كما في كلمتي (أبّاً وقضباً) لكن بعد أن دخلت أقوام في الإسلام وتشرفت به، وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمن، عرض لبعض الألفاظ المألوفة آنذاك أن صارت غريبة حتى أصاب ذلك الخواصَ، وهنا يشخص البلاغي الفصل بين اللغة الأصيلة والمولدة، ومن أجل معالجة الموقف يطرح التصور التالي:
في تفسير مفردات ألفاظ القرآن الكريم يجب الرجوع إلى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية، والتدبير في موارد استعمالها مما يعرف أنّه من كلام العرب ولغتهم ويضيف: أنّ للتدبير في أسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلاً كبيراً في ذلك، وضرب نعى على اللغويين خلطهم للحقيقة بالمجاز، وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال، وضرب لذلك اضطراب اللغويين في تفسير معنى (اللمس والمس) كذلك اضطرابهم في معنى (التوفي)15وقد طبق البلاغي القاعدة في كيفية الاستفادة من معاني المفردات، فتتبع موارد استعمال اللفظة في القرآن وعند أهل اللغة، دون أخذ ساذج عن آحاد اللغوين.
الهوامش
1- آلاء الرحمان/1/356-357، النهاية 1/385، الكشاف 1/427 والدر المنثور 2/247، لسان العرب 6/52، مجمل اللغة 2/10، معجم مقاييس اللغة 2/9، تاج العروس 4/129.
2- آلاء 2/27-28، وانظر التبيان 3/133، 135، 1362، ولسان العرب 11/592، المصباح المنير 2/227 وتاج العروس 8/101، الصحاح 5/1811، ومجمع البيان 3/28،136، الكشاف 1/485، والكافي 7: 99/ 2،3، التهذيب 9: 319/146، ومعاني الأخبار ص:272، المستدرك 4/336، الموطأ 2/507، 515.
3- وانظر آلاء 1/331،356،357،237،242،76.
4- اُنظر آلاء 1/228-229 (معنى الطاغوت) وصفحة 262-263 (معنى التزيين).
5- آلاء 2/143، واُنظر تفسير القمي 1/140، وتفسير التبيان 3/221، المصباح المنير 2/132، النهاية 3/409 والقاموس المحيط 4/28، الدر المنثور 2/561.
6- آلاء 1/113-114- وانظر تفسير التبيان 1/388-389، القاموس المحيط 4/337، النهاية 2/236، اُنظر آلاء 1/157،168،97،233،234.
7- آلاء 2/6.
8- آلاء: 1/190،353،372.
9- آلاء: 1/86 ـ آلاء 1/233.
10- آلاء 2/27-28، كما في معنى (الكلالة) كذلك اُنظر 2/12.
11- اُنظر آلاء 1/88،87،57،59،234،88.
12- آلاء 1/321،201-202،318،316،317،195،216، انظر الدر المنثور 2/283 تفسير الطبري 4/20، تفسير ابن كثير 1/388، تفسير التبيان 2/543، مجمع البيان 2/805، للزيادة انظر آلاء 1/35-36 في (التوفي واللمس والمسّ) 11/309 في معنى التوبة 1/270 في معنى الإيتاء.
13- آلاء 1/343، وانظر النهاية 3/415، المصباح المنير 2/134، القاموس المحيط 2/293.
14- آلاء 1/340 وانظر تفسير التبيان 2/583-584، مجمع البيان، 2/831، الكشاف 1/412، المصباح المنير 2/208، النهاية 4/138، القاموس المحيط 1/161، العين 5/342، وللزيادة اُنظر آلاء 1/110،109،97،194،254،302،339،302،306، آلاء 2/61،136-137.
15- آلاء 1/32-33.
المصدر: مجلة قضايا إسلامية/العدد الثاني سنة 1995
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق